السبت، 23 أكتوبر 2010

تقاطعات الطقس الديني الاسلامي والمسيحي

ترتسم سبل النجاة والسعادة الانسانية في الاسلام والمسيحية، من خلال اتباع منهج شامل، يستوعب وجود الانسان وكيانه داخليا وخارجيا. ويتجلى في شكله الداخلي من خلال الايمان القلبي بعقيدة معينة يتم التقيد بقواعدها في السلوك والأخلاق. كما يتجلى خارجيا من خلال القيام بمجموعة من الممارسات الدينية والطقوس والشعائر. وقد هدف الطقس في كل من الديانتين إلى ايجاد وصلة وحالة تطابق بين ما هو داخلي فيهما وما هو خارجي، ولهذا كان ممارسة الطقوس بعيدا عن محتواها ومعناها منبوذا في كل من الديانتين، إذ ما لم تقم الطقوس بتأدية الدور الأصلي المطلوب منها، فإنها ستنقلب صنمية جامدة تنعكس سلبا على الحياة الروحية للفرد والجماعة. وما التعصب الديني والانغلاق والعداء إلا نتائج مباشرة لمثل هذا الفهم الصنمي. وعليه فالمهم هو أن تنبع العقائد والطقوس من القلب، ولا يكاد يخلو دين من الأديان التوحيدية أو غيرها من طقوس يمارسها أتباع ذلك الدين، وقد تتشابه هذه الطقوس في بعض الوجوه الخارجية، إلا أن هذا التشابه لا ينبغي أن يغفلنا أوجه التمايز والتباين التي تعتور الطقس على أكثر من صعيد. وهذا ما سنلمسه من خلال مقارنة طقوس المسيحية بما يقابلها في الاسلام إن وجد، على أن نكتفي في العرض بما يتأدى به الغرض ويفصح عن أوجه التباينات الأساسية القائمة بين الديانتين في هذا المجال، مع الإشارة إلى موقع الطقس في البنية الكلية للدين.

فلسفة الطقس وغاياته

تعتبر الخطيئة في المسيحية مرتكزا محوريا في فهم الطقس، فالمسيحية تصوّر الانسان على أنه كان يحلم بالاستقلال عن خالقه، وبقطع الرباط الذي يجمعه به. ولا نجد تعليلا واضحا لهذا الجموح البشري المندفع بعيدا عن الساحة الإلهية سيما أن الانسان قد خلق على صورة الله تعالى كما تقر بذلك المسيحية نفسها، وربما لأجل ذلك اعتبر الإنسان أن المحبة التي تجمعه بالله تشكل قيدا له، ومهما يكن فقد أراد أن يحطم هذا القيد بفصم شركته عن الله، هنا سقط الانسان في الخطيئة. وقد أتقنت المسيحية في إظهار نتائج هذا الانحراف الخطيرة والتي لا تقتصر على النفس الخاطئة وحدها، بل يضاف إلى انثلام الحقيقة الانسانية متمثلة بثورة الأهواء على العقل، والغرائز على الإرادة، ونشوء الأمراض، وتحتّم الموت. انثلام الوحدة الاجتماعية بين البشر، لأن الابتعاد عن الله (الذي يوحد بين البشر) بسبب اقتراف الخطيئة سوف يؤدي إلى إبتعاد الانسان أيضا عن قريبه الانسان. وأخيرا انثلام العلاقة بين الانسان والطبيعة التي تمردت عليه. وحيث أنه لم يعد بإمكان الانسان النهوض بنفسه، فإن المحبة الالهية لن تدعه طريدا خارج أسوار عدن، والنتيجة فقد أراد الانسان أن يتحرر من إسار القيد وابتعد بذلك عن الله. وفي المقابل، فإن الله بمقتضى محبته، سوف يتقيد بهذه الأغلال التي اختلعها الانسان، ومن خلال التجسد سوف ينكشف سر الغفران على شكل اختبار ايماني تتطهر به النفس من الخطيئة الموروثة، واختبار كلمة الله المتجسدة، هو ما يحصل من خلال القيام بالطقس. إذن، يرتبط الطقس في المسيحية بالخطيئة ارتباطا وثيقا، وبذلك تكون الغاية من ممارسة الطقس هي التطهر والتنقية. وأما في الاسلام فلا ينطلق الطقس على قاعدة تنظيف النفس وتطهيرها من الخطيئة استعدادا للدخول في الفردوس المفقود، وإنما ينهض بدور احترازي يقي صاحبه من السقوط في الذنوب والمعاصي. كما يؤسس لعلاقة طيبة مع الله (الطاعة) تجعل الانسان مؤهلا للفوز بالجنان، فهو يضطلع بدور أساسي يتمثل بسلوك طريق التكامل البشري، والذي يتم من خلال أداء حق العبودية لله تعالى، بل يمتد دوره إلى أبعد من مجرد العلاقة الشخصية المؤسسة لمسيرة الانسان نحو الله تعالى، فيشمل صلاح المجتمع البشري بما يتضمنه من مصلحة الجماعة وخير الإنسان. والخطيئة في المسيحية قد يرتكبها الشخص نفسه فعليا، وقد يرتكبها الغير (آدم) وراثيا، فتتلوث بها النفس. والطقوس ما هي إلا عملية تطهير للنفس من تلك اللوثات. وعملية التطهير أيضا قد يقوم بها الشخص نفسه (طلب الاعتراف) وقد يقوم بها الغير (طقوس يجريها الكاهن). وعليه، فالإنسان حتى ولو لم يرتكب خطيئة بنفسه، فهو يحتاج إلى الطقوس التي تساهم في تنظيفه من الخطيئة الموروثة، وغفران ذنوبه، وتنقية قلبه، وتثبيت روحه، والتخفيف عنها. وفي الإسلام لا توجد خطيئة غيرية، فـ (كل نفس بما كسبت رهينة)، كما لا تقوم الطقوس في عملها كما لو كانت جرعات تعطى للمرضى بصورة آلية تلقائية، وكوصفة جاهزة مسبقا. أما كيف ترتبط الطقوس بالتطهر، وما هي الأشكال الدينية التي من خلالها ترمز الطهارة الجسدية إلى تنقية الروح، فقد تباينت السبل المؤدية إلى ذلك في الاسلام والمسيحية كما تنوعت الغايات. فالعماد في المسيحية والمسح بالزيت، يمنحان الغفران وينظفان النفس من الخطيئة الأصلية، وقد يقرن البعض العماد في المسيحية بالوضوء في الاسلام، بصفتهما من أفعال التطهر، إلا أنه ليس الغرض من الوضوء عند المسلمين هو نفسه الغرض من العماد، بل ان الوضوء سبب للطهارة الجسدية والمعنوية والتي تكون مقدمة للعبادة، فلا يراد بالوضوء تحقيق الغفران واسقاط الخطيئة، بل هو يعدّ العباد للدخول في العبادة والحضور بين يدي الله تعالى بصرف النظر عن كونهم خاطئين أم لا.. ومن طقوس التطهر في المسيحية المناولة، والمناولة تعقب التقدمة، والتقدمة تعود إلى ما قبل المسيحية، ففي الديانة البعلية السورية كانت التقدمة من الحيوان أو الثمار، وفي المسيحية صارت التقدمة رمزا ينوب عن المسيح: فالخبز يمثل جسده والخمر دمه. وهو، في نظر المؤمنين به، حَمَلُ الله الذي مات على الصليب لكي يرفع خطايا الناس. وتتويج الخدمة الإلهية (القداس) في المسيحية يتم بالمناولة، أي بأكله من ذلك الخبز وشربه من ذلك الخمر طلبا لمغفرة الخطايا وسعيا إلى تأسيس عهد جديد في حياته، يخلع فيه الانسان القديم، آدم، الذي سقط من الفردوس، ويلبس الانسان الجديد، يسوع المسيح، الذي استعاد للإنسان فردوسه المفقود. والطواف حول الكعبة في الحج سبع مرات، هو طقس اسلامي يواكب ذكرى الأضحى وهي تعبير عن تضحية ابراهيم (ع) بابنه اسماعيل، وتضحية اسماعيل بنفسه، استجابة لأمر الله تعالى، وحين يقوم المسلم بالطواف في الحج ويؤدي شعائره ويذبح.. فإنه يضع كل شيء في حياته تحت يد الله، ويتقدم إليه بخضوع وخشوع تامين، وهكذا تغدو الذبيحة وسيلة لنقاء القلب واستقامة الروح وتجديد النفس. وعليه، يتضح مما تقدم أن الغاية الإيمانية التي يفيدها الطقس في المسيحية هي إحدى الأمور التالية: منح الغفران، تنظيف النفس من الخطيئة الأصلية، استنزال مواهب الروح القدس، تقوية الحياة الروحية، وتعزية النفوس والأجساد. وأما الطقوس الاسلامية فهي تفصح عن غايات مختلفة يمكن إجمالها بالتالي: تحصيل كمال النفس الإنسانية، اصلاح الفرد والمجتمع، استمطار الرحمة الالهية، نيل سعادة الدارين.
الطقوس وأوجه التباين
الطقس الديني في المسيحية سر، والسر صلاة، وقد أطلق على الطقوس اسم "أسرار الكنيسة" أو "أسرار البيعة"، وأسرار الكنيسة سبعة:
1. المعمودية: وهي بأن يسبغ الكاهن (أو أي شخص غيره عند خطر الموت) الماء فوق جبهة المعمود قائلا: اني أعمدك باسم الآب والابن والروح القدس. ثم يلبسه حلة العماد البيضاء التي تكسو الرأس والجسد ويعطيه اسما يعرف به. ويصرف ماء العماد إلى الأرض الزراعية النظيفة. والمعمودية تنظّف النفس من الخطيئة الأصلية (الموروثة من آدم). فالتدين في المسيحية طقس يؤديه الكهان لصالح الغير، وبمجرد أداء الطقس والانتهاء منه يصبح هذا الغير وبشكل تلقائي من أتباع المسيح، وقد يختار الإنسان هذا الطقس (كما في البالغ المختار) وقد لا يختاره (كما في الطفل)، وفي الحالة الأخيرة يعتبر إجراء الطقس بحق غير البالغ في نظر الاسلام نوع من التحكم المسبق في إرادة التدين لدى الشخص، ومن هنا كان الاختيار الجدي للدين في الاسلام موقوفا على سن معينة تسمى بسن البلوغ، حيث يختار الانسان دينه بملء ارادته واختياره، فيتأهل بذلك لتحمل مسؤولية اختياره، بعيدا عن الإيحاءات الخارجية الضاغطة والتي من خلالها يتم السيطرة على مشاعر الانسان وصياغته نفسيا وبرمجته روحيا منذ نعومة أظفاره بحيث يجد نفسه تلقائيا في حالة الانتماء الديني الجاهز والمسبق. وعليه فالاسلام يرفض كل أشكال التحكم المسبق بمصير الانسان، نفسيا وروحيا، بحيث يؤدي ذلك إلى استلاب شخصيته الدينية وشل قدراته الاختيارية وبناء القناعات المسبقة والمعدة سلفا. وترتسم من خلال النص المتقدم جملة تباينات أخرى تتفاوت النظرة إليها بين الديانتين: أ - ففي الاسلام ليس ثمة خطيئة أصلية موروثة، بل يولد الانسان على الفطرة التي فطره الله عليها، وهذا يعني أنه يولد نظيفا من كل خطيئة وأثم. ب - والخطيئة في حال حصولها لا تتجاوز صاحبها إلى غيره، وهي لا تحصل إلا من البالغ العاقل المتعمد لاقترافها، وتغفر بإقدامه على التوبة. فلا يؤاخذ الانسان بما ارتكبه الغير، (لا تزر وازرة وزر أخرى)، كما لا يتوقع الحصول على الغفران من خلال الطقوس التي يقوم بها الغير بشكل تلقائي. ج - والاسلام يتحقق بالشهادتين على الأقل، والناطق بهما يقصد ما يقول. وأما الطفل فهو، فقهيا، تابع لآبائه، ويكفي أن يعتنق أحدهم الاسلام حتى يتبعه الطفل فيه، والمسيحية لا تخضع لهذا النظام بل تعتبر الطفل مسيحيا بمجرد تعميده. د - الاسلام يجل الأنبياء عن اقتراف الذنوب.
2. سر التثبيت: وهو يتم في حفلة خاصة على يد اسقف المنطقة، فيدهن جبهة الطفل بدهن الميرون (مزيج من البلسم وزيت الزيتون سبقت مباركته بيوم الخميس السابق لعيد الفصح) وبرسم صليب عليها قائلا: "أُسِمُك بوسم الصليب وأثبتك بميرون الخلاص باسم الآب والابن والروح القدس". ثم يصفعه على وجهه صفعة خفيفة تذكيرا بما قد يعترضه من المصاعب من أجل محبة المسيح. وخاصية سر التثبيت هي أن يقوي الحياة الروحية في المعمود، وأن يستنزل عليه مواهب الروح القدس جميعا. هذا وتشترك الأديان في أصل الطقس، كما تشترك في ضرورة أن يلتفت المؤمن إلى ما وراء الطقس من غايات ايمانية، وإلا فالطقوس القشرية قد لا تنفع ان لم تكن وبالا على أصحابها. وسر المعمودية والتثبيت يلقيان الضوء على علاقة الطفولة بالدين، ومدى قابلية الطفل للتدين الحقيقي، وهذا أمر لافت في مجال المقارنة بين الديانتين الاسلامية والمسيحية، فالطفل بمجرد أن يعمد يصبح مسيحيا متدينا، وبعد ذلك يقوم سر التثبيت بتقوية الحياة الروحية فيه، والاسلام يستحب بعض الأعمال التي يقوم بها الآباء تجاه الأطفال المولودين حديثا، كالآذان الإقامة في آذانهم، والوليمة.. ولكن المسافة بين ما يدعو إليه الاسلام من خلال هذه الأعمال، وما تدعو إليه المسيحية يبقى شاسعا، كالمسافة التي تفصل بين الواجب والمستحب. وإسماع الطفل المولود صوت الحق (الآذان والإقامة) لا يعني أنه أصبح مسلما حقيقة، بل يتبع آباءه ويعامل كما يعاملون إلى أن ينشأ ويبلغ ويختار بكامل إرادته ووعيه الدين الذي يتناسب وقناعاته المسؤولة. والاسلام وإن كان يهدف بهذه الأعمال إلى إعداد الانسان بحيث يصل إلى الدين مع نضوج شخصيته، لا قبلها،، إلا أنه لا يستبق إرادة الانسان أو يستلب قدرته واختياره بل يلح في إفساح المجال للإنسان كي يتحكم بمصيره ويتحمل مسؤولياته في ذلك على ضوء ما يرشده إليه عقله السليم وفطرته القويمة. وهو يحترم الانسان شكلا ومضمونا وتعبيرا حين يرسم له طريق سلوك العبادة، فلا صفعات تذكيرية أو جرعات تهديدية.
3. سر القربان: وهو سر أسرار، وبه يدخل المسيح ذاته (عجائيا) إلى جسد المؤمن الذي "يتناوله"، بمعنى يأكله، تحت أعراض الخبز والخمر، وذلك لمغفرة الخطايا أي لتغذية الروح، ومن واجبات كل كاثوليكي أن يتناول القربان المقدس على الأقل مرة في السنة في موسم عيد الفصح. أو إذا كان في خطر الموت. ومن شروطه أن يكون المرء تائبا عن خطاياه، صائما عن الطعام والكحول قبل ثلاث ساعات إلا إذا كان مريضا فلا تلزمه هذه الفريضة بالصوم. وفي الاسلام شُرِّعت العبادات بسبب ما تحتوي عليه من مصالح للعباد، دنيويا وأخرويا. ولا نكاد نجد في الاسلام طرقا خاصة غير مألوفة عقلائيا لتحصيل الغفران، فإن في الكف عن الطعام والشراب في أوقات معينة استشعار بحال الفقراء وتذكير بصعوبات يوم الحساب مما يدعو لتلافي تلك الأخطار بالتوبة والعمل، ودعوة إلى التآزر الاجتماعي وأمثال ذلك من غايات عقلائية تقوي من رصيد الصوم كعبادة يصح التقرب بها إلى الله تعالى. وقد يكون في الصلاة رقي روحي للمصلي: (الصلاة معراج المؤمن)، وصلاح للمجتمع: إذ الصلاة تؤثر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الرصيد يضاف إلى الصلاة ويجعلها مرضية لله تعالى. وهكذا سائر العبادات في الاسلام لا تخلو من وجوه عقلائية ومصالح للعباد بها يتقربون إلى الله تعالى، وهذه ميزة الاسلام في عباداته، أما مجرد تناول بعض المأكولات كطقس ديني، واعتبار ذلك سببا لمغفرة الخطايا بدون ان يكون لذلك مبرر عقلائي فهو ما يرفضه الاسلام ويتميز به عن غيره من الأديان بشكلها الراهن. فلا نجد في الاسلام طقسا عباديا يرتبط بتناول الطعام، وهذا غير إطعام الطعام. نعم يجب في أوقات معينة، كما في العيدين الأضحى والفطر، الإفطار وعدم الصوم، ولكن ذلك إنما يكون تعبيرا عن اظهار السرور بالعيد الذي يعني اسلاميا التوفيق إلى العبادة (انما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه).
4. سر التوبة: يشمل الاعتراف للكاهن (في خلوة) بالخطايا التي ارتكبها المعترف ضد وصايا الله والكنيسة. وينال "الحلّة" التي تغفر خطاياه، بعد أن يفي القانون المفروض عليه من ذلك الكاهن بشكل تعويض زمني (كالنوافل والصدقات والأصوام والامانات الجسدية..). وقد اعطى المسيح لتلاميذه هذه السلطة: "من غفرتم خطاياهم غفرت، ومن امسكتموها امسكت". والغفران في الاسلام لا يتهيأ إلا بمقدار ما يساهم الانسان نفسه في تهيئة مقدماته العملية، والعمل الصالح المصحوب بالإيمان هو الأساس في هذا المجال، فالإنسان هو الذي يحدد نجاته أو شقاءه (كل نفس بما كسبت رهينة)، وأما أعمال الآخرين فيمكن أن تكون من العوامل المساعدة التي تلطّف بها المولى على عباده ليسهم في نجاتهم، كما هو الحال بالنسبة لعبادات الأبناء التي ينوبون بها عن آبائهم، بل كل عمل صالح يهب الانسان ثوابه لميت، وكموضوع الشفاعة، وحسن الظن بالله وأمثال ذلك، فهذه الأعمال انما شرعت بمقتضى الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نخلط بين الديانتين، بحيث نعتقد أن الغفران والنجاة يتحققان تلقائيا بمجرد قيام الغير بطقوس معينة من أجلنا. بل إن أعمال الانسان نفسها لا تقوى على نجاة صاحبها إلا بعد أن تخضع لعامل التنزيل الإلهي، حيث ينزّل العمل القليل منزلة العمل العظيم، فيعطى عليه من الأجر أضعاف مضاعفة، (من تقرب إلي شبرا أتقرب منه ذراعا)، والمهم في كل ذلك أن يكون العمل صادرا من الانسان نفسه، لا من الغير. أو على الأقل أن يكون الانسان قد أعد نفسه لتقبل المغفرة من خلال التورع عن ارتكاب المحرمات، وإلا فصكوك الغفران لا تعطى مجانا في الاسلام. ومن جهة ثانية فان الاعتراف في الاسلام لا يكون إلا لله تعالى، (إذا بليتم بالذنوب فاستتروا)، فليس ثمة وسائط تمنع مباشرة العبد لله في باب الرجاء والتوبة، وأي حديث عن الوسائط في الاسلام لا يتجاوز في جملته موضوع الرحمة والتسهيل، وإلا فلا وسائط تحول دون مباشرة العبد للعلاقة مع الله تعالى.
5. المسحة الأخيرة: تعطى للمحتضرين، أو للأصحاء الذين يخشون خطر الموت، وذلك تعزية وتقوية للنفوس وللأجساد. وقوامها أن يسمع الكاهن اعتراف المريض، ويزوده بالزاد الروحاني (أي القربان المقدس) في رحلته إلى خارج هذا العالم، ثم يمسح بالزيت مناطق حواسه الخمس مع تلاوة أدعية خاصة، وأخيرا يمنحه غفرانا أبويا كاملا. وهذا أمر نلحظه في كافة الأديان التوحيدية عموما، حيث تترافق مرحلة الاستعداد للموت مع بعض الأعمال التي تساهم في التخفيف عن المحتضر وتأمين راحته النفسية، (كتلقين شهادة الموت، وكلمات الفرج.. في الاسلام). ولكن يبقى التمييز بين الأعمال التي تؤدي إلى مجرد التخفيف والترويح، والأعمال التي تؤدي إلى غفران الذنوب، قائما وضروريا. مع التأكيد على أن هذه الأعمال المستحبة قد لا يقتصر دورها على التخفيف فحسب، بل يمتد إلى مجال الحصول على الغفران إن كان المحتضر قد أعان على نفسه بالعمل الصالح والتورع عن ارتكاب المحرمات..
6. الكهنوت: وهو سر يمنح للأساقفة والكهنة وغيرهم ممن يقومون بخدمة الكنيسة روحيا، يجري منحه بموجب السلطة التي سلمها المسيح إلى تلاميذه كي يسلموها بدورهم إلى الأساقفة، وهكذا دواليك إلى حين مجيئه في آخر الزمان. ويتم سر الكهنوت "بوضع اليد" على رأس المرسوم مع تلاوة كلمات الرسامة، ويقوم بها أحد الأساقفة. ويشترط فيمن يرغب بأن يقتبل الكهنوت مجموعة شروط، وعليه أن ينذر نذوره الثلاثة قبل اقتباله الدرجة الكهنوتية، وهي نذور: بالتبتل، والفقر، والطاعة، مدى الحياة. أما في الاسلام فالعلماء المجتهدون هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل، نالوا هذا الفضل بما تمتعوا به من مواصفات قيمية عالية أهلتهم لمرتبة الوراثة، من علم واسع وتقوى وورع وكفاءة.. وعليه فليس في الاسلام طقوس عملية ومراسم دينية بحيث يتم من خلالها تعيين الأمناء على الدين الحنيف، وإنما هي كفاءات يحصل عليها العلماء ببذل الجهد والطاقة والوسع، شأنهم شأن سائر الوظائف العامة التي يصل إليها الانسان بكفاءته وإخلاصه وعلمه الواسع، وتبقى الإجراءات الرسمية الخاصة بارتداء الزي الديني في الاسلام خاضعة لاعتبارات التصدي العلني للوظيفة التبليغية العامة من دون أن تشكل بذلك إجراءا طقسيا وكهنوتي يرقى إلى مستوى الإشتراط في الانتماء.
7. الزيجة: سر يربط بين معمّدين بالغين (رجل وامرأة) لمدى الحياة، بزواج شرعي، وبه ينالان نعمة مزاولة الواجبات العائلية. ويتم بحضور الكاهن. ويسمى "اكليلا" إذ فيه يكلل العروسان رمزا إلى أنهما يخولان القيام بأسمى عمل يقوم به الانسان بعد الله أي إعطاء الحياة عن طريق انجاب الأولاد وتربيتهم في خوف الله. الزواج في المسيحية سر، فهو صلاة وعبادة. وهو في الاسلام معاملة تعاقدية فيها شائبة عبادة، وينتج عن ذلك فوارق عدة، فالزواج في المسيحية مشروط بحضور الكاهن، ولا يشترط في الزواج الاسلامي حضور عالم الدين. والزواج في المسيحية مشروع دائم، وارتباط لمدى الحياة، ولكن لا علاقة لذلك باصطلاح (الزواج الدائم) و(الزواج المؤقت) في الاسلام، ولا ربط له بالمعنى المسيحي للكلمة. ويتفرع عن ذلك تمايزات عدة: فما جمعه الله لا يفرقه الإنسان، وعلى أساس ذلك يحظر الطلاق، وهذا ما لا يوجد في الاسلام. إلى هنا، نجد أن الإختلافات التي تشتمل عليها الطقوس بين الديانتين الاسلامية والمسيحية تصل إلى العمق وتصيب الجوهر، كما أن التشابه الذي قد يتراءى فيما بينهما هو تشابه سطحي وشكلي، وبالتالي لا يمكن الأخذ بما تضمنته بعض الدراسات المعاصرة في مجال مقارنة الأديان، أو تلك التي قدمت بعنوان فلسفة الدين.. والتي تذهب إلى حد الإدعاء بالتشابه الجوهري والتطابق التام بين الأديان على الأغلب، وأن الاختلاف بينها لا يكاد يتجاوز السطح والمظهر الخارجي. وما يدعونا إلى التصريح بهذه الحقيقة هو إيماننا بضرورة الأخذ بالحقائق كما هي، هذا التصريح الذي يشكل مبنى ارتكازيا تقوم عليه محاولات التقارب والتحاور، وليس المجاملات التي لا تدوم أمام النقد العلمي والتأسيس الجاد والحقيقي لأي جهد بناء في هذا المجال.

ha.ye.ba

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق