tag:blogger.com,1999:blog-83643586304984834862024-02-08T15:37:47.825+02:00hasanyehyaفلسفة & فكر دينيhasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.comBlogger12125tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-33948243536803701182010-10-31T11:42:00.002+02:002010-12-25T15:21:42.742+02:00الأسس الميتافيزيقية في النظام الفلسفي الإسلامي<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">الميتافيزيقا هي علم «ما بعد الطبيعة» مما هو فوق الحس، أو «ما وراء الطبيعة» مما هو في مقابل الحس. بهذين المعنيين تم تداول المصطلح في الفلسفات القديمة والتي تعلي من الشأن العقلي على الحسي. أما في الفلسفات المتأخرة التي تعلي من الشأن الحسي على العقلي، تغدو الميتافيزيقا وصمة عار؛ كونها تسهم في ضمور «الحقيقة العلمية» وإبراز الحقيقة التأملية التي لا تقبل التحقق العلمي. بهذه الخلاصة المختزلة، والتمهيدية، والعاجلة يتضح مفهومنا عن الميتافيزيقا في هذه المقالة؛ فإن كل معطى ينتمي إلى الذات والعقل والروح والغيب.. وليس إلى الحس التجريبي، هو معطى ميتافيزيقي. وهنا سوف نستثني من هذا الحكم بعض الرؤى المتأخرة التي شكلت تواصلا ومعاودة للميتافيزيقا ولو باشكال مختلفة (هيجل، نيتشة، هيدجر..). وقبل الحديث عن الوضع الميتافيزيقي للوجود كما تجلى في البحث الفلسفي الاسلامي، يحسن بنا التعرض للأسس التي تظهر فيها الميتافيزيقا بوضوح، وذلك على مستوى الأصول المتسالم عليها، والغايات الفلسفية القصوى، وعلى مستوى موضوع الفلسفة نفسه، ذلك الموضوع القائم على تقدير الذات وتوكيدها.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>- الأصول الموضوعة: </b>لا بد من وجود نقطة بدء يتم البناء عليها؛ فإنّ الانطلاق من مرحلة الصفر يقود إلى الخواء؛ والنتيجة لن تزيد على مقدماتها. لذلك لا بد أن ينهض البناء الفلسفي على أساس ما. ومن أهم خصائص نقطة البدء هذه أنها تبدو كما لو أنها فوق النقاش، إذ أن العامل الذي لا يقع تحت المساءلة من شأنه أن يوفر لنا عنصر الثبات. هذا هو الملمح الأساس للميتافيزيقيا، وهذه هي نقطة ضعفها بالذات. والميتافيزقا بهذا المعنى غير موجودة إلا في عقولنا، بشرط ان تقرأ هذه الجملة بطريقة ايجابية؛ بمعنى أن الواقعية التي تظهر في أفق الوعي على شكل خصائص وصفات عارضة، يمكن أن تدرس فقط على ضوء مرجعيتها التي لا تقع تحت النقاش. من هنا، تظهر الميتافيزيقا على أنّها هي النظام الأصلي الذي تعمل على أساسه عقولنا، وتتشكّل منه البنية الخلفية والأصول والمسلمات الضامرة التي تنهض عليها كل البنى الثانوية في نظام الوعي، وهي إلى ذلك ضامرة في الوعي بسبب من الثقة وسكون النفس لها، الأمر الذي يتيح لها أن تتحكم في مسار تفكيرنا وفي اقتراحاتنا واستنتاجاتنا عن الواقع دون أن تقع بنفسها تحت المساءلة والنقاش. وهذا يعني أن البناء الفلسفي يتشكّل في جوهره من بناء شبه رياضي قائم على المسلمات التي تجد قبولا لدى الذات، ويبدو أن الميتافيزيقا بهذا المعنى ذات طابع غالبي في التداول الفلسفي، كما يبدو أنه ينبغي أن تكون كذلك في هذا الإطار؛ بل تقضي الضرورة المنطقية وجود مرجعية ولو على نحو الأصول الموضوعة المسلمة في إجراءات البحوث التجريبية ذاتها؛ فإنّ البحث العلمي لا يتقدم خطوة إلا على أساس فروض مسبقة معينة تسهم في تعليل الظاهرة والتنبؤ بمستقبلها. إن العلم التجريبي لا يملك إلا أن يمضي في طريقه دون أن يعي ذاته، أو أن يخطّ لنفسه منطقا في نطاق الوعي. <b><br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>- الغايات المضمرة: </b>تتميّز الميتافيزيقا نفسها بالخفاء، ولا تفصح عن ذاتها بالألفاظ والأقوال، وإنما تظهر كما لو أنها أشبه ما تكون بفلتات لسان، لذلك علينا أن نحدس الماورائيات التي تصبو إليها الفلسفات في مغازيها، كما نتعقبها في أصولها التي تصدر عنها. ولا تقدم الفلسفة نفسها كما لو أنها وصفة جاهزة، بل إن عمل الباحث الدؤوب يكمن في فلسفة النص، وتقديم فهم أعمق وأشمل له، وليس تأريخ الفكر، أو التشكيك في اسناد الآراء. وقد عبّر ابن سينا عن الغايات القصوى من مشروعه الفلسفي في كتابه الاشارات والتنبيهات حيث تحدث عن الغيب الذي لا يمكن بلوغه الا بضرب من الشهود، كما عبر عنه ملا صدرا في أكثر من موضع من كلامه وهو يبث حنينه للصيغة العرفانية التي ترى الوجود حصرا في الوجود المطلق من كل تعين. ولا ينحصر نشاط الفيلسوف في إطار توضيح رؤية عن الواقع، بل إن الفلسفة بالإضافة إلى طابعها النظري تتضمن أحكاما عملية، والفيلسوف يبدو أكثر حماسا عند إضفاء الطابع الايديولوجي على الواقع، وإسباغ أحكامه على صورة الوجوب والمنع، ولا يستطيع الفيلسوف أن يكون وفيا لآرائه دون أن تكون له تلك الخلفية الينبغية، وهو يسعى إلى التفسير من منطلق إيمانه بالتغيير، فالغاية هي العمل بعد العلم، ولهذا يفترض الفيلسوف مسبقا ابتناء تلك الينبغيات على الواقع، ونادرا ما يلتفت الى هيمنة تلك الينبغيات، سيما تلك التي تحظى برصيد يجعلها في الموقع الضابط، كما في مورد التصورات التي يزودنا بها الوحي. إن مضموراتنا تظهر بشكل هامس في آرائنا المعلنة، وغالبا ما نقبل الشيء الذي يتلاءم مع ما نريد، الا ان الجانب الذي ينبغي أن يكون هو المحك للدراسة الميتافيزيقية هو جانب الربط بين النظرية والتطبيق، وهو المحك الاساس لكل تنظير، فالوجود لا يملك أحكاما، ولا يمارس سلطة وتقييم، هو قابل فقط لأن ينكشف، وأن يعلن عن ذاته بطرق متعددة ومتفاوتة، هذا الإعلان يستدعي أحكاما متطابقة معه، وهذه الأحكام تظهر غالبا بشكل إعلانات في السياق الديني. من هنا تغدو الفلسفة مشروعا دينيا بحسب الغايات المنظورة لها، وكل فلسفة لا تخطط لذلك سوف تصطدم بالواقع وتفقد مبرراتها. والاعلان الأساس في الميتافيزيقا هي أن الوجود لا يتجلى في إطار المادة فحسب، بل تظهر صورته الحقيقية فقط حين يتجاوز الإطار المادي إلى إطار الغيب.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>- موضوعات البحث: </b>وفق التأسيس المنطقي، تنصرف العلوم والفنون الى تحديد موضوعات بحثها في إطار خاص، وتنشأ خصوصية هذا الاطار من ايمان ذوي تلك الاختصاصات بأن موضوعاتهم تعبر عن واقع جدير بالاهتمام ويستحق الدراسة. وسواء أكانت تلك الموضوعات تحظى بواقعية ما في نفسها ام لا، فلا شك في انها تتسم بالواقعية في ايمان اتباعها ووعيهم، وتعبر عن الوجه الآخر الذي يشكل المرجعية على مستوى النموذج والمثال والذي يظل دائما خارج نطاق المساءلة وفوق النقاش لديهم. وحينما يتخذ الطبيب من الجسم الحيواني موضوعا لدراسته، فإنّه ينصرف الى البحث في أحوال الجسم وخصائصه وعوارضه، وما ذلك إلاّ لإقراره بالجسم الحيواني بوصفه حقيقة لا تقبل النقاش. وحينما يبحث الفيلسوف في أحكام الماهيات وخصائصها من الجوهرية والعرضية.. فإنه يدرك في أعماق وعيه بما لا يقبل النقاش أن الوجود هو الموضوع الواقعي والنموذج الحقيقي وراء تلك الماهيات، ويتركز الجهد الميتافيزيقي حينئذ على استخراج الوجود وأحكامه من تحت ستار الماهيات. وحينما يبحث العارف في أحكام الوجود وخصائصه من المراتب والتنزلات والتعيّنات، فإنّه يدرك في أعماق وعيه بما لا يقبل النقاش أن الوجود الحقيقي والنموذجي هو الوجود المطلق عن جميع التعينات، ويتركّز الجهد الميتافيزيقي على تحديد طبيعة هذا الوجود من الوحدة والوجوب. أما الموضوعات نفسها فتبقى خارج دائرة المناقشة والسؤال بوصفها استبطانات ارتكازية قائمة في وعي الباحث. ان العلم يدرس الوجود كظاهرة، تتجلى في شكل محدد أو موضوع يخضع للفحص، والفلسفة تبحث في الوجود بعد تنحية الظواهر عن وجهه، وهو بهذا الاعتبار لا يقع موضوعا للبحث، وإنما حضورا في الذات. وفي حين تعلن الفلسفة عن مهمتها الحاضنة لموضوعات جميع العلوم، تمارس تلك العلوم عقوقا قاطعا ورفضا مطلقا من خلال انكار الموضوع الكلي للفلسفة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>- أولوية الذات العارفة</b>: إن الاستناد إلى العنصر الذاتي في مقاربة الواقع هو علامة ميتافيزيقية فارقة، فالنفس عنصر فاعل وخلاق وضابط للواقع، وليست مجرد متلقٍ عن الخارج ومرآة تنعكس على صفحتها الصور المتغيرة والزائلة.<b><br />
</b>من هنا، تكمن المعرفة في اندفاع الذات نحو الواقع، وليس في كون الواقع متمثلا لدى الذات، ذلك أنّ تلكؤ الذات عن القيام بدورها إزاء تحولات الواقع النوعية يقود غالبا إلى انتكاسات معرفية تظهر بصورة السفسطة، وتضغط على الذات باتجاه تحديد مقولاتها وضبط منطقها مما يؤدي إلى انتعاش الفلسفة. إن المقولات تقوم على أساس عمومية المبادئ، كما أن المنطق يقوم على صورة الفكر وليس على مادة الواقع، والنسق المنطقي يحظى برضا النفس وركونها إليه. إذن، يقوم البناء الفلسفي على النسق المنطقي المرتكز إلى الذات، والذاتية، والتطابق الذاتي، وهذا ما يشكّل مدخلا لقضية التحقق الواقعي والتطابق مع أشياء هذا العالم. ويتجلى ذلك بوضوح في المبادئ التصديقية للفلسفة المتعالية والتي تنهض على أساسها المباحث الوجودية، فقد غلب الطابع الإستدلالي على تلك المبادئ رغم التأكيد على بداهة مطالبها المبحوثة، وأن تلك الأدلة إنما هي تنبيهات إلى ما هو المرتكز في النفس بحسب الوجدان والفطرة. إن الوجدان والفطرة كناية عن الرضا النفسي والقبول الداخلي، أي أنهما تعويل وإحالة مباشرة على الذات لا الواقع، على النسق الداخلي لا التطابق الخارجي، من هنا تقوم الضرورة الفلسفية على تكثيف الرؤية الذاتية والإيغال في النمطية الميتافيزيقية من خلال الدعوة إلى تجاوز الذات الماثلة إلى الذات المستجدة، فقد دعا الفلاسفة إلى استحداث فطرة أخرى، وتطويع النفس لها، وفاقا مع ما ينسب إلى أرسطو من أنه قال: «من أراد أن يشرع في علمنا هذا فليستجد فطرة أخرى».<b><br />
</b>وتتأكد الذاتية بوضوح في مجال المعارف الكشفية والحدسية، فالوجود هنا مجال لاختبار الذات وليس موضوعا للمعرفة. وقد خاض منظرو الفلسفة العلمية في جدوى شرط «الموضوعية» الذي يقوم على تنحية الذات وتدخلاتها، قبل أن يخلصوا إلى عدم إمكانية توفّر مثل هذا الشرط من الأساس. إن قدر العلم هو في أن يظل راهنا إلى الخدمات التي تقدمها الفلسفة، وقدر الفلسفة هو في أن تظل راهنة إلى الأسس الذاتية، ما يدفعنا للقول بأن الحديث عن الميتافيزيقا لا يمكن إلا أن يكون حديثا نسبيا؛ ذلك أنّ الميتافيزيقا باقية ومستمرة ودائمة طالما انها مقبولة ومنطقية ومرضية في أفق الذات.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>الوضع الميتافيزيقي لمفهوم الوجود<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">إنّ أي حديث عن الوجود (بما هو وجود) يفترض في ذاته أن يكون الوجود متعاليا، وفي الوقت الذي يتنازل فيه الوجود عن تعاليه يفتقد هويته الفلسفية؛ لهذا فإنّ الوجود هو بصمة الميتافيزيقيا في عقولنا، وهو ضرورة حاكمة في النشاط الفلسفي على الدوام. وقد جاء التعبير عن تعالي الوجود في جميع مفاصل البحث الفلسفي جليا وواضحا، ومنذ أوائل المطالب المبحوثة نجده يتصاحب مع الإقرار بتأبّي الوجود عن الخضوع للمبادئ التصورية؛ كونه يحظى بالسمة الجوهرية؛ البساطة والبداهة، وهو ما يفرض أن يكون مجانبا لخصائص الماهية. إن مفهوم الوجود غني عن التعريف، وصورة الوجود تقوم في النفس بلا توسّط شيء، فهو مبدأ أوّل لكل شرح، كما يقول <b>الشيخ الرئيس</b> في كتابه <b>النجاة</b>. وأمّا ما يُذكر له من معرّفات فهي مجرّد مقاربات وبدائل لفظية، لا تلامس ضفاف المفهوم، فضلا عن أن تفيه حقّه. والسر في تعاليه عن التعريف هو أنّه لا يتجانس مع ما يمكن أن ينضبط في عقولنا بصورة ماهيات: إن مفهوم الوجود بسيط؛ لا يتركب من جنس وفصل، فلا ماهية له. إن الخصائص الذاتية للوجود متغايرة مع الخصائص الذاتية للماهية، فلا ينضبط بها. لا أظهر من الوجود، فلا يظهر بغيره. إذن، لا يمكن للماهية أن تعبّر عن الوجود، أو تمثل الجانب العلمي منه إلاّ بعد أن يتنازل الوجود عن تعاليه، وحينئذ لن يكون وجودا بالمعنى الفلسفي؛ ولأجل ذلك تعجز الماهية عن تمثل الوجود بحسب التصور، وعلينا أن نقر بأننا لا نملك في عقولنا اي صيغة معبّرة عن الوجود سوى ما ينعكس منه في الوعي الإرتكازي. ويبتني هذا على أنّ أي تصور في الذهن لا بد أن يستحضر الواقعيات عبر الماهية، ولا سبيل آخر لذلك سوى ما قد ينحدس في أنفسنا عنه. ولا يقتصر تعالي الوجود على مستوى التمثل الذهني، بل يتميّز كذلك بطابع ميتافيزيقي فريد على مستوى حقيقته الوجودية نفسها، إذ إن حقيقة الوجود – بحسب السبزواري - في غاية الخفاء. والسبزواري هنا، إذ يقرّر آراء سابقيه من الذين قالوا بإمكانية تصور الوجود بالبداهة، لا يستبعد الاتجاه الذي يرى استحالة تصور الوجود بالبداهة، بل يسعى إلى استيعابه؛ على أن يراد به استحالة تصور [حقيقة] الوجود لا [مفهومه]؛ فإن مفهوم الوجود وإن كان من أعرف الأشياء وأوضحها، إلاّ أن حقيقته [البسيطة النورية التي حيثية ذاتها حيثية الإباء عن العدم، ومُنشئية الآثار، والتي ذلك المفهوم البديهي عنوانه] في غاية الخفاء. فالمفهوم من الوجود وإن كان بديهيا في التصور إلا أنه لا يقبل الانضباط في سياق المنطق، وأمّا حقيقته وذاته فلا تقع تحت التصور أصلا. ويقوم منطق الخفاء هذا على تعالي الحقيقة العينية على الحقيقة الذهنية؛ فالحقيقة العينية تتميز بكونها منشأ للأثر، فيما تفتقد الحقيقة الذهنية لذلك الأثر، ولهذا لو حصلت الحقيقة العينية في الذهن فيلزم التفكيك بين الشيء ولوازمه؛ فإن لم يترتّب عليها الأثر؛ فلن تكون حاصلة في الذهن بما هي عينية، وإن ترتّب عليها الأثر فليست هي في الذهن كما هو واضح. إنّ ما يبرر لحصول المعرفة بالشيء هو حفظ ماهيته مع تبدّل وجوده العيني إلى الوجود الذهني، وحيث إن حقيقة الوجود لا ماهية لها، فلا معنى لأن تكون محفوظة بعد التبدّل في الذهن. ورغم أنّ السبزواري قد قرن بحثه في الوجود بالبداهة، إلاّ أنّه قدّم الوجود من زاوية مغرقة في الخفاء، فهو - كأسلافه – نظّر للوجود من ناحيتيه المفهومية والوجودية، وأقرّ بأنّ مفهومه لا يقبل الرضوخ للمنطق، وأنّ حقيقته في غاية الخفاء. إلاّ أنّ تبرير الخفاء هذا بما تقدّم يقوم على أساس إثبات الوجود الذهني، وقد اتخذه السبزواري هنا على نحو الأصل الموضوعي. كما أنّ تمايز العين عن الذهن إنّما يكون بحسب الأثر، وهذا إنما يقع في إطار المعرفة العقلية تحديدا، وفي إطار تجاوز الفلسفة الماهوية إلى فلسفة الوجود، وتجاوز البحث عن الماهية إلى البحث عن العلاقات ومفاعيلها، فإن الفلسفة الأولى هي الفلسفة الباحثة عن الوجود بوصفه اصطلاحا فلسفيا ثانويا، يتناول الحكم على الموجود، ويحكي عن علاقاته وتأثيراته، وبكلمة واحدة يقع البحث هنا عن مبادئ الوجود وعلله، وهي موضوعات تتجاوز الاطار الماهوي للحقيقة، وتميط اللثام عن أكثر جوانب الحقيقة فعالية في عالم الوجود. ومع ذلك، فإن هذا السياق العقلي يهدف إلى تأكيد حقيقة هي أن الوجود لا يرقى إلى مستوى المعرفة إلاّ في مقام الحضور لا الحصول. إذن، يبدو لنا أن الوجود - في الفلسفة الاسلامية - غير قابل للقراءة، فهو لا يتمثل لنا بحقيقته؛ لاستحالة انقلاب العيني إلى الذهني، كما لا يقع تحت التصور المنطقي؛ لاستحالة رسم الوجود بعوارض الماهيات، ويبقى أن الوجود مرتكز في وجداننا، وقابع في تصورنا البدهي البسيط، وقابل للتمثل فقط عن طريق الشهود الحدسي. ونظرا لابهام الوجود وغيبوبته، كان على الفلسفة أن تعبر عن القلق الذي ينتابه في تمثله الذهني، وقد استحوذ ذلك على مباحث كليات الوجود التي استهل بها الدرس الفلسفي والتي اتخذت حيزا تأسيسيا لمجمل النشاط الفلسفي. كما دفع هذا الابهام باتجاه ظهور بدائل أكثر قابلية للتمثل والجلاء بعد تلقيحها بنوع من التأثير والفعالية، وعلى امتداد فلسفات المشاء الموروثة والمبتكرة فرضت الماهية نفسها كظاهرة معبّرة في الواقع الفلسفي وقابلة للدراسة وفق السياق المنطقي، كما أخذت العدميات الكلامية والعرفانية باحتلال مواقعها في النظام الفلسفي، وتمثل ذلك في مقولات من قبيل مقولة «الثبوت» التي تتجاوز الوجود إلى بعض أقسام العدم، ومقولة «الأعيان الثابتة» التي تسبق الوجود في التعيّن. كل هذا كان يعبّر عن قلق الوجود كونه لا يمثل ظاهرة، ولا يقع موضوعا للدراسة، ولا يقبل القراءة كنص. وأي محاولة كهذه سوف تفقد من دينامية الوجود وهويته، وهذا ما يفسر لنا تولّد فلسفة الوجود تحديدا من رحم العرفان والشهود، وفي ذلك توكيد لعنصر الذاتية في التصفح العياني لجسد الوجود، فهو في تعاليه وبطونه ذهنا يأبى إلا أن يمتلك كل عناصر الظهور والجلاء الواقعي والعياني، لهذا تضطرب الوجودانية في تصوراتنا المعمقة المشوبة بالعدميات والأساطير الماهوية. وهذا ما استدعى ذلك الانشغال في إزاحة الماهيات، والانهماك في تنحية العدميات عن طريق الوجود، كل ذلك نجده مستوفيا في مباحث كليات الوجود الفلسفي؛ فالوجود لا يحتاج إلى التفسير والفحص، بل لا يمكن إخضاعه للمساءلة، وكل ما يمكن لنا فعله هو تنحية الأغيار عن وجه الوجود، وليس علينا بعد ذلك سوى مراقبته وهو يفصح لنا عن ذاته بذاته. وخلافا للفلسفة الغربية والتي تعمل على توطين الوجود في البيئة الإنسانية، تنشأ مشكلة الوجود في الفلسفة المتعالية من جراء مواجهة العدميات الكبرى، ولا ينحصر إطارها النظري بعدمية معينة يتحدد – وفقها - سقف القلق الوجودي في اعتراك زمني مع العدم الذي يفصح عنه في الموت، وإنما تتركز المشكلة بالوجود ذاته وفي كيفية تمثله ونحو تعبيره عن نفسه. وكذلك الأمر في التراث الكلامي والفلسفي التقليدي، إذ يبدو الوجود من حولنا بصفة الحدوث والامكان، وبهذا الاعتبار صحّ أن يجعل منه موضوعا للدراسة وأن يكون قابلا للقراءة والمساءلة، وبذلك تمحور البحث المشائي في كيفية عروض الوجود على العالم، واشرأبت الأعناق شيئا فشيئا للبحث في المبادئ والعلل وتفسير الوجود، ويبدو أن مشروعا كهذا سوف يُحكم بالاخفاق كونه يفترض أن للوجود وضعا يكون فيه قابلا للتفسير. وفي اتجاه مغاير تماما، بحث ملا صدرا في الوجود بما هو وجود، ذلك الوجود الذي يساوق الوجوب والوحدة والصرافة. ومن خلاله سعى لأن يصدر أحكامه على الوجود الحادث والممكن، وإذ ليس هناك سوى الوجود، فلا معنى للسؤال عن كيفية عروض الوجود على العالم، وبذلك تغيرت وجهة البحث الفلسفي، وتمركز السؤال حول كيفية ثبوت العالم، وليس عروضه.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ولا يحجم الذهن عن افتراض «الوجود البديل» الذي ينازع «الوجود الاصيل» على الأصالة، ذلك أنّ كل ظاهرة إنما تتجلّى في الذهن بصورتين: من جانب هي ماهية تستقل في الذهن، كونها تحكي عن الطبيعة في كليّتها، وتقع في الجواب عن سؤال: ما هو؟. ومن جانب آخر هناك وجود بلا أدنى شك. لقد مضى زمن طويل على تغييب الوجود تحت ستار الماهيات، ويبدو أنه قد حان الأوان للموازنة بينهما، وإخراج الواقعي والحقيقي من تحت شعاع الميتافيزيقا. وقد اعتمد لأجل ذلك السعي التالي: الشيء هو شيء واحد، لا أنه شيئان [متباينان]. الماهية تتحقق بالوجود، لا بغيره. الصادر الأول بسيط، غير مركب. هذه المبررات الداخلية والخارجية تدعو بقوة إلى ضرورة الحفاظ على عنصر الانسجام والتناغم في الكون، من خلال القول بأنّ الواقعية واحدة، وواحدة فقط. والمرتكز في كل هذا هو وجداننا، فما هو قابع في أعماق أنفسنا بنحو جبلي إنما يميل تلقائيا إلى الوحدة والانسجام. ولأجل ذلك، ينحصر القول في واحد من اتجاهين: <b>الأول</b>: أن الأصل هو الماهية، وهو المنسوب إلى شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي؛ إذ الوجود لو كان أصيلا لاستلزم وجودا متسلسلا بلا نهاية، وكل ما يلزم من تأصله تكرره كذلك، فليس بأصيل. وقد غفل شيخ الاشراق عن الحقيقة الذاتية للوجود، ولهذا نُعت مذهبه بالعليل، ودليله بالزيف. و<b>الثاني</b>: أن الأصل هو الوجود، وهو المنسوب إلى أهل التحقيق من المشائين، والمذهب المنصور بنظر السبزواري. وفي هذا – كما لا يخفى - إحالة للأصالة على الوجود الذي يتسم بالغياب المنطقي، والخفاء المعرفي، ولا يملك سوى الإدعاء البدهي. وقد ساق السبزواري أدلة على أصالة الوجود تبتني في صميمها على المنحى الميتافيزيقي: فالوجود منبع كل شرف، ولا شرف ولا خير في المفهوم الاعتباري!. وفي ذلك تضمين مسبق لا يخفى. وتقوم سائر الأسس على ضرورة تنحية اللوازم الباطلة الناشئة من القول بأصالة الماهية، من قبيل: لزوم عدم الفرق بين الوجودين الخارجي والذهني، لزوم التشكيك في الماهية، لزوم عدم انتظام الأنواع، لزوم التكثر في حدود الموجودات وفي الذات الالهية ذاتا وصفة وفعلا، حيادية الماهية في نفسها في معادلة الوجود والعدم. لقد طرحت أصالة الوجود بمعنى أنّ لمفهوم الوجود مصداق وفرد بالذات. أي أنه هناك أفراد حقيقية لمفهوم الوجود الانتزاعي. وقد ذهب صدر المتألهين إلى أنّ الفائض عن الحق، والصادر عن المبدأ هو الوجودات الخاصّة، وأكّد أنّ هناك أفرادا حقيقية لمفهوم الوجود الانتزاعي. قال: « لمّا كانت حقيقة كل شيء هي خصوصية وجوده التي يثبت له، فالوجود أولى من ذلك الشيء - بل من كل شيء - بأن يكون ذا حقيقة، كما أنّ البياض أولى بكونه أبيض ممّا ليس ببياض ويعرض له البياض. فالوجود بذاته موجود، وسائر الأشياء غير الوجود ليست بذاتها موجودة ». إذن، موجودية الوجود تقوم على مبدأ الهوية. وهو مبدأ سوف يخضع للنقاش على الدوام. فقد تناوله الشيخ السهروردي بالنقد على اساس قاعدته المشهورة: «كل ما يلزم من تحققه تكرره إلى ما لا نهاية فهو اعتباري». وأجيب عليه بأن الوجود موجود بذاته، لا بوجود آخر إضافي، فلا بد من الإيمان بوحدة مبدأ الوجود من حيث الهوية. وشيئا فشيئا، سوف يتم إرساء مفهوم الهوية على أساس الاختلاف لا التطابق (هيجل، هيدجر). إن وجودية الوجود لن تزيد عن ماهوية الماهية وبياضية البياض، أي أن الأشياء تثبت لذاتها بذاتها بالحمل الاولي الماهوي، والوجود الذي تثبت له الموجودية هنا ليس هو حقيقة الوجود العينية، فان حقيقة الوجود متشخّصة بنفس (ذاتها) لا بمفهومها الانتزاعي. فيصح التساؤل عن انه هل حقيقة الوجود هذه هي مصداق بالذات للوجود الانتزاعي ام لا؟. ذلك أن الموجودية التي تثبت لنفس هذا الوجود بالحمل الاولي هي الموجودية بمفهومها الانتزاعي لا بوجودها الأفرادي الذي هو منشا الأثر. ومع ذلك، اعتبر مفهوم الوجود الانتزاعي ومنذ البدء (وقبل إثبات الأصالة للوجود)، مفهوما بديهيا بمعنى التحقق ومنشأ الأثر(!). ويبقى أن الحمل الذاتي الماهوي هو حمل ببركة الوجود؛ فإنّ حمل الحد على المحدود - كحمل الحيوان والناطق على الإنسان - لا بد أن يرجع إلى أمر غير ذات الماهية، فظهور نور الوجود، وسريان الوجود الجامع للأجزاء الذهنية للماهية يتم في الذهن. أمّا ظهور وسريان الوجود الجامع للأجزاء الخارجية للماهية فيتم في الخارج. من هنا، فصدق الحد على المحدود في الذاتيات، وصدق المفاهيم العرضية في العرضيات، وصدق الانتزاعيات على الماهيات يدل على أصالة الوجود واعتبارية الماهية بدليل صحة الحمل وضرورته. إذن، الوجود موجود بذاته. ويطالعنا العلم الوضعي بمفهومه التحليلي بأن مفردات من قبيل الوجود الذهني، الماهية، الأنواع، الحدود.. تعتبر رموزا وعلامات ميتافيزيقية بامتياز؛ وهي أحكام تطلق على الطبيعة الكلية والتي لا واقع لها سوى الاسم، ولذلك هي ألفاظ فارغة من المضمون، ولا مكان لها في جعبة العلم التحقيقي. وقد تبنى ملا صدرا مقولة الأنواع الماهوية كسالفيه، إلا أنه لم يجعل منها حدودا مقفلة ونهائية، بل أسبغ عليها وضعا علائقيا بحيث تقع في طريق بلورة الوجود بشكله الأكمل للموجود وهو يخترق جدار الوجود كادحا إلى ربه. قال: «إن الهوية الجوهرية مما يشتد ويتحرك في جوهريته حركة متصلة على نعت الوحدة الاتصالية، والواحد بالاتصال واحد بالوجود والتشخص. وقول المشائين أن كل مرتبة وحد من الأشد والأضعف نوع آخر، وإن كان حقا، لكن بشرط أن لا يكون ذلك الحد حدا بالفعل، لكن من الحدود المفروضة في الاشتداد..». إن الوجود لا يمكن أن يوضع في إطار خاص، فإن كل وجود هو بعينه واجد لإطاره، وموجد له. وفيما انشغل الفلاسفة في ضبط مقولات هذا العالم وفحص كلياته، في محاولة العثور على ماهياته وحقائقه، الأمر الذي شكل عائقا دون بلوغ أحكام الوجود الراجعة إلى حقيقته. نجد ملا صدرا وقد نظم حبكة العالم العلوي، وأسبغ عليه صيغته الوجودية المثلى، يتفرّغ بعد ذلك لتنظيم عالم الإمكان والذي رأى في ماهياته كما لو أنها دمى عابثة على مسرح الوجود، ولا ينبغي أن تنخدع الحواس بحركة تلك الدمى، والتي لا تقبل التفسير إلاّ على أساس الجوهر الذي يتحكم في مسارها رغم غيابه عن مجال الحس. فقد نظر صدرا إلى المشهد الكلي من أعلى، وفسّر نظام العالم على أساس رجوع معلولاته إلى حاق العلة، وارتكاز أعراضه إلى صميم الجوهر، ذلك الجوهر المندفق بفعل الحركة التكاملية السيالة، والذي لا يترك لنا مجالا لالتقاط الأنفاس بفعل اشتباك الفصول، هو فقط ما يخولنا للكشف عن المشهد الكلي للعالم.. وبكلمة مكثفة، لم يعد هذا العالم متصفا بالوجود، بل صار الوجود متعينا – في بعض وجوهه ومظاهره - بصفة هذا العالم. إن احكام الوجود تنسب اليه على نحو القضية البسيطة التحليلية، لا المركبة. لهذا لا معنى للوجود الرابط في القضايا الفلسفية، فالوجود بذاته لا يكون الا مطلقا عن كل تقييد وتحديد. والرؤية الكاملة عن الوجود المطلق نجدها لدى العرفاء تحديدا؛ ذلك أن الموجودات المقيّدة منسوبة إلى الوجود المطلق؛ وهي بوصفها مقيدة لا تمتلك صفة الوجود على الحقيقة، لأنّها عبارة عن إضافة هي نسبة المطلق إلى المقيّد. وهذه الإضافة وتلك النسبة لا تحقّق لهما في الخارج. والوجود المطلق هو نفس الوجود المقيّد، ولكن بوجه آخر. والمقيّد هو نفس المطلق مع قيد الإضافة. ولا وجود إلاّ للوجود المطلق، وذلك أنّه لو أسقطتْ الإضافات والنسب عن جميع الموجودات لم يظهر في دائرة التحقق سوى الوجود علی صرافة وحدته ومحوضة إطلاقه، فيتضح أنّ الوجود المقيّد إنّما هو موجود بوجود المطلق ومعدوم بعدمه. ولهذا قالوا: التوحيد إسقاط الإضافات. وكما تطلّب الأمر من الفلاسفة السابقين إنجاز رؤية واضحة حول كيفية ربط الحدوث والإمكان بالوجود المطلق، ملا صدرا أيضا سوف يجد نفسه معنيا بانجاز رؤية عن كيفية ارتباط الوجوب والوحدة بالفروع، فإن الوجود بصورته المتعالية التي طالعنا بها، لن تسمح له بتنظيم رؤيته الكونية إلاّ على أساس من اضمحلاله، وذلك باستناده إلى إضافة إشراقية تختصر واقع العالم بعين الربط، ولا شيء غير ذلك. وهذا الربط هو المحك لأي دراسة ميتافيزيقية تقوم على سؤال محوري: هل بقي صدرا منجذبا لعالمه العلوي المساوق للوجوب والوحدة، ومنذهلا عما سواه، كما بقي سابقوه أسرى عوالمهم الإمكانية!.<br />
</span></div><div style="color: blue; font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="color: blue; font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-44714289513203926902010-10-30T23:08:00.000+03:002010-12-25T15:24:00.748+02:00الحقيقة الميتافيزيقية بين حس الطبيعة وحدس الوجود<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يبدو أنه من التعسف أن نقارب السؤال عن ماهية الميتافيزيقا في ظرف ملتبس لا يخلو تماما من الممارسة الميتافيزيقية، فمنذ البدء نجد الإشكالية ماثلة وتفترض تحديد خياراتنا على صورة اشتراط مسبق لأية امكانية في التعريف. ذلك أن المفهوم نفسه ينتمي الى بيئة تأملية ويرفض أن يتحدد في موضوعات مؤطرة مسبقا. كما يبدو من العبث أن نذهب مباشرة لتحديد المدلول اللغوي كما لو أنه يشكل إضاءة أولية للمقصد، مع ما تخلل ذلك من غموض في الترجمة والتعبير. وإذا كان يتعين علينا أن نقارب الميتافيزيقا كظاهرة، وأن نضع في الحسبان كل ما قيل أو يمكن أن يقال عنها، فهنا فقط يمكننا الحديث عن دلالة الميتافيزيقا بطريقة موائمة، بأن نحدس ذلك النسق الذي يوحد بين تلك الظواهر المختلفة والأقوال المتعددة عنها، ذلك أن هذه الدلالة تصطبغ في تطورها التاريخي بألوان من الاتجاهات والرؤى المتنوعة، وتخضع للتغيير تبعا لما يقع في قصد واهتمام كل مدرسة، إلاّ أن ذلك يبقى صحيحا فقط في إطار المواضعة، ولا يشكل مدخلا حقيقيا للتعريف إلاّ بمقدار ما تتجلى الميتافيزيقا نفسها على مسرح التاريخ وفي نطاق الوعي والوجود. من المعلوم أن المصطلح أطلق في الأصل على كتابات أرسطو التي نشرها أندرونيقوس الرودسي في القرن الأول قبل الميلاد، وتحديدا على المباحث التي تأتي بعد الطبيعيات في سياق الشرح والتصنيف، فقد تنبه أرسطو الى تعلق المباحث الفلسفية بقسم خاص من الوجود، وهو الوجود الذي لا يتخصص بخصوصية ما، ومذاك تحدد أحد أهم مجالات البحث الفلسفي في الوجود بما هو وجود ذلك الذي لا يقع في مجال الخبرة المباشرة للإنسان، لذلك تبحث الميتافيزيقا في الـ «مابعد» والـ «ماوراء»، وليست البعدية هنا بعدية مجاوزة الى ماوراء عالم المحسوسات بالضرورة، بل هي البحث عن جوهر الوجود الشامل. ومع أن البحث في الطبيعي متقدم على البحث في الميتافيزيقي تقدم المحسوس على المعقول في الإيضاح والشرح، إلاّ أن أرسطو يولي أهمية فائقة للميتافيزيقيا، ويقدّمها على غيرها من العلوم من حيث الرتبة. وقد تبحث الميتافيزيقا باعتبار آخر عن الحقائق المجردة والثابتة فيما وراء الطبيعة، وليس في ذلك تجاوز إقصاء بالضرورة طالما أنها تقوم في إيمان أتباعها على أن الحقيقة متجلية بتمامها في ذلك الماوراء. وقد تم تداول المصطلح في الجانب الاسلامي في كلا الاعتبارين، وأشير به إلى الإلهيات بالمعنى الأعم؛ حيث يتم البحث عن الأمور المستغنية عن المادة مفهوما ومصداقا<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn1_1012" name="_ftnref1_1012">[1]</a></span><span style="font-size: large;">، وإلى الالهيات بالمعنى الأخص؛ وهي الأبحاث التي تدور حول الله وصفاته وأفعاله. فالميتافيزيقا اسلاميا، تقع فوق الطبيعة حين تبحث عن أمور غير مشروطة بالمادة (بلا شرط من المادة). وقد تقع مقابل الطبيعة؛ وذلك حين تبحث عن أمور مجردة عن المادة (بشرط لا من المادة). ويطلق على كلا القسمين اسم الالهيات بنحو الاشتراك اللفظي. ويطلق على مجموعهما اسم الفلسفة الاولى والتي موضوعها هو مطلق الوجود، لا الوجود المطلق<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn2_1012" name="_ftnref2_1012">[2]</a></span><span style="font-size: large;">. وعليه تقع الرؤية الميتافيزيقية الباحثة في أحوال المجردات في مقابل الرؤية المادية. فيما تقع الرؤية الميتافيزيقية الباحثة في أحوال الوجود بما هو وجود في مقابل الرؤى العلمية المختلفة بوصفها بحثا في صنف خاص من الموضوعات. أما ارتباط الطبيعي بالميتافيزيقي، فلم يتجاوز في الفلسفة الاسلامية سياق الشرح بحكم الضرورة التعليمية، أو سياق الترسيم للهندسة الكونية التي تحيل في البدء والعود إلى المرجعية الالهية. وسواء اعتبرت الميتافيزيقا كمبحث في الوجود العام، أو في حدود القضايا المجردة، فقد ساد الوئام إلى حد كبير بين مقولات الفلسفة ومقولات الدين على مدى عصور طويلة، ذلك أن كل منهما يستند إلى مقولة الإيمان؛ فالبحث في الفلسفة الأولى هو العلم الأرقى، ولأنه كذلك؛ كان لا بد من السعي لأجل التوفيق بين الدين والفلسفة، العقل والنقل. ويرتد المفهوم بذلك إلى البحث عن العلل الأولى ومبادئ الوجود. ولن ينغّص صفو هذا التقارب وجود بعض الإعتراضات الشاجبة؛ فإن سهام النقد (الغزالي، ابن تيمية..) لن تطال الأرضية الصلبة لجوهر الايمان الذي يقوم عليه كل من الدين والميتافيزيقا. وقد اقتصر الانشغال الميتافيزيقي في القرون الوسطى، ولدى الفلاسفة اللاهوتيين، على موضوعات دينية بحتة من قبيل: الله، الروح، الخلود.. ونحوها ممّا يشكّل أبحاث «الحكمة» بنظر القديس أوغسطين. والميتافيزيقا هنا تقع في مقابل الطبيعة، وليس فوقها، وتبحث عن الحقيقة فيما وراء الأشياء. ولا ينبغي أن يفهم هذا التجاوز كما لو أنه انحسار للاعتبار الشمولي السابق، بمقدار ما هو حديث عن الحقيقة نفسها ولكن في السياق اللاهوتي الفلسفي. وقد ظل هذا الإيمان ثابتا إلى بدايات عصر النهضة الأوروبية، وتحديدا مع ديكارت ومجاوزته للشمولية الكونية المؤسسة على صعيد الوجود، إلى الشمولية المعرفية المؤسسة على صعيد النفس البشرية، تلك المعرفة التي ينبغي أن تبنى عليها معرفة الله، والطبيعيات، والرياضيات.. وهي المعرفة الكاملة التي تكشف لنا تجرد نفوسنا، وتفسر لنا القيم الإنسانية.. فالميتافيزيقا هنا بمثابة الجذور في شجرة العلوم، تلك الشجرة التي تشكل الفيزياء جذعها، والمنطق والأخلاق والميكانيكا فروعها. والميتافيزيقا هنا قائمة في العلم بالنفس الانسانية، وفي النظام الهندسي للمعرفة، وهي معرفة كاملة كونها تمثل الجذور التي تنبثق عنها سائر المعارف الأخرى. ونجد سؤال الميتافيزيقا مطروحا بقوة في عصر كانط. وسوف تتحوّل الميتافيزيقا مع نقوده العقلية، إلى مشروع نقدي يتجاوز البحث عن الوجود، ويتخذ منحى تأسيسيا في الكشف عن مناطق نفوذ العقل وحدود عمله. وتتمثل الميتافيزيقا الكانطية في التصورات التي تتولد من داخل العقل بفعل النقد، وليس من الخارج، فهي قبليات سابقة على التجربة، وهي مع ذلك شرط في أي معرفة تجريبية. ومع هيجل والمثالية الالمانية تستعيد الميتافيزيقا مدلولها التقليدي لتبحث فيما «وراء الطبيعة»، وهي تتمثل الواقع الماورائي نفسه في المطلق، وأحيانا على شكل قوانين مستفادة من الواقع وقابلة للتعميم على المجالات الاجتماعية والتاريخية كافة. ومع هيدجر تعود الميتافيزيقا إلى الفلسفة لتبحث عن الموجود في الوجود، عن الإنسان وهو يخضع للمساءلة الميتافيزيقية دوما في مواجهة قضاياه الكبرى، الوجود والموت والزمن.. ويبدو أنه لم يتبلور المصطلح كرؤية في النطاق الفلسفي إلا على أثر الاحتكاك بالعلم بمفهومه الوضعي، وسياقاته المنطقية والتحليلية. فقد اعتبر الوجود بما هو وجود غير ذي معنى؛ لعدم إمكان التحقق منه بالوسائل التجريبية. إن الوجود بما هو وجود ليس شيئا من أشياء هذا العالم بحيث يناله الحس، بل هو استنتاج عقلي وضرورة نسقية، وأقصى ما يملك الباحث فيه هو أن يقبل به في نفسه، ويرتضيه في دخيلته، دون أن يكون قابلا للبرهنة أو الاثبات بالطرق التجريبية. ولم يقتصر النقد على شيئية الوجود، وإنما امتد إلى النظام المنطقي الذي انبثق عنه. إذن، ومع تبلور الفلسفة العلمية بكافة أشكالها وتداعياتها، يتخذ النقد وجهة مختلفة تدعو إلى مجاوزة مفهوم الميتافيزيقا نهائيا، ذلك المفهوم القائم على الايمان بالحقيقة المطلقة، فإن الحقيقة كما هي في ذاتها، والتي تتشكل منها الهوية الميتافيزيقية لن تعود شيئا علميا، أو شيئا ذا معنى إذا ما قيست إلى الخبرة المباشرة ومبدأ التحقق العلمي. وحيث إن الميتافيزيقا متناقضة مع العلم التجريبي، لهذا لن يمكن الجمع بينهما أبدا. ومع كارل بوبر سوف يكف الهاجس العلمي عن الانهماك في دحض الميتافيزيقا، وسوف يتعرض مبدأ التحقق إلى النقض؛ ذلك أن هذا المبدأ غير قابل للتحقق، ولذلك تجاوزه بوبر إلى مبدأ التكذيب. ويبدو أن فعل التجاوز اليوم منهمك بالافلات من قبضة هيجل التي تكبل فكر اللاحقين، ويتمثل ذلك من خلال طموح واعد إلى مجاوزة الميتافيزيقا نفسها عبر التقنية الوادعة!. إن الفلسفة لا تقدم أي معرفة جديدة، هي فقط نشاط نقدي يسائل المعارف الأخرى ويفحصها، وهي تبحث في الواقع وفي ما يتجاوزه, وتضفي المعنى على الوجود الإنساني وعلى التاريخ. وتأبى الميتافيزيقا بوصفها ذات طالع شمولي عن قبول التجاوز، ذلك أن التجاوز والأفول هي من خصائص الخبرة المحدودة للنظريات العلمية، والفلسفات الماهوية، فإن كافة العلوم تصاغ عبر منطق يؤسس لها، باستثناء الميتافيزيقا فهي تضع منطقها بنفسها. إن فلسفة الوجود تعطي التعبير الكامل عن الميتافيزيقا، وذلك بوصفها جهدا عقلانيا يتوخى إبراز الوجود أو إلماحه, وتجاوز كل ما يمكن أن يحول دون ذلك. إن فعل التجاوز الذي مارسته الميتافيزيقا على امتداد تاريخ الفكر، من كونها بحثا في الوجود العام، إلى البحث عن قضايا تتعلق بالله والحرية والأخلاق والروح، والخلود .. أو اعتبارها بحثا في جذور المعرفة الإنسانية، وقبليات العقل النقدي، أو تماهيا مع الأخلاقي، والفني.. هو في مجمله فعل اغتراب يعمل في دائرة الوعي اللامحسوس واللامباشر، أو هو فعل خداع وتضليل هادف في نفس الآن، فالميتافيزيقا تحكم قبضتها بقوة على عنق التاريخ والوعي البشريين، وحين تأخذ بالانسحاب والأفول فإنها تفعل ذلك لاعتبارات أقوى، لا أقلها المزيد من إحكام السيطرة وتثبيت الهوية، وفي سبيل ذلك تختبئ وراء الاشياء المعلنة والمباشرة. ويبقى هذا النشاط ضرورة قائمة كشرط لانتاج المعرفة الحقيقية التي تشبع نهم الوجود في كليته. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b><span style="color: red;">الميتافيزيقا كنمط في المعرفة</span></b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ينصب جهد الميتافيزيقا في الفلسفات القديمة عموما على إدراك الواقع الحقيقي من خلال تنحية الواقع العابر، ذلك الواقع الذي نعلم به من خلال ما يرتسم منه في مداركنا، أو عن طريق ما نحدسه في ذواتنا، قبل أن يقوم العقل بإطلاق أحكامه عليه، لذلك يتخذ البحث في الميتافيزيقي منحى معرفيا، وتتنوع الطرق والوسائل الموصلة إليه، بحيث نلحظ هذا التنوّع مقارنة مع الطرق المعهودة في الفلسفات القديمة وعلى مختلف مسارات التاريخ الفلسفي الموروث. والحقيقة هي الحق والصدق، مقابل الباطل والكذب. ويعتبر سؤال الحقيقة وملاك الصدق والكذب في القضايا أحد الأسئلة الاساسية في الفلسفة، والحقيقة هنا هي في تطابق الفكر مع الواقع، وتوافق الإدراك والمدرَك، الذهن والعين. إن وجود الخطأ يكشف عن عدم مطابقة الفكر للواقع، وتصحيح الفكر يكون بمقايسته إلى الواقع، وبالأصح مع عدم تناقضه معه. والحقائق التي يهدف الفيلسوف الى معرفتها وتخليصها من الوهم والاعتبار هي المعلومات التي تتطابق مع الموجودات الواقعية، والحقيقة لا تكون كذلك إلا لأنها إحالة معيارية تجد مرجعيتها في ذلك التطابق مع الواقع حصرا. ويعتبر تفسير الحقيقة وفق نظرية التطابق هذه من العلامات الفارقة للفلسفة الميتافيزيقية. وقد واجه هذا التفسير اعتراضات شتى، وطرحت بدائل ذات معايير محددة لا تنهض على أساس واقعي، كالقول بأن الحقيقة ما يفيد فائدة (الذرائعية)، أو ما تتفق عليه الاذهان في زمان واحد (الإجماع)، أو هي مجموع الحقائق الجزئية التي أعيد بناءها وفقا لمنطق اللغة (السيمونطيقية).. إلاّ أن الحقيقة لا تخضع للاعتبار والمواضعة، ذلك أنها تتسم بالواقعية، وأي تحوير في ذلك سوف يوقعنا في وحل السفسطة حسب تعبير مطهري<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn3_1012" name="_ftnref3_1012">[3]</a></span><span style="font-size: large;">. ولهذا لا بد من توكيد هذه النظرية، وإقرار الحقيقة نهائيا وفق معيار المطابقة. وعلى الفلسفات أن تنصرف إلى استجلاء طبيعة هذا الواقع المُحال عليه لا غير. ومنذ وقت مبكر من تاريخ الفلسفة المعلن، تركّز البحث عن الحقيقة في جوهر الأشياء الثابتة والتي تقع في مجال الإدراك العقلي، مقابل الأعراض المتغيرة والمتحولة والزائلة والتي تقع في مجال الإدراك الحسي، فالحقيقة هي الشيء الثابت قطعا ويقينا، في مقابل المتغير والزائف والمتحول.. ولا بد من تجاوز المحسوسات إلى المعقولات كشرط في إنتاج المعرفة الحقيقية. إن الإعلاء من شأن العقلي على الحسي هو علامة فارقة لانطلاق المشروع الفلسفي. فالمعرفة الحقيقية هي تلك التي تنبعث من المدركات العقلية. والعقل هو الوسيلة المأمونة لمعرفة حقائق الأشياء كونه يشكّل أساسا مشتركا بين جميع الناس، بخلاف المعرفة الحسية التي لا تملك القدرة على استجلاء الحقائق، ولا تقوم على أساس مشترك بين الناس. وقد تمثلت الحقيقة عند أفلاطون كنموذج مثالي مفارق، وما العالم الحسي سوى انعكاساته وظلاله. إن إدراك حقائق الأشياء المجرّدة عن المادة يرتكز إلى المعرفة الحقيقية القائمة على اليقين، أما موضوع المعرفة الحسية (ظواهر الأشياء والأمور النفسانية) فلا تصلح أن تكون سبيلا للمعرفة الحقيقية؛ لأنها تنقل لنا الصيرورة الدائمة والتغيّر المستمر. فيما شدّد أرسطو على التمييز بين وظيفة العقل ووظيفة الحواس، وذلك على أساس أن الحواس تتأثر بالصور الحسية في علاقاتها الزمانية والمكانية، بينما يتأثر العقل بالصور العقلية المجرّدة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، ومع ذلك، لم يرتضِ أرسطو أن يكون أحدهما مجرّد انعكاس للآخر، بل الحقيقة عنده متمثلة كاملة في هذا العالم، وهي تدرك فقط من خلال العقل؛ ذلك أن الطبيعة النوعية والجوهرية للشيء لا تقع في مجال الحواس. إن ثنائية النظر هذه وفق أفلاطون وأرسطو سوف تظل عنصرا ثابتا في مجمل النشاط الفلسفي الاسلامي. ففي الاتجاه الأرسطي، نجد الكندي يميز الادراك العقلي بوصفه تصديقا عن الادراك الحسي بوصفه تصورا، ويجعل موضوع الادراك العقلي هو الأشياء الكليّة من أجناس وأنواع؛ فإنّ كل ما هو معنى نوعي وما فوقه ليس متمثّلا للنفس بل هو مصدّق أو محقّق بفضل المبادئ والأوليات العقلية الضرورية، كالتناقض، والذاتية، والتساوي.. أمّا موضوع الادراك الحسي فهو الجزئيّات أو الأشخاص الهيولانية المتمثلة في النفس، وهي تتغيّر وتفسد دائما، وتتعرّض لأنواع الحركات والزيادة والنقصان<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn4_1012" name="_ftnref4_1012">[4]</a></span><span style="font-size: large;">. وتتركّب المعرفة الحسية عند الفارابي من فعل بدني يقتضي اتصال الإنسان المباشر بالأشياء والمحسوسات، وفعل نفساني هو نفس الإحساس. ولا بد من الجمع بين اكتساب المعرفة من خلال الحس الظاهر، والحس الباطن، وإيصالها إلى المعرفة العقلية. والحس عند ابن سينا هو أول درجات الفهم الإنساني، ويختصّ بما هو موجود خارجي، جزئي، محسوس بصورته ومادته. فيما يختص العقل بالمعاني الكلية المجردة عن المادة، ومهمة العقل تجريد الصورة عن المادة، ثم جمع الأشياء المختلفة في نسق واحد، وهو يؤلف من كل مجموعة من الأجناس والفصول معنى واحد<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn5_1012" name="_ftnref5_1012">[5]</a></span><span style="font-size: large;">. والسمة الغالبة على مجمل النشاط الفلسفي هنا، هو أن جوهر الأشياء هو ما يقع في مجال الإدراك العقلي، ولا بد في سبيل حيازة هذا النوع من المعرفة من تجاوز كل ما هو عرضي متغير وزائل مما يقع في مجال الإدراك الحسي. وقد غلب استعمال الحقيقة بهذا المعنى في التداول الفلسفي القديم وصولا إلى المشائية الاسلامية. وفي الاتجاه الأفلاطوني، نجد في فكر التابعين مراجعات مكثفة لما قرّره أفلاطون من أن البحث عن الحقيقة لا يعدو إيقاظ النفس وإثارة ما يوجد فيها بالطبع، ذلك أن معرفتنا بالأشياء هي في الحقيقة استذكار للمثل، كما أن الجهل نسيان لها: «العلم تذكر والجهل نسيان»<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn6_1012" name="_ftnref6_1012">[6]</a></span><span style="font-size: large;">. ولا بد من متابعة الحكمة الروحية التي نطق بها الحكماء الأقدمون، وتكفل بشرحها الفلاسفة المتأخرون؛ اذ مهمة الفلسفة هنا هي في شرح الحقيقة وتبيينها. ويعدّ القرن الثالث الميلادي عصر الشرّاح، وأفلوطين نفسه كان من هؤلاء الشرّاح، فهو يقول في التاسوعات: «نظرياتنا ليس فيها جديد، وليست من اليوم، فقد أعلنها (الفلاسفة القدماء) قبل وقت طويل، ولكن دون أن يتبسطوا فيها، ولسنا نحن إلا شرّاح هذه المذاهب القديمة»<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn7_1012" name="_ftnref7_1012">[7]</a></span><span style="font-size: large;">. وفي متابعته لهذا المنحى يرى أفلوطين أن العالم المحسوس هو ظل وانعكاس للعالم العقلي الحقيقي، وهو يعتبر أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة الروحية التي تحصل لبعض الأشخاص الذين يتميّزون بنفاذ بصيرتهم، فتشملهم العناية والإشراف الإلهي، فيرتفعون بسبب هذه المعرفة إلى العالم الأعلى، وطريق هذه المعرفة هو الوجدان والحدس المباشر في إدراكه للحقيقة المطلقة (الواحد)<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn8_1012" name="_ftnref8_1012">[8]</a></span><span style="font-size: large;">. ويشير الفارابي إلى أن للروح قوى أخرى لا تتصل بفعل العقل النظري؛ لأنها من السّر وليست من العلن، ولا تبدو وتتبيّن إلا بتخلّص الفرد من جانبه الظاهري، أي من الغضب والشهوة، للتحقّق بمعرفة لدنية عليا<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn9_1012" name="_ftnref9_1012">[9]</a></span><span style="font-size: large;">. أما ابن سينا فيرى أن مثل هذه المعرفة لا تحصل إلا لأصحاب النفوس الطاهرة والقلوب الصافية التي تتلقى عن الله دون واسطة من حس أو عقل، فتشرق عليهم الأنوار القدسية، فيسعدوا بها سعادة أبدية. والذي يعين على ذلك هو التفكر في الله دون سواه، وعشقه عشقا منزها، ولا يمكن هذا العشق بأداة غير القلب. والكمال الحقيقي – عند السهروردي - إنما يحصل بالعلم الحقيقي الثابت بحسب ثبات معلومه. والعلوم الحقيقية تنقسم إلى قسمين: ذوقية كشفية، وبحثية نظرية. والعلوم الذوقية هي عبارة عن معاينة للمعاني والمجردات، وذلك على سبيل المكافحة لا بفكر ونظم دليل قياسي، أو نصب تعريف حدّي أو رسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية متفاوتة تسلب النفس عن البدن وتتبيّن معلّقة، تشاهد مجرّدها، ويشاهد ما فوقها مع العناية الإلهية<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn10_1012" name="_ftnref10_1012">[10]</a></span><span style="font-size: large;">. كما كان للغزالي إسهام واضح على مستوى تنقيح المعرفة اليقينية والتي تحصل على أساس الكشف، فاليقين عنده هو حالة لا يبقى معها مجال للشك بحيث يتعين على العقل أن يعرف الحقيقة، وهذا اليقين يفيده البرهان الحقيقي، ولكن مستنده هو النور الإلهي الذي أتيح للغزالي من خلال الكشف والمشاهدة. وقد استلهم صدرا الشيرازي التراث الإشراقي من خلال مناقشة حكمة الإشراق، وصوفية الغزالي، وعرفان ابن عربي، وأثولوجيا أفلوطين.. ما جعله على مفترق الطرق إزاء النزعات المختلفة آنذاك. فالحقيقة - في مدلولها الإشراقي عند المسلمين - لا تبنى على العلم العقلي فحسب، وإنما يكون لها معنى في نطاق العلم الحضوري بالوجود، فتتمثل في حضور الوجود وتجلياته في ذواتنا، أو إشراق أشعة الحقيقة المطلقة على النفس من وراء مظاهر هذا العالم. وهذا المعنى هو المتداول في حقل العرفان والتصوف والفكر الاشراقي عموما. وسوف تتمثّل هذه السياقات الأفلاطونية والأرسطوية في الفلسفات المدرسية (الأسكولائية)، على اثر احتدام الخلاف في معالجة مشكلات من قبيل: العلاقة بين الله تعالى وبين العالم، وبين الحقيقة اللاهوتية المتمثلة في الايمان الديني والحقيقة الفلسفية. وقد أدى هذا الاختلاف إلى قيام رؤى فلسفية متعددة، كالمدرسة الفرنسيسكانية التي تبنت آراء أوغسطين، ونزعت نحو الصوفية الباطنية، وأن إدراك المظاهر الخارجية يلتمس عن طريق الحدس والذوق والالهام، لا عن طريق النظر العقلي (بونافنتورا)، والمدرسة الدومينيكانية التي أخذت بفلسفة أرسطو، وأن المعرفة مصدرها الحس، وأن دور العقل يأتي لاحقا في إقامة الأدلة على المبادئ العقلية. (ألبرت الأكبر، توما الأكويني). مضافا إلى مدارس أخرى تكاد أن تكون موازية لها، من قبيل المدرسة الرشدية اللاتينية، ومدرسة أكسفورد (روجر بيكون). من جهة أخرى، أدى اختلاف النظر في طبيعة المفاهيم العامة (الكليات)، وعلاقة الخاص بالكلي العام.. إلى ظهور النزعة الاسمية التي ترى أن «الكليات لا وجود لها في الواقع ولا في الذهن، وانما هي مجرد ألفاظ أو أسماء تدل على عدد غير محدد من الأشياء». وقد مهد ذلك لظهور النزعة الاسمية العلمية والتي ترى «أن النظريات والقوانين العلمية ليست إلا صيغا يتواضع عليها» (إدوارد لوروا: 1870-1954)<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn11_1012" name="_ftnref11_1012">[11]</a></span><span style="font-size: large;">. وملخص القول، أن المواقف الكبرى التي تمخض عنها ذلك العصر تشكلّت وفق اتجاهات ثلاث: اتجاه «العقليون الخلص»، حيث جرى التأكيد على انفصال الفلسفة عن الدين كليا. واتجاه «العلميون»، الذين أنكروا إمكانية قيام فلسفة دينية. واتجاه «الاسكولائيون الجدد»، وهم بين معارضين للنشاط العقلي كليا، وبين موافقين للنشاط العقلي ولكن في حدود معينة. ونجد في الصف الأخير توما الاكويني<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn12_1012" name="_ftnref12_1012">[12]</a></span><span style="font-size: large;">. لقد استحوذت عناصر من قبيل المتابعة والتوافق والتكامل على الروح الشرقية المتفلسفة عموما، فيما شكلت القطيعة وروح النقد والتجاوز العناصر البارزة في روحية الفكر الغربي عموما. نجد ذلك بوضوح في الشروع في نقد العقلانية التأملية التي كانت سائدة والتي تقوم على أساس الايمان العقلي في توجهات القدماء، وسوف يظل المنحى العقلي ماثلا في النشاط الفلسفي مع ديكارت الذي ينظر إليه هنا كما لو أنه علامة فارقة. إن عقلانية ديكارت لا تبنى على الواقع كما هو الحال مع السابقين، والحقيقة عنده ليست وجودا مفارقا يتم استحضاره من خلال تحفيز تقوم به الإدراكات الجزئية المساعدة على التذكّر. كما لا تكون وجودا محايثا يتم استحضاره بتجريد الادراكات الجزئية في الذهن.. إن عقلانية ديكارت تبنى على معرفة الذات بالدرجة الأولى، وهو سوف يقوم بمسح الطاولة من جميع محتوياتها، وإعادة بناء العالم انطلاقا من الشك الشامل الذي لا مفر منه، ذلك الشك الذي لن يستثني منه سوى أمر واحد لن يمكنه أن يشك فيه، هو فعل الشك نفسه. إن الشك لون من ألوان التفكير، لذلك لا بد من وجود المفكر: «أنا أفكر إذن أنا موجود». وعلى هذه الأرضية الصلبة (الكوجيتو) يثبت ديكارت الحقائق الأخرى عبر أفكار النفس الفطرية، ومن جملة تلك الأفكار التي تتسم بالوضوح: الإمتداد، ولهذا يعدّ الجسم عنده فكرة فطرية، وللجسم خواص أولية من قبيل الوزن والشكل والحركة، وهي آثار واقعية له. أما اللون والطعم والرائحة والصوت ونحوها من الخواص الثانوية، فهي تابعة لكيفية تركيب أجهزتنا الحسية، وهي انفعالات نفسية لا واقع لها. إن التصورات الحاصلة عن طريق الحواس، كاللون والطعم هي تصورات عارضة. وقد يحصل من تركيبها تصورات أخرى كالفرس ذي الأجنحة، وهذه تصورات جعلية. وأما التصورات التي أودعها الله في طبيعة عقولنا، كتصور مفهوم الله، النفس، الامتداد، العدد، الشكل، الحركة، الزمان.. فهي تصورات فطرية. إذن، النشاط الفلسفي عند ديكارت عقلاني في مجمله، وما علينا لبلوغ الحقيقة سوى تلافي الخطأ، ولذلك وضع ديكارت قواعد المنهج للتحرز عن كل ما يعوق المعرفة اليقينية، ذلك المنهج الذي لو اتبع من شأنه أن يحد من مكر الشيطان الذي يضع في طريق الحقيقة عوائق الحس والخيال والذاكرة. وإذا كانت الوسيلة إلى المعرفة هي الشك. إذن، الذات هي أساس الوجود والمعرفة. ولأنّ الحقيقة عنده صفة ذاتية للفكرة، فما يتطابق مع الفكر فهو بالضرورة متطابق مع الواقع؛ فإن الله الذي خلق فكرنا هو نفسه خالق الواقع بحيث يضمن التوافق بينهما<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn13_1012" name="_ftnref13_1012">[13]</a></span><span style="font-size: large;">. إن معيار الحقيقة بنظر ديكارت لا يكمن في موافقة الفكر للواقع بل في التوافق مع الذات، لا يقبع خارج الذات بل داخلها. فالحقيقة هي صفة ذاتية للفكرة، والأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل صدقها، وما ليس بحقيقي فهو كاذب؛ ولكن ليس لأجل عدم تطابقه مع الواقع، بل لأجل عدم تطابقه مع قوانين الفكر نفسها. لقد لاحظ ديكارت، وبعده كانط، أن الحكم بالمطابقة للواقع أو عدم المطابقة يرتد في النهاية إلى الفكر نفسه. إن الحقيقة وفقا لمعيار التطابق، توجب علينا مقارنة الموضوع بمعرفتنا، وهو ما يتطلب حصول المعرفة بالموضوع قبل إجراء أية مقارنة بين الموضوع ومعرفتنا عنه – كما يلاحظ كانط على نظرية التطابق -، ومعنى ذلك أنه يتعين علينا أن نتحقق من معرفتنا ما دامت لا تنطوي في ذاتها على الشرط الكافي لقيام الحقيقة. وطالما أن الموضوع يوجد في العالم الخارجي [الموضوعي] وأن المعرفة توجد في العالم الداخلي [الذاتي] فإنه لن يكون بمقدورنا سوى أن نقرر ما إذا كانت معرفتنا بالموضوع تتفق مع معرفتنا بالموضوع (تحصيل الحاصل)!!. وتقوم المعرفة عند كانط على دعامتين، إحداهما مادة المعرفة التي نحصل عليها من الأشياء الخارجية بواسطة الحس، وهي معرفة متأخرة عن التجربة. والأخرى صورة المعرفة التي هي من لوازم العقل، وهي معرفة متقدمة على التجربة. وتتضمن صورة المعرفة على الحساسة والفاهمة. ولكل معرفة تجريبية قيد زماني ومكاني، ولكن الزمان والمكان لا يعرفان من طريق الحس والتجربة، وإنما هما من صور الحساسية (معرفة قبلية). ومنهما يأتي موضوع العلوم الرياضية، موضوع علم الهندسة هو الامتداد من المكان، وموضوع علم الحساب هو العدد من الزمان!. والمقولات عنده اثنا عشر مقولة هي من صور الفاهمة. والمفاهيم الذهنية القبلية هي: المكان، الزمان، الوحدة والكثرة، التمامية، الاثبات والنفي، الحد، الجوهر، العلة، التبادل، الامكان، الوجود، الضرورة، النفس، العالم، الله. إن العلية هنا من لوازم الذهن وليست من أوصاف الأشياء<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn14_1012" name="_ftnref14_1012">[14]</a></span><span style="font-size: large;">. وإذا كنا ندرك الواقع على أساس «إن الشيء يبدو لنا أنه كذا» وليس «إنه كذا في ذاته»، فلا ضمان لوجود الحقيقة بصورة مستقلة وموضوعية ونهائية في مداركنا. إن الواقع بنظر كانط يرتد في مداركنا إلى واقع ذاتي على أبعد تقدير. وإن إمكانية تنحية الخطأ عن وجه الحقيقة لن تبقى متاحة للعقل وهو يجادل الوهم.. وإن شر المعرفة لازم فعلي لا تجدي معه نفعا أية قواعد منهجية أو حدوس معرفية، والخطيئة الأصلية التي تسكن العقل هي خطيئة الميتافيزيقا، والعقل إذ يجادل ويتناقض لا يقوم بذلك بفعل عوامل وقوى خارجية. إن التناقض من صميم العقل ذاته<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn15_1012" name="_ftnref15_1012">[15]</a></span><span style="font-size: large;">.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b><span style="color: #c0504d;">من الواقعية العقلية إلى الواقعية الحسية</span></b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">خضع تفسير الحقيقة على أساس نظرية التطابق لنقاش حاد ونقد عميق من قبل معظم تيارات الفكر الوضعي على اختلاف اتجاهاته؛ وذلك لاعتبارات شتى، تعود في جوهرها إلى الإقحامات التي تفرضها الذات، والتي ينبغي العمل على إقصاءها من مجال الوعي. وسوف تؤدي ذاتية الفكر - كما نجدها لدى ديكارت وكانط - إلى حدوث فجوة كبيرة حول إمكانية الحديث عن الحقيقة الموضوعية المستقلة عن الواقع الذاتي لها، ويحق للمرء حينئذ أن يتساءل: هل القضية تعكس الواقع الموضوعي القائم بذاته بصورة مستقلة عن ميولنا الذاتية، أم أنها تعكس ذاتية الفرد أكثر مما تعكس الواقع الموضوعي؟ ومن جهة أخرى، فقد أعطى كل من ديكارت وكانط مكانة للحس تتجاوز دور الاعداد والتحفيز، وعلى الرغم من الاحتفاظ بما للعقل من مكانة متقدمة إلا أن هذه الوضعية الجديدة سوف تجعله أكثر عرضة للانكشاف والمساءلة، فقد أثير الاستفهام حول مشروعية ما ينتجه العقل من معارف بشكل مستقل عن الحس؛ وتناول ذلك النقد المعارف الفطرية والمعارف القبلية على السواء، وما إذا كان ينبغي الاقتصار في نشاط العقل على مجرد تجريد وتعميم الادراكات الحسية لاغير.. وقد استتبع البحث عن ذلك كيفية نشوء المفاهيم وصدقها على الأشياء، وبالتالي التشكيك بقيمة المفاهيم الكلية، وذلك على أساس أنها مجرد ألفاظ ورموز يشير بها الذهن إلى أفراد الواقع بناء على اعتبار الناس لها واتفاقهم عليها. وبعبارة مختصرة، سوف يتم تفريغ مفهوم الكلي من مضمونه الجوهري وإقصاء طبيعته النوعية بشكل نهائي.<b> </b>إن هذا يضعنا وجها لوجه مع أولوية الحس على العقل، وبالتحديد مع وليم الأكامي الذي نادى بأصالة الحس أواخر القرون الوسطى، وشكّل بذلك ترجمة صارمة لما يؤثر عن أبيقور اليوناني من قوله: لا يوجد شيء في العقل الا اذا كان قد وجد في الحس قبل ذلك. إن منشأ جميع معارفنا هو الحس كما يقول جون لوك؛ وإن الانسان يحصل على التصورات البسيطة عن طريق التجارب الظاهرية والباطنية؛ فيدرك الكيفيات الأولية للجسم كالامتداد والحركة، والكيفيات الثانوية كاللون والرائحة والطعم عن طريق الحس الظاهري. كما يدرك أفعال النفس وقواها كتصور الحافظة والارادة عن طريق الحس الباطني. وأما تصور اللذة والالم والوجود والوحدة والعدد فهي تحصل عن طريق تعاون الحس الظاهري والباطني. وبعد ذلك تأتي التصورات الأكثر تعقيدا كتصور الجوهر والنسبة والعلية والغائية. هكذا ومن المقارنة بين شيئين توجد الاضافات المختلفة كالكبر والصغر والابوة والبنوة.. وهو سوف يعتبرها – لاحقا - قسيما للتصورات المركبة لا قسما منها. إن العلية والمعلولية هي من الاضافات التي تحصل نتيجة المقارنة بين حادثتين متعاقبتين بشكل منتظم. ولا يكفي الحس الظاهري والباطني لوجود التصورات المركبة، بل إن القوة الفاهمة أيضا تؤثر في وجودها، وبمساعدة هذه القوة نفهم أن الكيفيات التي تقبل التغيير تحتاج الى شيء ينسب إليها هذا التغيير وهو الجوهر، وكذا نفهم أن التعاقب المنتظم لظاهرتين لا يمكن أن يكون بدون رابطة العلية<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn16_1012" name="_ftnref16_1012">[16]</a></span><span style="font-size: large;">. وفي حين يعتقد جون لوك بانتزاع المفاهيم الكلية من الموارد الجزئية عن طريق حذف جهات الافتراق بينها، يذهب باركلي إلى أن الموجود هو الصورة الجزئية التي يمكن جعلها علامة للجزئيات الأخرى لتشابهها. إذن، الألفاظ الكلية إنما هي أسماء تستعمل في مسميات متعددة، وبذلك يستعيد باركلي مذهبا قديما عرف بالنزعة الإسمية، لا يقر لمفهوم الكلي بصفته مدركا ذهنيا، بل يقصر الإدراك على الجزئي والشخصي والذي يجعل علامة على عدة أشياء متشابهة. هذا الحكم سوف يتم استثماره لاحقا ويجرى تعميمه على جميع مسائل الفلسفة الأولى. إن لفظ الوجود بنظر باركلي مساو للمدرِك والمدرَك، وليس له مفهوم مستقل عن الإدراك. وهو ينكر مفهوم الجوهر بعنوان أنه أمر واحد، فالجوهر ليس شيئا سوى مجموعة من الأعراض المختلفة. وليس فقط الكيفيات الثانوية توجد في ظرف الإدراك، بل حتى الكيفيات الأولية من قبيل الامتداد والحركة توجد فقط في أذهاننا. وينحصر طريق المعرفة برأي باركلي في التجربة الحسية، والإدراك الحسي لا يتعلق إلا بالأعراض، ووجود هذه الأعراض غير متحقق إلا في حدود أذهاننا، ولا نملك سبيلا يثبت لنا جوهرا خارج أذهاننا بحيث يصلح لأن يكون موضوعا لهذه الأعراض. هكذا يحصر باركلي الواقع بوجود المدرِك والمدرَك، ولا وجود لشيء وراء الصور الذهنية!. إن علة ظهور التصورات والإدراكات - التي هي وحدها الأشياء الحقيقية - إنما هي إرادة الله<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn17_1012" name="_ftnref17_1012">[17]</a></span><span style="font-size: large;">. وقد استفاد هيوم من كلام لوك حول منشأ تصور العلية؛ وأننا لا نحس في مورد العلة والمعلول بشيء سوى التعاقب المتكرر بين ظاهرتين، ولا يمكن إثبات أكثر من هذا في تصورنا للعلية، وما الضرورة التي نؤمن بها في العلاقة بين العلة والمعلول إلا ضرورة نفسية تحصل نتيجة لعادة الذهن في إدراك الظواهر المتعاقبة. وكما أن الجوهر الجسماني ليس شيئا سوى مجموعة من الأعراض الجسمانية، كذلك أيضا الجوهر النفساني ليس شيئا سوى مجموعة من الأعراض النفسانية. إذن، ينكر هيوم الجوهر النفساني، ويفسر أصل العلية بتعاقب الظواهر، ويفسر الضرورة الموجودة في الأصل بعادتنا الذهنية، إن وجود أي شيء قابل للشك من وجهة نظر فلسفية ما عدا الظواهر الذهنية<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn18_1012" name="_ftnref18_1012">[18]</a></span><span style="font-size: large;">. ومنذ وقت مبكر، بشر هيوم بقيام «الفلسفة العلمية» على أنقاض الفلسفة التأملية الخالصة، ويعتبر القرن التاسع عشر هو المجال الزمني لظهور فلسفات تنعت نفسها بالصفة العلمية من قبيل <b>الفلسفة الوضعية</b> لكونت، والتي أرست العلوم التحققية على ستة: الرياضيات، علم الفلك، الفيزياء، الكيمياء، علم الاحياء، علم الإجتماع. إن مهمة الفلسفة هنا هي التأليف بين نتائج العلوم المذكورة وتنظيمها، فتصف ما هو كائن بقدر ما تتيحه لها نتائج تلك العلوم. و<b>المادية الديالكتيكية</b> لماركس، الذي يرى ضرورة الفلسفة لوجود قوانين شاملة، وهي تحصل من تعميم قوانين العلوم التجريبية وليس من طريق التأمل الميتافيزيقي. و<b>الفلسفة التحليلية</b> التي تفرغت لعمليات التحليل المنطقي لمنتوجات الفكر البشري، لتدلل على انها ليست مشكلات بقدر ما هي استخدامات غير سليمة لألفاظ اللغة. و<b>الفلسفة الظواهرية</b> (فنومنولوجيا) لهوسرل الذي رفض أن تكون الفلسفة تابعة للعلم، باعتبارها هي علم الماهيات الثابتة التي لا تختلف في كل زمان ومكان، وهي الشرط القبلي لسائر العلوم. إن الفلسفة بوضعيتها الجديدة تقوم في أفضل الحالات على تحليل اللغة، وإيجاد فرضيات تسهم في حل مسائل العلم. فيما تشكل التجربة أو الخبرة المباشرة المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة عن كل ما عداها مما لا معنى له.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b><span style="color: #c0504d;">معيارية الحقيقة التجريبية</span></b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يمكننا إذن، أن نضع أيدينا على أساسيات التحوّل نحو أصالة الحس، دون الخوض في تفصيلات الوضع اللاحق وذيوله المتشعبة. فقد تركت الواقعية الحسية أثرا واضحا على المسار الوضعي للفلسفة بعامة والمنطقي بخاصة، وترتب على ذلك انحسار الطابع الشمولي لنظرية التطابق لتقتصر على الواقع الفيزيائي بوصفه الحقيقة النهائية. وما ينبغي ملاحظته هنا، هو ما تضفيه أصالة الحس على مفهوم الميتافيزيقا من التباس بحيث تحصره في إطار الموقف النقيض، والنابذ، وتخرجه بذلك عن طابعه الكلي، والشمولي. والحال أن المزاولة الميتافيزيقية وإن أعطت للعقل اهتماما خاصا في مجال المعرفة إلا أنها لم تقصر ذلك عليه كوسيلة حصرية وفي مقابل الحس. من جهة أخرى، إن التساؤل الأساس الذي أثير بفعل هذا التحول الجديد، والذي يتعلق بخيارات العقل والحس، وأسبقية أو أولوية أحدهما من الآخر، من شأنه أن يضيف التباسا آخر إلى المفهوم، ذلك أن أحدهما لا يشكل بديلا مكافئا للآخر على مستوى نوعية المعرفة المنتجة؛ فلا شيء يحتم علينا أن نتبع مثل هذا الاصطفاف في مجال الاختيار بين أمرين هما من قبيل الحس أو العقل، ولا ضرورة تحتم علينا اتباع مثل هذا النظام الثنائي بالذات. إن تاريخ الفلسفة العلمية يشهد على ذلك العزوف الارتدادي الذي تخلله مسار تلك المعرفة، وأن الحقيقة غير قابلة لأن تتجلى حصرا بواسطة العلم، كونه لا يملك أن يستقل نهائيا عن الفلسفة في تثبيت مقولاته؛ ذلك أن الإدراكات الحسية، والأحكام الصادرة عنها، قد تختلف من شخص لآخر، كما قد تختلف باختلاف أحوال الشخص المدرِك نفسه، أو باختلاف موقع الشيء المدرَك ووضعيته وسائر احداثياته.. فقد يستطيع الحس أن يرينا الجبل، إلا أن صورة الجبل لن تزيد في حجمها عن حجم العين، ولن ترينا مدى قربه أو بعده ما لم تتم الاستعانة في ذلك بحكم من العقل. كما أن الصيرورة الحاكمة على هذا العالم من ناحية وجودية، وما تدعمه معطيات الفيزياء الحديثة القائمة على أساس مبدأ اللاتعين، واللايقين المطلق من ناحية معرفية، كل ذلك يحول دون إمكانية الحديث عن وجود معياري في الواقع الفيزيائي، بوصفه موضوعا يتمتع بالثبات!. إن الوقوف عند المعيارية الحسية سوف يفترض ضمنا تحليل مسألة تكامل المعارف والعلوم، وظهور نظريات علمية جديدة على حساب ضمور نظريات أخرى، على أساس أن تلك النظريات تتوفر معا على الصدقية، ولا أقل كل منها في ظرفه الخاص!. إن أقل ما يمكن قوله في مثل القضايا التجريبية هو أنها تمثل شيئا في الواقع فحسب، أما محاكاتها لعين الواقع فلا يوجد ضمان عليه!. وأخيرا، إننا لا نملك مفاتيح الواقع بصورة قطعية بحيث نستطيع القول بأن القضية تعكس الواقع كما هو بالفعل وبطريقة موضوعية تامة!. إن الحقيقة – بحسب الإدعاء هنا - تبنى على نتائج العلوم التجريبية، وعلى القوانين الكلية الحاصلة من استقراء الموارد الجزئية التي تثبتها التجربة العلمية، وهذه القوانين العلمية قابلة للتعميم لكل الوجود، بحيث تضم كل أجزاء الطبيعة والمجتمع والتاريخ والفكر الانساني. وهذا القانون الشامل يمكّننا من التنبؤ بالحوادث الاجتماعية والتاريخية المستقبلية. وتقوم هذه الدعوى على أساسين ميتافيزيقيين بامتياز، أحدهما التعميم الذي يسمح بانطباق قوانين الطبيعة على المجتمع والتاريخ، ومن الواضح أن التعميم كإجراء يتجاوز النشاط الحسي إلى حكم العقل. والآخر ما يتضمنه هذا النشاط من استبطان للحقيقة ينهض على الإيمان بتماثل أشياء هذا العالم في قوانينها الكلية. وتكمن المعضلة هنا، في اعتراض الميتافيزيقا لواقع التحولات في عصر العلم، باعتبارها شرا لا بد منه، فإن الفرضية والتنبوء العلمي هما حدوس وخيالات علمية تتخلل الاطار التجريبي كشروط حتمية، ولهذا تظل الحلول المستقبلية خاضعة لهذا الارتهان الميتافيزيقي، فلا يمكن للتجربة تنقية العلم من الميتافيزيقا بالكامل، ذلك أن القصور التجريبي يستدعي فرضا ميتافيزيقيا يدعم النظرية حين لا تجد ما تبرر به فكرتها، فقد كان نيوتن ميتافيزيقيا حين استعان بمقولة أرسطو عن الأثير الذي يملأ الكون ليردم به الثغرة (اللامجربة) التي اعترت تفسيره لبعض نظرياته الفيزيائية، كما كان داروين كذلك حين أدخل الحلقة المفقودة في نظريته البيولوجية. وعليه، تظل الرؤى المختلفة خاضعة في أسسها وإجراءاتها البحثية إلى الأفق العقلي الميتافيزقي، ونستطيع حينئذ القول أن الميتافيزيقا غير موجودة إلا في عقولنا، بشرط أن لا تقرأ هذه الجملة بطريقة سلبية؛ وذلك في إطار التوظيف الايديولوجي الذي يراد لها؛ كما لو أنّ كل ما ليس ماثلا في الاشياء فهو ينتمي الى عالم الخداع؛ ويتوجب علينا لأجل ذلك تنحيته وعزله. إن الانتقادات التي سجلت في هذا الجانب، سوف تدفع إلى إجراء تعديلات مهمة في النظام المعرفي لحساب العقل، وسوف تتركز سهام الوضعيين في أن الميتافيزيقا قد ضلت طريقها من خلال إيغالها في النمط التأملي، الأمر الذي يستوجب إعادة تصويب مسارها من خلال ممارسة نقدية تتيح لها وضعية جديدة تتأهل بها لأن تكون قابلة للصفة العلمية. وشيئا فشيئا، سوف تتكشف مقولة الايمان الميتافيزيقي في عمق الوضعيات العلمية؛ وذلك عبر الفروض والحدوس والتنبؤات، مرورا بالرؤى التأملية الخالصة، وصولا إلى الخلفية الصوفية التي تقبع في إيمان كل باحث؛ هذا ما يطالعنا به الميتافيزيقيون الجدد، فليس صحيحا أن الميتافيزيقا ترتكب خطيئة مميتة عندما تقوم بتوكيد موضوعاتها، فإن التوكيد هو سمة التجاوز في البحث عن الحقيقة لدى الجميع وبلا استثناء. وتكمن المفارقة في أن المنافحين عن الفلسفات الوضعية يصدرون أحكامهم على موضوعات الفلسفة من منطلق المنهج العلمي نفسه!. بل، يبدو أن المنهجية العلمية قد اعتراها طموح جامح نحو إخضاع كافة ضروب المعرفة الإنسانية للأسس الصارمة في المنهج التجريبي، وإلى إيجاد التماثل من خلال إلغاء الخصوصيات والحدود الفاصلة ما بين المناهج المختلفة وتطويعها باتجاه خاص، وفي سبيل ذلك، سوف تنشط الفلسفة العلمية في التأسيس للمنهج التجريبي والذي يتطلبه السعي العلمي الحثيث. وبهذا المقدار، لن يستدعي الأمر مشكلة تذكر، سيما مع فرض التفاوت بين موضوعتي الفلسفة والعلم؛ فإن الواجهة الفلسفية تستدعي الانضباط والتماسك في نطاق الرؤية، فيما يتماشى العلم - بوصفه علما - مع سيرورات الواقع. وإنما تبرز الاشكالية بشكلها الصدامي كنتيجة لاقتران السمة العلمية بالفلسفة؛ وما ينتج عن ذلك من القول بضرورة تجاوز الميتافيزيقا وبصورة حادة، كشرط لمجاراة النسبية الواقعية. ما يفسر لنا العدائية السافرة التي تكنها الوضعية للنهج الميتافيزيقي القائم على خصوصية التعالي عن الحس في المعرفة والوجود، ذلك أن الفلسفة لا تؤدي وظيفتها الاساسية إلاّ حين تستند إلى العقل في فحص الوجود وتفسيره. وهي لا تكترث للدواعي «العلمية» الى تجاوزها، بل تحافظ على وضعيتها الفريدة وتمايزها الاستثنائي بأن تبقى على مسافة ثابتة من الواقع، ما يجعلها تمارس سلوكا يتسم بالفوقية والتباهي، كونها مصدر التماسك الذي يسبر تحولات الواقع، ويسبغ عليه المعنى والهوية والقيمة. ما تقدم، يؤكد على أن الاختلاف ما بين الفلسفة والعلم إنما يقوم في جوهره على التوظيف في النتائج، أكثر مما يقوم على الأسس والمبادئ الأولية. وأن الميتافيزيقا ليست فرعا مختصا في الفلسفة، بمقدار ما هي نمط في الوجود يمتد بتشعباته في كافة الفروع المعرفية. ومن الخطأ تصنيف الفلاسفة إلى معتنين بالشأن الميتافيزيقي وعازفين عنه، وإنما تنوعت آراء الفلاسفة حولها وفق اتجاهين: اتجاه يؤمن بالثبات الذي يسبق العالم المتحول، ويضبط إيقاعه، ويضفي عليه المعنى. واتجاه آخر يؤمن بالثبات الذي ينبع من عالم متنوع متحول سيّال. وفي حين يدعو أصحاب الاتجاه الثاني إلى التخفيف من غلواء المنطق في عقولنا، وليس تجفيفه. وإعطاء دفق أكبر للنشاط الحسي الحي، والتوجّه نحو استيلاد الميتافيزيقا من رحم الواقع، ومحاكاة الوحدة من داخل الاختلاف والتناقض، والعثور على الكلي في متن الجزئيات، ومقاربة الميتافيزيقا نفسها من خلال الواقع، وذلك قبل أن تسبق الميتافيزيقا العتيدة إليه، وتحد من حركته، وتجعله ساكنا، يبدو أن أتباع الميتافيزيقا العتيدة لن يتنازلوا بسهولة؛ وينشأ حرصهم من كونهم قد خبروا نوايا الوضعيين وحنكة دعواهم، فهم بمجرد أن يشرعوا في تفاصيل عملهم حتى يكيلوا التهم لجميع أشكال الميتافيزيقا، وينحون باللائمة عليها في كل شيء، ولكنهم في النهاية لن يتقدموا خطوة إلا على قاعدتها، ولن تتسم مزاولتهم العلمية بالابداع إلا حين يتطرفون في ميتافيزيقيتهم.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b> <span style="color: #c0504d;">السياق</span><span style="color: #c0504d;"> المنطقي للواقعية من الإسمية إلى الماهوية </span></b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1] إن جوهر النقد الغربي للميتافيزيقا سوف يتركّز على موضوع إقصاء الذات، وتنحية القبليات، وتكميم اللغة، بحيث تنكفئ القضية عن أن تتمثل الحقيقة في طابعها النوعي والكلي، ويرتد دورها إلى مجرد توصيف للظواهر الخارجية القابلة للتحقق التجريبي. ويعبّر عن هذا النوع من القضايا بحسب المنطق التقليدي بالقضية الخارجية أو الشخصية البحتة، وهي التي تعين في الاستقراء وتقنين الواقع الحقيقي. إن تفسير الحقيقة من خلال نظرية التطابق قد يصدق على القضايا الخارجية التي يكون لمحمولها واقع مستقل، ولكنه لن يصدق حتما على القضايا الحقيقية؛ إذ لا واقع مستقل في الخارج لما تخبر عنه هذه القضية؛ فهي قضية تحليلية بمعنى أنها لا تضيف شيئا جديدا إلى معرفتنا، ولا تحيل إلى الواقع مباشرة؛ ذلك أن الحكم فيها ينصب على الطبيعة الكلية للموضوع، وتكون ماهية الموضوع هي المناط في الحكم، فلا نظر مباشر في هذا النوع من القضايا الى الأفراد. إن موضوع الحكم هو نفس الطبيعة، والمحمول منتزع من تحليل الطبيعة، وهو لازم لها، فليس للمحمول واقع مستقل عن واقع الموضوع، ولهذا لا يضيف المحمول شيئا جديدا لمعرفتنا، بدليل أن الحكم قد يشمل الأفراد المقدّرة الوجود والتي لا واقع فعلي لها. إذن، القضية الخارجية هي القضية التي تنبئنا عن الواقع الفعلي بشكل حصري، وتضيف شيئا جديدا إلى معارفنا. ولهذا تشترط الاتجاهات الوضعية والتحليلية إقصاء القضية الحقيقية من المنطق كشرط لإمكانية أي حديث عن قيام الحقيقة. فيما تولي هذه الاتجاهات القضية الخارجية اهتماما خاصا من جهة إحتوائها على مضمون واقعي للمحمول يغاير واقع الموضوع فيها، بحيث يحمل أحدهما على الآخر حمل انضمام وتركيب. إن الحكم في القضية الخارجية منصب على الأفراد في الخارج مباشرة، وليس من دور للكلي سوى الإشارة إلى الأفراد بلفظ واحد، فلا يزيد عن كونه تعبيرا جامعا للأفراد، وتتأتى جامعيته من جهة إبهامه لا من جهة تعيينه، وتكون فائدته الحصرية في أنه يغنينا عن تكرار اللفظ. وهنا فقط يمكن أن تصدق القضية الخارجية بأن تطابق الواقع الخارجي العيني والموجود بالفعل. وهذه هي القضية التركيبية والتي من شأنها أن تضيف إلى معلوماتنا شيئا جديدا. وفق هذا السياق، سوف تندرج القضايا الميتافيزيقية في جملة القضايا الفارغة من أي معنى، ذلك أنه قد يجب أن يكون العدد اثنين زوجا كي تكون القضية صادقة، ولا يجوز أن يكون هذا العدد فردا وإلا تكون القضية كاذبة. أما أن يقال بأن العدد اثنين أبيض! فهذه القضية فارغة من المعنى. ولم تعد تصنف القضايا في إطار من الصدق والكذب فحسب، بل وجدت إلى جانبها قضايا لا تقبل مثل هذا النقاش. و«إذا أردنا أن نقصر كلامنا على ما يكون له معنى وجب اطراح الفلسفة التأملية وما يدور مدارها من صنوف التفكير بحيث لا يبقى لدينا في دائرة العلم إلا العلوم الطبيعية والرياضية»<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn19_1012" name="_ftnref19_1012">[19]</a></span><span style="font-size: large;">؛ وتحيل العلوم الطبيعية إلى العلاقات الحسية بين الوقائع، فيما تحيل العلوم الرياضية إلى الإتساق الداخلي بين الأفكار. وهنا يكمن جوهر التمييز بين القضايا التركيبية والقضايا التحليلية. إن هذه الاشكالية وإن طرحت في سياق القضايا ذات الواقع التجريبي، إلا أنه أريد بها إرجاع واقع القضايا الحقيقية إلى مجرد قضايا خارجية شخصية بصرف النظر عن مزاعم ذوي تلك الاتجاهات المناهضة. إن القضايا في القياسات حقيقية، وفي الاستقراءات خارجية. وإن إرجاع القضايا الحقيقية الى الخارجية، هو في الحقيقة إرجاع للقياس بكليته الى الاستقراء وإبطال للقضية المنطقية. وهذا الوضع يتأتى فقط من اختزال الحقيقة بالواقع الفيزيائي، واختزال معرفتها في البعد الحسي التجريبي. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2] يحيل الفيلسوف كل من الاستقراء والتمثيل إلى قياس ضمني، وفي ذلك إرجاع للتجربة إلى القياس العقلي، وإرجاع للجزئي الذي يقع في مجال العلم إلى الكلي الذي يقع في مجال العقل. والكلي هنا هو الكلي الطبيعي الذي يتميّز في أن جامعيته للأفراد الكثيرة تتأتى من جهة امتلاكه للصفة الذاتية والطابع النوعي، الأمر الذي يقضي بصدقه على أفراد الطبيعة صدقا لانهائيا لتماهيه معها. بخلاف ما لو أرجعنا التعميم الذي للكلي إلى جهة إبهام اللفظ؛ فإن في ذلك الإجراء تفريغ للكلي عن مضمونه النوعي، وإقرار بإمكان صدقه على أي شيء صدقا اعتباريا، وتحديد للصدق في إطار لا يتجاوز المواضعة وبصورة جزافية. إن الفيلسوف يظل مشدودا إلى الواقعية والهدفية في نظرته إلى الوجود، ولذلك يعمل على توكيد الكلي بصرف النظر عن حيثياته، وهو يؤكد على الطبيعة كماهية مهملة لا توجد في الخارج إلا بوصف الجزئية، ولا توجد في الذهن إلا بوصف الكلية. إنّ المفهوم متشخص من حيث إنه موجود، وهو كلي من حيث إنه مفهوم، ولا ينبغي الخلط بين الحيثيتين وبين الإقرار بالطبيعة في ذاتها. وسوف تطرح الاشكالية بصورة تتناسب مع هذا الواقع؛ إذ يُفترض في القضية الموجبة ضرورة وجود الموضوع وتحققه في الواقع الخارجي أو الواقع الذهني. ويمكن تنويع الحكم بحسب الوقائع الخارجية وفق اتجاهين: فقد ينصب الحكم على الأفراد من جهة تحققها الفعلي في الوجود الخارجي، وتكون القضية هنا خارجية بامتياز. وقد ينصب الحكم على الطبيعة الماهوية نفسها، وتكون القضية حينئذ حقيقية، وهذه هي القضية التي تنهض على أساسها الميتافيزيقا؛ وبحسب النظر الفلسفي، لا مجال للشك في وجود القضية الحقيقية وانطباقها النوعي على ما تصدق عليه. إن الكلي الطبيعي بالنظر المشائي يقوم على أساس التجريد، وأن الذهن يقوم بتجريد صور الأشياء المنعكسة في الحس، فيجرد ما به الإمتياز ويحتفظ بما به الإشتراك، وبذلك يتحقق الكلي الطبيعي. إن تصوير المراحل العلمية وفق تراتبية وجودية سوف يعطي منحىً ارتقائيا لهذه النظرية، يقوم على تفسير الإدراك الحسي بانعكاس صور الأشياء انعكاسا يتناسب مع مرتبة الحس. وتفسير الإدراك الخيالي بانعكاس الصور الحسية بما يتناسب مع مرتبة الخيال. وتفسير المفهوم الكلي بانعكاس الصور الخيالية بما يتناسب ومرتبة العقل. فالصور العلمية لا تتشكل نتيجة تجريد، وإنما على أساس تخلّق صور الأشياء بما يناسب كل مرتبة من مراتب العلم في وجود الانسان. وملخص الإدعاء، أن هذه النظرية تقوم على دعامة واقعية، وإلاّ لأمكن صدق أي شيء على أي شيء. وفي هذا ارجاع للفكرة الأرسطية التي تقر لعالم المحسوسات بقدر من الواقعية بحيث يتاح للعقل أن ينفذ – ومن خلال الأعراض والظواهر - إلى ماهيات الأشياء وطبائعها عن طريق التجريد والتعميم؛ فالحقيقة هنا هي معطى عقلي، لا حسي. وأما تفسير الكلي بأنه مجرد لفظ ورمز للموجودات، فإنه يستوجب – كما تقدم - المحدودية في الانطباق على الأشياء، والحال أن الكلي يشمل أفراده بنحو لانهائي؛ ما يكشف عن أن نظره هو الى الطبيعة الماهوية وليس الى الأفراد الخارجية، وفرق كبير بين مجرد الاشتراك في اللفظ، والاشتراك المعنوي. إن الخلل الفكري الذي تم الكشف عنه في سياق الخبرة الحسية، وتحديدا مع التجريبية الانكليزية وتفكيكها لنظام العلية، إنما يكمن في الفصل المنهجي ما بين المنحى الحسي والمنحى العقلي، وكان يفترض وفق السياق ذاته أن يتبدّى ذلك عن دور خلاق للعقل في التعبير عن الواقع، لا أن يسهم في تعرية الواقع عن الضرورات الحاكمة ما بين ظواهر الوجود. إن الواقع الفلسفي لا يتحدد وفق الإطار الفيزيائي المباشر، بل يتسع ليشمل طبائع الأشياء وماهياتها. وتعبّر القضايا الحقيقية عن طبيعة الشيء الماهوية، وإن كان ما يتلقاه الحس لا يتجاوز ظاهر تلك الطبيعة. وعلى هذا، فإن اللزوم - الذي يكتنف القضية الحقيقية والذي نجده بين طبيعة النار وإحراقها مثلا، ويتم التعبير عنه وفق مبدأ العلية -، لا يجعل من هذه القضية مجرد قضية تحليلية، بل إن هذا اللزوم – لكونه واقعيا، حقيقيا، نفس أمريا -، يدعم القضية الحقيقية بوصفها قضية تركيبية<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn20_1012" name="_ftnref20_1012">[20]</a></span><span style="font-size: large;">، بحيث تنطبق على الواقع الخارجي ولو بنحو اللزوم والعموم. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b> <span style="color: #c0504d;">السياق</span><span style="color: #c0504d;"> المنطقي للواقعية من الماهوية إلى الفلسفية</span></b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1] ترتكز نظرية التجريد الماهوي - كمعطى عقلي - إلى الأعراض الحسية بالدرجة الأولى، وإذا كانت المعرفة الحسية معرفة سطحية لا تبلغ قاع المعنى، ولا تميز بين ما هو ذاتي في الشيء أو عابر. إذن، على أي أساس يحصل التجريد؟ لنفترض أن الشيء يتصف بصفة ما على الدوام، إلاّ أنه يظل دواما للصفة بحسب إدراكنا لها، لا دواما لها في ذاتها، فالحس لا يكشف عن وجه الضرورة في توقف المعلول على العلة. وهذا الدوام في التوقف هو نتاج حكم العقل القاضي بأن دوام الاتصاف يكشف عن أن الصفة من شؤون الذات. وإذا كان يتوجب علينا أن نتحرى الأمور من تلك الزاوية التي تظهر فيها النار بدون أي تدخّل منا، وأن نراقب المشهد فقط من خارج، لنرى بحسنا المحايد والذي لا يملك أن يقحم أي تفسير متطفل على الحدث: ما الذي يحصل من تقارن النار بشيء آخر؟ وإذا استطعنا أن نقتصر على وصف الظاهرة فحسب، - وهو أمر لا يعين على فهم الظاهرة بنظر كانط -، فسوف لن نرى سوى ظاهرتين متعاقبتين، لاغير. وبعد أن نتدخل في الظاهرة سوف نضيف إليها بعدا جديدا، هو مفهومنا عن العلية، وهو القول بأن النار (بطبعها) تحرق. إذن مفهوم العلية هو نتاج فكرنا وتفسيرنا وإضافتنا الجديدة على الواقع. إننا نملي على الواقع طبيعته وماهيته. إذن، إن تدخّلنا في تفسير الظاهرة لن يكون حياديا ونزيها إزاء الحقيقة. وعلينا أن ننزع القيود التي نكبل بها الحقيقة من خارجها إذا ما أردنا أن نتحلى بصفة النزاهة؛ فلا لزوم ولا علية في نفس الحقيقة. وبهذا جرى استبعاد قبليات العقل الكانطية، مع الأخذ بتمييزه الاساسي الذي اعتبر سمة بارزة هنا: لن يكون لقولنا «النار بطبعها محرقة» أي محتوى حقيقي. فقط علينا أن نقول «النار تبدو لنا محرقة». إنها صفة لواقع خارجي نراه، وليست وصفا لحقيقة كما هي في ذاتها. وحينئذ لن يكون للقضية الحقيقية أي مضمون واقعي. إن القضايا الميتافيزيقية هي قضايا تفترضها تلك العلاقات اللزومية التي يمليها عقلنا ويسبغ عليها الواقعية، وبتعبير آخر، إن هذا الواقع تمليه الأشياء بحسب طبائعها، لا الأشياء في جزئياتها وأفرادها، ومع انهيار تلك الأسس المفترضة عقليا، سوف لن يعود لتلك القضايا أي أساس واقعي. إن انهيار أسس الاستدلال في المنطق التقليدي مرده إلى تخلخل المفهوم الماهوي؛ إذ يقوم الاستدلال الاستنباطي - وفقا للمنطق الصوري - على أساس مبدأ التلازم بين الموجودات والظواهر والناشيء عن ارتباط الحد الأصغر بالحد الأكبر بعلاقات واقعية نوعية قائمة بين الأشياء، هذه الملازمات إما أن تقع بين العلة والمعلول، أو بين معلولي علة ثالثة، أو بين أمرين متلازمين في الوجود. ومع إنكار الطبيعة، فلا تعود ثمة علاقات لزومية واقعية بين الاشياء، وبالتالي يفقد الاستدلال ركيزته التي يقوم عليها. وينتج عن إنكار الطبيعة انهيار مبدأ العلية؛ ذلك أن نظام العلية في عالم المادة مبني على وجود الطبيعة الفاعلة في الأجسام، تلك التي يعبر عنها بالصور النوعية للأشياء، والتي هي معطى عقلي لا غير، وأن إنكار أصل العلية الذي يعوّل عليه في القياس المنطقي، من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الميتافيزيقا بالشكل الذي نعهده في الفلسفات الوضعية والتحليلية. إن الاقتصار على المعرفة الحسية وسياقها التفكيكي من شأنه أن يجعل معارفنا الماهوية تتهاوى، ولم يكن تفسير هيوم لأصل العلية بتعاقب الظواهر، وللضرورة الموجودة في الأصل بعادتنا الذهنية، تفسيرا خاطئا في حدود العلاقة المنطقية التي يمليها الحس، بل جاء ذلك من جهة تفريغ المحتوى الفكري للظاهرة من مضمونها الماهوي دون إرسائه على قاعدة المعرفة الفلسفية التي تظل بمنأى عن معاول التمرد التجريبي. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2] ويعيب كانط على الفلسفة وقوعها في سياق تأملي بحت، وأنها تتحدث عن الواقع كما لو كانت تملكه «في حد ذاته»، والحال أنه ليس سوى انعكاس الواقع في الذات؛ هو الواقع «كما يبدو لنا أنه كذا»، أي هو فكرنا عن الواقع. وعلينا أن نفهم كلام كانط من خلال مراجعة الأسس التي ينبني عليها الواقع الذي نؤمن به، ذلك الواقع القائم على أساس العلاقات اللزومية بين الشيء وما يقتضيه طبعه وحقيقته. إن أثر النار ملازم لها، والمقصود هنا أثرها الخاص الذي لها بمقتضى طبعها وحقيقتها. ويبدو أن العصر الذي عاش فيه كانط كان يسائل الميتافيزيقا في مبررات وجودها، وينظر بريبة شديدة إلى مفهومنا عن العلة، ويشكك بالأسس اللزومية التي نبني عليها معرفتنا بالواقع، ولهذا فقد أخرج كانط «العلية» من دائرة الوجود الخارجي، وجعل منها قالبا عقليا ومعرفة قبلية من شأنها أن تفسر لنا المعرفة التجريبية. إن الشيء في حد ذاته، إن أشير به الى الطبيعة النوعية للشيء، فهذا مما لا سبيل لنا إليه، بعد أن كانت ذاتيات الشيء غير معلنة للعقل خارج إطار المواضعة القائمة على الأعراض، أي أن المعرفة هنا تظل ناقصة، وتظل في طور الإعداد والتحفيز والتهيئة، وأما إن إريد به مرتبة وجودية هي مرتبة ذات الشيء، مقابل المرتبة الافتراضية للشيء، - كما سيأتي قريبا - فهذا المفهوم فلسفي لا ماهوي، وهو قابل للمعرفة الكاملة، ويستند إلى الإقرار بالموضوعية التامة للوجود في مقابل العدم، وإلى أم القضايا التي تشكّل حجر الزاوية في المعرفة اليقينية. وعلى هذا الأساس يمكن النظر فيما أفاده كانط من أن مرجع نظرية التطابق إلى تحصيل الحاصل؛ وأنه لن يكون باستطاعتنا سوى أن نقرر ما إذا كانت معرفتنا بالموضوع تتفق مع معرفتنا بالموضوع!. إن المقابلة هنا تقع بين «معرفتنا بالموضوع» و«معرفتنا بمعرفتنا بالموضوع»، والحكم في المعرفة الثانية ينصب على وجود المعرفة الأولى المرتكزة مباشرة إلى الماهيات، أي أننا نحكم على طبائع الأشياء بالوجود، وهو حكم على المعرفة الناقصة بالمعرفة الكاملة. ويرجع التطابق هنا إلى الحكم على الكلي الطبيعي بحكم فلسفي لا يستقل في التمثل الخارجي عن موضوعه. إن مثل هذا التطبيق يضع أمامنا عراقيل إضافية، فإن المفهوم الفلسفي وإن أضاف شيئا واقعيا الى المفهوم الماهوي، أو كشف عن واقعية ذلك المفهوم، إلا أنه مع إنكار الواقعية الذهنية للكلي الطبيعي الذي هو أساس المفهوم الماهوي، سوف ينفتح المجال لانكار المعقولات الفلسفية، كونها ثانوية ومنتزعة من حيثياته. وسوف لن يسعفنا الإدعاء بأن عملية التجريد تقوم على أساس واقعي؛ إذ لا نجد تحديدا لهذا الأساس الواقعي سوى تلك الحجة الداحضة: وإلا لأمكن صدق أي شيء على أي شيء. ولا ينفي إلزامية تلك الحجة سوى زعزعة الفكر بإرجاعه إلى أمر اعتباري ما كاللغة، أو نفي حيادية الواقع وإرجاعه إلى ما تبدعه النظرية ويمليه التفسير. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[3] ويبدو واضحا أن العقل الاسلامي لم يكن مهجوسا بالاشكالية الكانطية حين قرّر أن الواقع الذي تقاس إليه الحقيقة هو الواقع النفس الأمري. ومع ذلك فقد جاء تقريره متناسبا مع تجاوز تلك الاشكالية وفق ضمانات ميتافيزيقية تؤسس للحقيقة. إن ملاك صدق القضية الحقيقية ليس هو في تطابقها مع الأفراد أو الطبائع الكلية، وإنما هو في مطابقتها مع الواقع النفس أمري، أي أنها تتجاوز الأفراد والأنواع إلى الوجود، لتكون مع المرتبة الوجودية للشيء بحسب ذاته، لا بحسب الافتراض. ونفس الأمر هو حد ذات الشيء، بمعنى أن المحمول لا ينتزع – ابتداءا - من الطبيعة الماهوية، بل من المرتبة الوجودية لذات الموضوع لا غير. وعلى هذا، لا تستند الحقيقة إلى المفاهيم الماهوية التي يكون منشأ تطابقها مع الواقع هو كونها منتزعة من حيثياته على نحو التجريد أو الارتقاء، وإنما تتمثل فلسفيا بالمفاهيم الثانوية التي تتشكل منها هوية القضية الفلسفية؛ وبناء على أصالة الوجود، تغدو الحقيقة غائبة تحت ستار الماهيات، وتنتظر من يلمح إليها، وأي تردد في حقيقة الماهية لن يضر بالحقيقة الفلسفية المتقومة بالوجود حصرا. لذلك، يمكن أن نزعم هنا بأن المفهوم الفلسفي لا ينتزع من المفهوم الماهوي الذي نحصل عليه من المقارنة بين المحسوسات؛ ذلك أن إجراء أي مقارنة هو فرع وجود تلك المحسوسات في المرتبة السابقة<a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn21_1012" name="_ftnref21_1012">[21]</a></span><span style="font-size: large;">، وما يحصل لنا هو أننا نلتقط أولا أثرا من الأشياء، كحرارة النار، أو برودة الثلج، وهذا الأثر ينبئنا مباشرة أن ثمة شيء حقيقي وراءه، وبذلك تتشكل معرفتنا بالخارج وفق سياق منتظم بين الظواهر وانعكاساتها في الحس بحيث يصح القول أن هذا الظاهر هو امتداد لذلك الظاهر، وأن هذا الوجود هو من ذلك الوجود، وان انتظام الوجودين بنحو لا يقبل التفكيك بينهما هو ما يطلق عليه مبدأ العلية، فنستفيد وجود خاص من وجود خاص، وهذا المعطى الأولي الذي هو الوجود هو عبارة عن معرفة فلسفية خالصة. وفي مرتبة لاحقة يمكن أن نستفيد اختلاف المؤثرات من اختلاف الآثار، وهذا المعطى الثانوي هو عبارة عن الخصائص الماهوية، وهي تنتظم في مداركنا وفق سياق من الخصائص يحتفظ بصورها التجريدية أو الارتقائية بنسب ثابتة لا تتخلف أو تتخلف في الجملة. إن الصور العلمية حاضرة في ذواتنا ومراتب علمنا الوجودية، وإنما نستطيع أن نقارن بينها ونلحظ تطابقها؛ فقط بعد كونها حاضرة بوجودها لدى النفس؛ ويمكن للعقل أن ينتزع من لحاظ المقارنة والمطابقة أحكاما تتعلق بالوجود بمعناه الفلسفي، وما نظام الضرورة والعلية بين الأشياء إلا حكم فلسفي لا يعمل إلا في نطاق الموجودات الحاضرة لدى النفس. فإن الحس المادي لا يتضمن الوعي، وهو يكون معرفة فقط في اعتراكه مع النفس وفق المراحل التي تم تصويرها في نظرية التجريد وتحت نظر العقل. فالحس مرحلة اعدادية للمعرفة لا غير، وما لم تتدخل الذاتية في الحس فلن يبلغ انعكاس الواقع مستوى الادراك إلا كما ينعكس الشيء في المرآة أو عين الميت!. ومن شأن ذلك أن يضع المعرفة الماهوية في رتبة لاحقة على المعرفة الفلسفية في التصور فضلا عن التصديق، وليس كما درج الترتيب عليه من جعل المعقولات الماهوية سابقة على المعقولات الفلسفية والتي تسمى بهذا الاعتبار ثانوية. وحينئذ لنا أن نشكك في اعتبار المفاهيم الفلسفية منتزعة من المفاهيم الماهوية (أصالة الماهية)، وأن نقرر بذلك أسبقية الوجود على الماهية وأسبقية الواقع على الفكر (أصالة الوجود). </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[4] وإنما كانت معرفتنا بالخارج منتظمة وفق سياق غير قابل للتفكيك بين الظاهرة والظاهرة، لأن الوجود يشبه أن يكون بنية وليس ظاهرة، وهو وضع علائقي لا ترسّب ماهوي، وهذا ما يمكن تفسيره وفق مبدأ الجعل البسيط السيال. ذلك المبدأ الذي يضفي وضعا فلسفيا علائقيا على الوجود، وما الماهية سوى ضبط عقلاني مرحلي لذلك السيلان الذي يجتاح الكون برمته. إن العلة تحتوي على المعلول، والمعلول ينبغي أن يلحظ في رتبة العلة، هكذا توصينا اللحظة الفلسفية العامرة في الحكمة المتعالية: «إن الهوية الجوهرية مما يشتد ويتحرك في جوهريته حركة متصلة على نعت الوحدة الاتصالية، والواحد بالاتصال واحد بالوجود والتشخص. وقول المشائين أن كل مرتبة وحد من الأشد والأضعف نوع آخر، وإن كان حقا، لكن بشرط أن لا يكون ذلك الحد حدا بالفعل، لكن من الحدود المفروضة في الاشتداد..» <a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftn22_1012" name="_ftnref22_1012">[22]</a></span><span style="font-size: large;">. وهي تنبئنا بالوجود المادي على صورة وجود بسيط سيال يحتفظ بالوحدة الاتصالية، ويحفظ الواقعية بين ماضي الظاهرة ومستقبلها، فما الصورة إلا مادة وقد تحولت، وما المعلول إلا علة وقد انبثقت، وحين لا يعود للزمن بماضيه ومستقبله أي اعتبار فلسفي، فإن تلك اللحظة العامرة سوف تتكشف عن التقاء جميع الظواهر الوجودية السيالة في وحدة بسيطة جامعة قابلة لأن تشكل معيارا للحقيقة الكلية. إن تصدير الفلسفات بالمنطق هو السبب في عقم الفلسفة، فالمعرفة الفلسفية – خلافا للماهوية - لا تخضع للمنطق. نعم، بعد تحرير المنطق من الترسبات المفهومية، وايجاد الوضع العلائقي (المنطق لا يملك إلا أن يكون علائقيا لا سكونيا) يمكن لنا حينئذ أن نتكلم عن تطابق ما بين المعرفة الفلسفية والواقع. إن الاقتصار على الملاحظة الحسية سوف يوقعنا في تفكيك مناطات العلية؛ بأن نشرّح العلة في النظام المادي إلى ثلاث تصورات: وجود العلة، اقتضاء الفعل، وانفعال المنفعل. ولا شك أن مضمون العلية يتحقق من خلال العاملين الأولين، وهما عاملان لا يقبلان التفكيك، ولذلك لا يقعان تحت الحس بوصف أنهما ظاهرتان. إن مرجع هذين العاملين هو إلى حقيقة واحدة منها يتشكل جوهر العلية. ويبقى العامل الثالث رهنا لقابلية الانفعال، ومشروطا بشروطه، وتلك القابلية يمكن أن تقع تحت مرأى ومسمع من الحس، وتشكل ظاهرة مترتبة على الظاهرة الأولى. وبالتالي يلحظ التفكيك في جهة المعلولية لا في جهة العلية. فلا مجال للتفكيك بين العاملين الأولين اللذين يشكلان جوهر العلية. وبهذا يتضح أن ما وقع منفيا في الفلسفات المتغربة غير ما وقع مثبتا في الفلسفة الاسلامية. وإذا كان من وظيفة العقل العلمي بالمعنى الحصري أن يشكك في الطبيعة النوعية للجوهر بوصفها من بنية العقل لا الواقع، وأن يشكك بالتالي في علية الطبائع لآثارها بحكم ما هو حاصل في ظواهر الوجود من تركيب، فإن العقل الناظر إلى الحقيقة الوجودية البسيطة، وسيلانها على امتداد الزمان، لا يرى في نظام العلية سوى حقيقة فاردة لا تخضع للتركيب والتفكيك الحقيقيين. وهذا يبقى خاضعا لنفس الأمر؛ بوصفه العقل الكلي المجرّد في تعريف الفلاسفة، وهو بهذا يكون معيارا للحقيقة بكل مفرداتها. لقد شكل الجهد الفلسفي للفكر الغربي عموما تفريغا هائلا لمحتويات الأشياء من جوهرها الواقعي الذي يفترض لها الثبات، وترك الإنسان كحالة هلامية مفرّغة من المعنى والقيمة في مواجهة مفتوحة مع التاريخ والزمن، وفي الجانب الآخر من العالم كان الشيرازي يجاري تلك الصيرورة بطريقة مختلفة، فيثبت الجوهر في صميم الأشياء، ويسبغ عليه دفقا سيّالا يسلب عنه الثبات الحيادي، ويدخله إلى مجرى التاريخ الحافل بالصيرورة الهادفة. تكمن الميتافيزيقا إذن، في إيمان البشرية بالحكمة الكونية الهادفة، تلك الحكمة التي تفترض إيمانا راسخا لا يتزلزل بأنّ أشياء العالم موجودة على التمام والكمال، وأن أي قصور في هذا العالم يرتد إلى قصور معارفنا ومداركنا وإلى محدودياتنا. إن الميتافيزيقا هي حصيلة جمع بين فكرتين لا تقبلان أن نشيح بوجوهنا عنهما، هما إيماننا بالكمال والانسجام والتناسق في وقائع الوجود بصورة حتمية، وهو يرتد الى الإيمان بالله؛ الحقيقة المطلقة التي جبلنا عليها، وايماننا بهدفية العالم الذي نعيش فيه على مستوى المعرفة والوجود، وكل هذا يؤول إلى أصل متين تمارسه البشرية كافة بوعي أو بدون وعي، وهو نفي السفسطة المطلقة من مجال الوعي الارتكازي الذي تنهض عليه ليس فقط فلسفات العالم برمتها، بل جميع الأنظمة العلمية والمعرفية للحياة البشرية كافة. ونستطيع أن نزعم أن منطق الخفاء هو السمة البارزة في الميتافيزيقا، على أن تصحبه سمة أخرى هي سمة التوكيد، وهي نوع من التقديس لذلك المخفي، والمجهول، والذي يقودنا فضولنا العلمي إليه بحماس وإعجاب شديدين، فإن الشيء الذي نألفه ونعتاده يفقد بريقه وسحره، وما لم نألفه نتعلق به إلى حد التقديس الخفي، إن ذلك الفضول يقودنا دوما إلى تجاوز كل ما هو مألوف طالما أن المعرفة هي في المحصلة الأخيرة مجرد نشاط انساني. إننا نمتلك في عقولنا هامشا يبدو لنا أكثر سعة من الهامش الواقعي المدرَك، ولربما لو أتيح لنا أن نطلع على الواقع كله لتساوى الوجود الواقعي مع العقل، وحيث إن حصول ذلك مشروط باللانهائية، فإن قدر الإنسان الذي لن ينفك عنه يوما في هذا العالم هو إدانة الميتافيزيقا الغيبية، تلك الميتافيزيقا التي يتطلع إليها دوما وإلى حد الإدمان. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"> </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"> </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref1_1012" name="_ftn1_1012">[1]</a></span><span style="font-size: large;"> وهذا في مقابل البحث عن الأمور المشروطة بالمادة مفهوما ومصداقا (الطبيعيات)، أو الأمور المشروطة بالمادة مصداقا وإن كانت مستغنية عنها مفهوما (الرياضيات).</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref2_1012" name="_ftn2_1012">[2]</a></span><span style="font-size: large;"> انظر: شرح المنظومة، مرتضى مطهري، ط2، تج عمار ابو رغيف، 2003م، دار الهدى – بيروت. ص344.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref3_1012" name="_ftn3_1012">[3]</a></span><span style="font-size: large;"> شرح المنظومة، مصدر سابق، ص185.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref4_1012" name="_ftn4_1012">[4]</a></span><span style="font-size: large;"> الرسائل الفلسفية (الفلسفة الأولى)، الكندي، طبعة عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1953، ص106 - 112.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref5_1012" name="_ftn5_1012">[5]</a></span><span style="font-size: large;"> الإشارات والتنبيهات، ابن سينا، ج2، ط1، 1375 ﻫ، مؤسسة نشر البلاغة - قم، ص367.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref6_1012" name="_ftn6_1012">[6]</a></span><span style="font-size: large;"> تاريخ الفلسفة اليونانية، محمد عبد الرحمن مرحبا، ط1، بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993م. ص232.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref7_1012" name="_ftn7_1012">[7]</a></span><span style="font-size: large;"> (5، 1، 9). نجد هذا المعنى متكررا في مزاولة السهروردي لحكمة الفرس القدامى، وفي تمجيد الشيرازي لفلاسفة الإغريق السابقين على أرسطو، إيمانا منه بأن الحقيقة بهذا المعنى سابقة على أرسطو.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref8_1012" name="_ftn8_1012">[8]</a></span><span style="font-size: large;"> محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الكمالي، ص135.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref9_1012" name="_ftn9_1012">[9]</a></span><span style="font-size: large;"> الفلسفة العربية مشكلات وحلول، د. علي أبو ملحم، بيروت، مؤسسة عز الدين، ط1، 1994م. ص174-175. أيضا: الفارابي المعلم الثاني، عبده الحلو، ط2،، بيروت، بيت الحكمة، 1977. ص39.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref10_1012" name="_ftn10_1012">[10]</a></span><span style="font-size: large;"> شرح حكمة الاشراق، شهرزوري، ط1، تهران، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، 1372 ﻫ ش ص4.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref11_1012" name="_ftn11_1012">[11]</a></span><span style="font-size: large;"> انظر: المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربي، 1979م. المطابع الأميرية – القاهرة. ص14، 210-211.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref12_1012" name="_ftn12_1012">[12]</a></span><span style="font-size: large;"> روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، إتيان جيلسون، تج إمام عبد الفتاح إمام، 1972م. مكتبة سعيد رأفت – القاهرة. ص21-22.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref13_1012" name="_ftn13_1012">[13]</a></span><span style="font-size: large;"> عن ديكارت وأفكاره عن الحقيقة، راجع: مقال عن المنهج، ديكارت، تج محمود الخضيري، 1930م. المطبعة السلفية – القاهرة. ص51 وما بعدها. أيضا: ديكارت والعقلانية، جنفياف روديس لويس، تج عبده الحلو، ط4، 1988م. منشورات عويدات – بيروت باريس. ص30 وما بعدها. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref14_1012" name="_ftn14_1012">[14]</a></span><span style="font-size: large;"> عن كانط وأفكاره، راجع: نقد العقل المحض، كانط، تج موسى وهبة، مركز الإنماء القومي – بيروت. المدخل، ص54 – 65. أيضا: كنط وفلسفته النظرية، محمود زيدان، ط3، 1979م. دار المعارف – القاهرة. ص51 – 72.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref15_1012" name="_ftn15_1012">[15]</a></span><span style="font-size: large;"> اسس الفكر الفلسفي المعاصر، مصدر سابق، ص122.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref16_1012" name="_ftn16_1012">[16]</a></span><span style="font-size: large;"> عن جون لوك وأفكاره، راجع: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ابراهيم مصطفى ابراهيم، لا ط، دار الوفاء – الاسكندرية. ص335.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref17_1012" name="_ftn17_1012">[17]</a></span><span style="font-size: large;"> عن باركلي ونظرياته في انكار الجوهر المادي، انظر: فكرة الالوهية في فلسفة باركلي، فريال خليفة، ط1، 1997م. مكتبة الجندي – القاهرة. ص69.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref18_1012" name="_ftn18_1012">[18]</a></span><span style="font-size: large;"> حول التجريبية الإنكليزية وسياقاتها اللاحقة، راجع: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ابراهيم مصطفى ابراهيم، لا ط، دار الوفاء – الاسكندرية. أيضا: الايديولوجية المقارنة، مصباح اليزدي، 2010م، دار الولاء – بيروت، الفصل السابع والثامن والتاسع. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref19_1012" name="_ftn19_1012">[19]</a></span><span style="font-size: large;"> موقف من الميتافيزيقا، زكي نجيب محمود، ط4، 1993م، دار الشروق – القاهرة, ص3.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref20_1012" name="_ftn20_1012">[20]</a></span><span style="font-size: large;"> إن القضايا الحقيقية قد تكون من المعقولات الماهوية كما قد تكون من المعقولات الفلسفية. انظر شرح المنظومة، مصدر سابق، ص139. </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref21_1012" name="_ftn21_1012">[21]</a></span><span style="font-size: large;"> ولو بالوجود الذهني؛ ذلك أن نفس الأمر يشمل الخارج العيني والداخل الذهني، باعتبار أن العلم بنفسه واقع عيني متحقق في الذهن.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><a href="http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=8364358630498483486&postID=4471428951320392690#_ftnref22_1012" name="_ftn22_1012">[22]</a></span><span style="font-size: large;"> انظر: المشاعر، الشيرازي، ط1، 2000م، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت، ص47.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"> </span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"> </span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-81580642589713463222010-10-25T22:22:00.001+03:002010-12-25T15:35:05.042+02:00إشكالية الوصل والفصل بين التشيع والتصوف<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">في البحث عن علاقة التشيع بالتصوف، ينبغي أن نضع في الحسبان أن التصوف بحسب ما يفيدنا التاريخ لا يختص بمذهب دون غيره، فالشيعة منهم متصوفة ومنهم غير متصوفة، والمتصوفة فيهم الشيعة وفيهم غير الشيعة. وإذا كان المتصوفة من الشيعة هم قلة نسبة إلى المتصوفة السنة بحسب نقل المستشرق نيكلسون [1]، فذلك يرجع إلى اعتبارات تاريخية خاصة تحكمت بذاكرة التاريخ، واستحوذت على دلالات المصطلح المتعاقبة لمفهومي التشيع [2] والتصوف سلبا وإيجابا. ومهما يكن، ليس التصوف مذهبا من مذاهب السنة، كما ليس هو فرقة مستقلة عن سائر الفرق الإسلامية.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: red;"><b>التصوف في نطاق التوظيف</b></span><br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تبدأ مرحلة التصوف بحسب الدراسات المتداولة عموما بحدود القرن الثاني الهجري، وتحديدا مع الحسن البصري بصورة خاصة، وهي تتجاهل في ذلك "صوفية" المرحلة الإسلامية المبكرة، بحجة أن لقب الصحابي غلب على لقب الصوفي أو بغير ذلك. ففي مرحلة ظهور الدعوة الإسلامية والتي تمتد خلال القرن الأول الهجري، كان التصوف مفعما بالمعنويات، مصطبغا بمنحى باطني عميق، مشتملا على الجهاد في سبيل الله، وكل ما يحمله العرفان من قيم ودلالات راقية. وأشخاص هذه المرحلة هم النبي (ص) نفسه، والأئمة (ع)، وجملة من الصحابة والخواص، من قبيل أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر والمقداد وكثير من الشخصيات العرفانية المبكرة والتي لم تتحدث المصادر عنها كثيرا، من أمثال مالك بن حارثة. وتمتد هذه المرحلة المهمَلة مع رشيد الهجري وأويس القرني وكميل بن زياد وبرير وحبيب بن مظاهر وأمثالهم، وقد تضمنت المصادر الروائية إشارات عن هؤلاء، كما في قصة همام الذي قضى نتيجة تأثره بوصف المتقين في خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ومنهم الربيع بن خثيم خال همام وأحد الزهاد الثمانية الذي صعق ووقع مغشيا عليه عندما سمع قوله تعالى: (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) فرقان / 12، ومنهم أويس القرني الذي شهق شهقة غاشية عندما سمع قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) الدخان / 40، وأمثال هؤلاء ممن عاشوا الروحانية الإسلامية العالية بما تلقوه من مولاهم علي بن أبي طالب (ع) كثيرون. وإذا تجاوزنا المراحل المتعاقبة لنمو التصوف بعيدا عن منازعات السلطة، وإن كان كثير من المتصوفة قد نالوا حظوظهم التي لا يحسدون عليها بفعل الاحتكاك بالسلطة ولو عرضا. فقد اكتسب التصوف طابعه المذهبي "السني" بصورته الكاملة في مرحلة الانتظام في الطرق والخوانق، وذلك بفعل عدة عوامل وأسباب سلطوية _ مذهبية تعود إلى زمن الأيوبيين والمماليك تحديدا. ومن هنا يذكر التاريخ أن الطرق الصوفية انتقلت من بلاد المغرب العربي إلى مصر وبلاد الشام ثم إلى العراق وفارس، وذلك بتشجيع من السلطان الأيوبي نفسه، فكانت للصوفية خانقاه "سعيد السعداء" التي دعمها صلاح الدين في القاهرة وكانت أول خانقاه أسست في مصر. يقول سميح عاطف الزين: "ومع اشتداد تيار الهجرة إلى مصر وفد إليها جماعة من هؤلاء الأعلام في طليعتهم عبد الرحيم القنائي وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري وأحمد البدوي وغيرهم". ونشأت أول طريقة صوفية في مصر في مدينة "قنا" أنشأها الشيخ عبد الرحيم القنائي الذي توفي بها عام (592 هـ). وخلال العهدين الأيوبي والمملوكي برزت الطرق الصوفية الأساسية، وأهمها: الشاذلية، القادرية، القلندرية، العيسوية، المولوية، النقشبندية. وكانت غاية السلطة المملوكية التي كانت مؤلفة من قادة عسكريين لا يمتون بصلة إلى عائلة الرسول (ص)، أن يفرضوا احترامهم على الناس فحصروا عددا كبيرا من المسلمين في أعمال وممارسات بعيدة عن السياسة وأعمال الدولة، ليأمنوا بذلك انتفاضات دينية أو معارضات سياسية تؤثر على حكمهم. ويقال أن عدد المتصوفة في عهد المماليك زاد على المائة ألف متصوف كانوا قابعين في خوانقهم بعيدين عن السياسة والسلطة الحاكمة. واعتنق المماليك فكرة "التصوف مقبرة السياسة". وذكر الدكتور عبد المنعم الحفني في كتابه (الموسوعة الصوفية) اسم مائة وإحدى وعشرين طريقة صوفية معظمها فروع عن الطرق الأساسية المذكورة، ومهما يكن فقد كان على رأس الأهداف المنشودة للترويج لمثل هذا التوجه هو إجراء غسل دماغ جماعي طال الأمة بأسرها لغايات متعلقة بالسلطة وان كان ذلك كله قد تم تحت ستار الدعوة إلى الدين والمذهب. وينبغي الإشارة إلى أن معظم الذين كتبوا في التصوف اعتبروا أن القرن التاسع الهجري تقريبا هو المرحلة الأخيرة من مراحل التصوف، فأهملوا بذلك المنحى العرفاني المتأخر والمتمثل بما أنتجته جهود الكثير من عرفاء مدرسة أصفهان وما تلاها. ومن الجدير بالذكر أن التصوف المذهبي في النطاق "الشيعي" ازدهر إبان الحكم الصفوي في إيران والذي اعتمد مذهب التشيع مذهبا رسميا للدولة، فقد شجعت الدولة الصفوية من انتشار هذا التيار، وان كان ذلك – بحسب المحللين في التاريخ - بدافع من العوامل التاريخية والإجتماعية والمذهبية. ومهما يكن فقد عملت هذه الدولة الفتية على جمع وحماية رجال الفكر وبخاصة أصحاب المنحى العرفاني منهم. وصادف المذهب الباطني في إيران تربة خصبة صالحة للنمو والإزدهار، ثم ما لبث أن أصابه الضمور والذبول أمام سلطان الفقه المتمادي آنذاك. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن التصوف لم يكن ليحظى بالرضا غالبا سواء على صعيد التشيع الرسمي أو التسنن كذلك، كما يتضح أن القطيعة الطارئة بين التشيع والتصوف يعود سببها إلى التوظيف السلطوي للتصوف في مناهضة التشيع ولاسباب سياسية غالبا، فالطرق الصوفية كانت قد انتشرت بفعل الترويج الدعائي المذهبي الذي افتعله السلطان لخدمة أهدافه، ومذاك كان التصوف يدعم مذهبا لصالح آخر [3]. وأدى بعد ذلك إلى حركة ارتدادية تجاه الشريعة تدعو إلى نبذ الظاهر واستباحة المحرمات، وعلى هذا الأساس اعتبر التشيع موقفا مؤسسا من التصوف عامة يمكن تلخيصه بأنه موقف أهل الشريعة التقليدي.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>إشكالية الوصل<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">وفي مجال ترسيم العلاقة بين التشيع والتصوف، فإن وجهة النظر إلى التصوف كانت تتحكم بطبيعة العلاقة المرسومة بينهما، وحيث تكون النظرة الى التصوف سوداوية، فإنه يجري ربط التصوف بالتشيع ربطا مفتعلا يقوم على مجرد التشابه ولو في بعض الوجوه العابرة (الإمامة والقطبية، العصمة والحفظ، المهدوية، زيارة الأولياء..). نعم في المجال الذي لا تكون النظرة إلى التصوف سوداوية، يستبعد التشيع تماما عن مجالات البحث والمقارنة. وعليه، فقد عمدت الدراسات الأكثر تداولا إلى تصوير الحدث العلائقي بين التشيع والتصوف تصويرا مشبوها في الغالب،، فأساءت إلى المعايير العلمية والموضوعية في الوصل والربط على نحو كان الهدف موجّها منذ البدء الوجهة التي يرتئيها الكاتب والتي كثيرا ما كان يعتورها التبسيط في الطرح والسطحية في المعالجة والتشوّش في الرؤية بفعل المواقف الشخصية والدوافع الاستنسابية والتي كانت تتشكل على أساس خلفية الكاتب الذهنية وتظهر في حكمه على الأشياء بصورة مسبّقة. وهكذا يربط السراج الطوسي في كتابه "اللمع" علم الصوفية وخُلقهم بالإمام علي (ع)، متجاوزا في ذلك حقيقة أن الأئمة الإثني عشر - دون غيرهم - اختصوا بعلم لدني ناشئ من اختصاصهم بمهام خلافة الرسول (ص) في قيادة المسلمين دينيا ودنيويا، بينما يحصل المتصوفة علومهم بالكسب كسائر الناس، وهم بالدرجة الأولى أصحاب أحوال لا أصحاب علوم، والعلم اللدني الذي تزعمه الصوفية لأقطابها لا يضبطه عدد خاص. ومن جهة ثانية يربط عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته مفهوم القطب عند المتصوفة بمسألة الإمامة عند الشيعة، متجاوزا في ذلك المساحة التي تفصل بينهما ؛ فإن القطب عند الصوفية يتربع على مملكة باطنية اصطنعها المتصوفة، بينما الإمام عند الشيعة يقوم بتولي ورعاية أمور المسلمين السياسية والدينية كما كان للرسول (ص). ومن جهة ثالثة استغل أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" فكرة المهدوية موظفا لها في خدمة الفكر الصوفي، مع ما في ذلك من القفز فوق الحقائق والوقائع، لا اقل فان المهدوية ليست من اختصاص الشيعة بل هي عقيدة إسلامية يؤمن بها جميع المسلمين بلا تفاوت في اصل المعتقد. ومن جهة رابعة ذهب كامل مصطفى الشيبي في كتابه "الصلة بين التصوف والتشيع" إلى ربط التصوف بفكرة العصمة والشفاعة وزيارة قبور الأولياء عند الشيعة. متجاهلا حقيقة أن العصمة عند الشيعة وإن كان قد يقابلها الحفظ عند الصوفية، إلا أن أكثر الصوفية لا يعتقدون بالحفظ ولا بالقطب وإنما يكتفون بإتباع الشيوخ، فلا وجه لإطلاق القول بان الصوفية متأثرة بفكرة العصمة عند الشيعة. وهناك ما لا يحصى من التطفلات في هذا المجال، كدعوى المولوي سلامت علي الذي لما لم يتمكن من نفي دلالة حديث الغدير على الإمامة، حمل الإمامة المستفادة من هذا الحديث الشريف على إمامة التصوف، فقال ما تعريبه: " لا شك عند أهل السنة في إمامة أمير المؤمنين وان ذلك عين الإيمان، لكن ينبغي أن يكون مفاد أحاديث الغدير الإمامة المعنوية لا الخلافة، وهذا المعنى هو المستفاد من كلام أهل السنة وعلماء الصوفية، ومن هنا كانت بيعة جميع السلاسل منتهية إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعن طريقه تتصل برسول الثقلين " [4]. ومن الواضح أن هذا التأويل لا يمكن الركون إليه، وإلا فلو جاز تأويل حديث الغدير وحمله على الإمامة الباطنية لجاز تأويل ما يدل على نبوة رسول الإسلام وحملها على الرفعة - وهو المعنى اللغوي للفظ – وصرفها عما يفيد المعنى الاصطلاحي للنبوة والوحي، ومن الواضح بطلان ذلك. مضافا إلى أن الإمامة ظل الرسالة، ومبناها على الإظهار لا الإخفاء [5]. وعليه فهذه المحاولات وغيرها تستند في الربط بين التصوف والتشيع على مجرد التشابه العابر، وذلك من خلال العبث بالمفاهيم الخاصة بعيدا عن المعايير العلمية الموضوعية، إذ مجرد التشابه لا يجعل أحد الفريقين مرتبطا بالآخر هذا النحو من الارتباط، وإلا فلا تكاد تخلو المذاهب الإسلامية من تشابه مع غيرها من مذاهب الأديان الأخرى وذلك في تنويعاتها الكبرى وفي بعض الوجوه، ولكن لا ينبغي أن يفسّر ذلك بوجود ارتباط وتأثر فيما بينها بالضرورة كما لا يخفى على المنصف اللبيب. ومهما يكن، فإن هذه القنوات المفتعلة للربط المبتذل لا تنم عن ذكاء ونفاذ كبيرين في ذهنية أصحابها، تماما كما هو حال ما توحي به المعطيات الأكثر حداثة في هذا المجال والتي سيتم التعرض لها في مقالة لاحقة بإذنه تعالى، وإنما اكتفيت هنا بترديد هذه المقولات التقليدية من باب الإشارة والتمهيد لا أكثر.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>إشكالية الفصل<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">وكما وقع اللغط على مستوى الربط بين التصوف والتشيع، وقع أيضا على مستوى الفصل بينهما، فقد ذهب البعض إلى الفصل بين التشيع والتصوف على أساس موقف الأئمة (ع) الرافض للتصوف، مستندا في ذلك إلى الرصيد الكبير من بياناتهم (ع) التي يتجلى فيها موقف الرفض للتصوف بوضوح، وهذه الروايات عديدة، نذكر منها على سبيل المثال: ما روي عن الإمام الصادق (ع) حين سئل عن قوم ظهروا في زمانه يقال لهم (صوفية) قال (ع): "إنهم أعداؤنا، فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم، وسيكون أقوام يدعون حبنا ويميلون إليهم ويتشبهون بهم ويلقبون أنفسهم بلقبهم وأقوالهم، ألا فمن مال إليهم فليس منا، وأنا منه براء ومن تنكر لهم ورد عليهم، كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله" [6]. وما روي عن الإمام أبي الحسن العسكري (ع) أنه قال: "سئل أبو عبد الله الصادق (ع) عن حال أبي هشام الكوفي، فقال: انه كان فاسد العقيدة جدا، وهو الذي ابتدع مذهبا يقال له: التصوف، وجعله مقرا لعقيدته الخبيثة، وأكثر الملاحدة، وجنة لعقائدهم الباطلة". وأبو هشام هو أول من عرف بلقب الصوفي [7]. وما روي عن الإمام الرضا (ع) قوله: "لا يقول بالتصوف أحد إلا لخدعة أو ضلالة وحماقة" [8]. وما روي أن قوما من المتصوفة دخلوا بخراسان على علي بن موسى الرضا (ع) فقالوا له: إن أمير المؤمنين (ع) فكّر فيما ولاه الله من الأمور، فرآكم أهل بمن أولى أن تؤموا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس، فرأى أن يرد هذا الأمر إليك، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض. فقال لهم الرضا (ع): إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج المزردة بالذهب، ويجلس على متكآت آل فرعون ويحكم، إنما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد صدق. إن الله لم يحرم لبوسا ولا مطعما، ثم قرأ: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق)" [9]. وما روي من أن الإمام علي الهادي (ع) كان جالسا في مسجد رسول الله (ص) إذ أتاه جماعة من أصحابه ثم دخل جماعة من الصوفية وجلسوا في جانب المسجد مستديرين واخذوا بالتهليل فقال الإمام الهادي (ع): "لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين فإنهم الشياطين، فخربوا قواعد الدين يتزهدون لراحة الأجسام ويتهجدون لتصيد الأنعام ويتجوعون عمرا حتى يرخوا الأركان حمرا، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا لمنع العساس واختلاس قلب الدفناس (الغبي) ويتكلمون بإملائهم في الحب ويطرحونهم بإدلائهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة أحد منهم حيا أو ميتا فكأنما أعان (يزيد ومعاوية وأبا سفيان). فقال له رجل من أصحابه: وان كان معترفا بحقوقكم، فنظر إليه شبه المغضب وقال: دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنهم أخس طوائف الأمة، أولئك الذين يجهدون في إطفاء نور الله، والله يتم نوره ولو كره الكافرون" [10]. وما روي عن الإمام الحسن العسكري (ع) انه قال لأبي هشام الجعفي: يا أبا هشام، سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة، قلوبهم مظلمة منكدرة، السنة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سنة، المؤمن بينهم محقر، والفاسق بينهم موقر، أمراؤهم جائرون علماؤهم في أبواب الظلمة سائرون، أغنياؤهم يسرقون زاد فقرائهم، وأصاغرهم يعتدون على الكبراء، كل جاهل عندهم خبير، وكل محيل عندهم فقير، لا يميزون بين المخلص والمرتاب، ولا يعرفون الضأن من الذئاب، علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض، لأنهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف، وايم الله: إنهم من أهل العدوان والتحرف، يبالغون في حب مخالفينا، ويضلون شيعتنا وموالينا" [11]. بل نقل عن رسول الله (ص) في وصيته لأبي ذر الغفاري أنه قال: "يا أبا ذر يكون في آخر الزمان قوم يلبسون الصوف في صيفهم وشتائهم يرون أن لهم الفضل بذلك على غيرهم، أولئك يلعنهم ملائكة السماوات والأرض" [12]. وهذه الروايات لا تتم من جهة الدلالة على المقصود بتوجيه الدلالة وجهة نبذ التصوف بالمطلق، أما إذا كان المراد منها نبذ السلوكيات المنحرفة في عالم التصوف والتي كانت سائدة زمن الأئمة (ع) وما بعدهم، فإنها حينئذ تكون واردة على نحو القضية الخارجية لا الحقيقية كما قد يستفاد من القرائن المحتفة بها. ونتلمس ذلك بوضوح في كلمات الإمام الصادق (ع) التي تنبض بصراحة تامة في مناهضة التصوف، وذلك نظرا "لطبيعة التطور الذي حدث للتصوف في ذلك العصر حيث تحول على عهده إلى فئة اجتماعية بل ومذهب فلسفي" [13]. وإذا انتقلنا من الناحية الروائية إلى الناحية التاريخية، نجد كثرة وافرة من كتب ومصنفات شيعية كتبت بعنوان "الرد على الصوفية" ونحو ذلك. وهي لا تبتعد عن التوجيه المتقدم، وإلا فلو تأملنا في المرحلة التاريخية الأولى لظهور التصوف نجد أن التصوف في نشأته قد تمثل بالنبي (ص) والأئمة (ع) وبالشخصيات الشيعية من الطراز الأول. وقد تقدم أن التشيع وقف بوجه التصوف الآخذ في الانحراف بفعل الاستخدام السلطوي له، لا مطلق التصوف.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>بين التصوف والعرفان<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يصر الكثيرون على إجراء فصل بين التصوف والعرفان، بحيث ترجع التفرقة إلى أسباب خارجية أو داخلية، وجملة الأقوال في المسألة هي إرجاع الفرق بينهما تارة إلى أسباب قومية، كالفارق بين أهل إيران وغيرهم. وتارة أخرى إلى أسباب مذهبية، كالفارق بين الشيعة والسنة تارة أخرى. وثالثة على أساس أن العرفان يختص بالناحية الفكرية، بينما التصوف يختص بالناحية الاجتماعية. ورابعة على أساس أن العرفان نظري قائم على الفكر والكشف الإشراقي، أما التصوف فعملي قائم على التصفية وإتباع الطريقة. وخامسة على أساس أن الصوفي هو السالك الذي يعمل في نطاق التخلية والتحلية، والعارف هو الواصل الذي تجاوز الطريقة إلى الحقيقة، فالعرفان هنا ليس نفيا للتصوف وإنما هو استكمال. وسادسة على أساس أن العرفان يشكل تصويبا ونقدا لمسار تاريخي وعقيدي وسلوكي أصيبت به الحركة الصوفية. ويتضح - سيما على الرأي الأخير - أن التصوف والعرفان يقتبسان من مصدر واحد، والعرفان ليس علما مستقلا عن التصوف ومختلفا عنه، بل هو محاولة للعودة بالتصوف إلى أصالته التي تتمثل بالصفاء الفطري والنقاء الوجداني كما دعت إليه الأديان. ويعود السبب في تغيير الاسم من التصوف إلى العرفان إلى التداعيات السياسية والفكرية التي حصلت في العهد الصفوي، فكان من شأن هذه التداعيات أن أزرت بالمتصوفة وأفكارهم التي لازمها الابتذال على جميع الصعد وبالأخص التحلل من قيود الشريعة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1] - استنادا إلى ما اشتهر عن عبد الله الأنصاري من أنه: كان من ألفي شيخ صوفي عرفتهم شيعيان اثنان أو أكثر.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2] - ينبغي أن نأخذ بعين الإعتبار مثلا أن التشيع كان يطلق على محبي أمير المؤمنين (ع) ولو لم يكن هؤلاء معتقدين بأصول المذهب، في حين كان يعتبر المعتقد بأصول المذهب رافضيا، هذا في الذهنية العامة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[3] - ولا يمنع من ذلك ظهور بعض الطرق المنسوبة للتشيع ولو في نطاق ضيق جدا كالطريقة النوربخشية الشيعية الطابع.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[4] - التبصرة، للمولوي سلامت علي الهندي. راجع: خلاصة عبقات الأنوار، السيد حامد النقوي، ج9، ص319.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[5] - خلاصة عبقات الأنوار، ج9، ص319.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[6] - مستدرك الوسائل للميرزا النوري ج12 ص323. سفينة البحار، ج2، ص57.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[7] - سفينة البحار، ج2، ص57.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[8] - م. ن.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[9] - م. ن. ص120/121.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[10] - م. ن. ص58.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[11] - م. ن.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[12] - م. ن. ص57.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[13] - العرفان الإسلامي، محمد تقي المدرسي، دار البيان العربي، ص187.</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="color: blue; font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: right;"><br />
</div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-76781790290372328832010-10-23T23:34:00.002+03:002010-12-25T15:38:54.830+02:00البنيوية<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">شهد منتصف الستينات من القرن العشرين بداية إنتشار الأعمال الأولى للبنيوية <a class="zem_slink" href="http://en.wikipedia.org/wiki/Structuralism" rel="wikipedia" title="Structuralism">Structuralism</a> وتعتبر أعمال " كلود ليفي ستروس claud Levi –Strauss 1908 " التي قدمها في كتابه: " الإناسة البنيانية 1957 " وكتابه الآخر " الفكر البري 1963 " في طليعة الأعمال التي تشكل مؤشراً بنيوياً واضحاً وذلك من خلال ما أنجزه من دراسات معمقة في البنى العقلية لأنظمة القاربة وغيرها من أنظمة إجتماعية أشد تعقيداً، وشكلت هذه الأعمال فاتحة عهد داعمة لتكريس النزوع البنيوي بإتجاه كافة المجالات الأخرى التي يمكن أن تحظى بإهتمام البنيوي وغيره من أدب وفلسفة ورياضيات وعلم النفس... الخ وقد أعتبرت هذه الجهود الحثيثة بديلاً فكرياً لفلسفات كان لها حضورها وتأثيرها الفاعل في الساحة الفرنسية، وشكلت محاولة جديدة لفهم التاريخ والمجتمع والثقافة على ضوء العلوم الإنسانية، وأحتلت بذلك موقعاً بارزاً في تاريخ الفكر الفرنسي المعاصر، وقد تميزت البنيوية بطروحاتها، الثورية بما أنجزته من منظورات جديد لمختلف القضايا الفلسفية السائدة آنذاك، ومارست قطيعة مع ماضي المعارف كلها، بحيث تسللت في تحليلها وتفكيكها ونصها إلى مقولات كانت تعتبر في أساس فلسفات مثل الظواهرية، والتأويلية والماركسية، والوجودية، والإبستمولوجيا المتعلقة بإتباع فلسفة العلوم، بل أن طابع القطيعة الثوري الذي ميزها أدى إلى أن تعيد البنيوية إنتاح نفسها بنفسها (وذلك بعد أحداث مايو 1968) ومع منتصف السبعينات من القرن العشرين ظهرت نماذج ألسنية جديدة كاللسانيات التوليدية والتحويلية والسيميولوجية التي أسست لآحقاً لما يسمى بما بعد البنيوية وفلسفات ما بعد الحداثة أو الأركيولوجيا، والجينيالوجيا، والغراماتولوجيا... ونظراً لحضورها القوي الذي حظيت به، كان من الطبيعي أن تواجه البنيوية تحدياً صارخاً من قبل تلك التيارت الفكرية التي كانت سائدة آنذاك(التيار الماركسي والتيار الوجودي) كما أنها لآقت سنداً داعماً من قبل تيارات أخرى (التيار الإبستمولوجي الباشلاري، وتيار مدرسة الحوليات التاريخية) ويبدو أنه من غير المستحسن أن نستطرد في الحديث عن المنشأ والمسار التاريخي كمدخل إلى البنيوية، ذلك أنه، وعلى الرغم من أهمية الظرف التاريخي والدور الذي لعبته البنيوية في تلك الحقبة من تاريخ الفكر الفرنسي، إلا أن البنيوية نفسها ومن خلال أهم بنودها ـ تأبى أن تخضع نفسها لمثل هذه المقولات والتي ينظر إليها على أنها خارجية ومتناقصة مع توجهات الفكر البنيوي نفسه.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>ما هي البنيوية؟</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><b> </b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ثمة عقبات عديدة تواجه الباحث في البنيوية تظهر إلى العلن منذ الإطلالة الأولى التي يحاول فيها الباحث تقصي البنيوية في مدلولاتها أو مباشرتها فيما يمكن أن تختزنه من تحديد، فالبنيوية تأبى عن التأطير وتشرع في ممارسة عصيانها وممانعتها حتى على مستوى الأسئلة الأساسية من قبيل، ما هي البنيوية؟ هل البنيوية شكل أم محتوى؟ منهج أم نظرية؟ ما هي خطوات المنهج البنيوي؟ وهي أسئلة ضرورية كونها تشكل مدخلاً لفهم موضوع الدراسة، وربما بسبب من التشعب الشديد في شجرة العائلة البنيوية كل من الصعب تحديد مفهومها، إذ تمتد البنيوية بجذورها إلى عصر النهضة، وينتابها هاجس المسعى الحثيث لنيل تقدير " العلمية " فهي تسعى لأن تكون علماً، فتدعى لنفسها الإنتساب إلى عائلة العلوم الطبيعية (بيولوجيا فيزيولوجيا) والعلوم النظرية (رياضيات منطق) معاً، ولا تخفي تأثرها الواضح بعلم الإجتماع الماركسي، وعلم النفس الفرويدي ونظم اللغة السوسورية، ويسطع في فضائها أسماء من قبيل كانط ونيتشة وهوسرل وهيدجر وجاكوبسون وباشلار ودي سوسير... يضاف إلى هذا التشعب أن البنيوية ليست منهجاً مطبقاً بطريقة واحدة عند الجميع، ويظهر هذا التباين في الأسلوب المتبع في أعمال البنيويين الكبار أنفسهم، وهكذا يجد المرء لدى ليفي ستروس، ما لا يجده لدى كل من بارت والتوسير، وفوكو، ولاكان، وعلى ارغم من وجود الأختلاف في منطلقات بحوثهم وغاياتها، إلا أنه يمكن تحديد بعض المعالم الرئيسة كعلامات فارقة، وذلك من قبيل أولوية البنيوي على التاريخي، وأسبقية اللغة على الواقع وأهميه تأثير المنهج في النظرية والشكل في المحتوى، وما قد يكشف عن هوية البنيوي هو إستخدامه لبعض المصطلحات ذات الجذر اللساني، وإهتمامه بالرمزي، وبحقول معينة داخل العلوم الإنسانية، وبالموقف المنهجي القائم على تفسير الظواهر والحوادث على أساس تزامني، وكل هذا قد يسمح لنا بمقارنته البنيوية ولو على نحو مبدئي بناء على ما سبق يمكن تعريف البنيوية من عدة جهات: فإنطلاقاً من المجال الذي تفضله هي نفسها ـ أعني مجال اللسانيات ـ تغدو البنيوية طريقة جديدة في طرح وتفسير المشاكل في العلوم التي تناقش العلامة ـ الرمز ـ الدلالة بالشكل المعهود في لسانيات دي سوسير، فالبنيوية تشتمل على علوم العلامة، وسستام العلامة، وتحديداً على العلامة التي تقيمها بين الدال والمدلول، ومرجع ذلك إلى الإيمان بأن الطرق الناجعة في الكشف عن القوانين العامة للغة وما يستتبع ذلك من كشف عن القوانين التي تربطها بمختلف مجالات النشاط الإنساني، تتكون أنساقه من بني عقلية مفترضة وإنطلاقاً من آلية المنهج الذي تمارس نشاطها على أساسه، وتغدو البنيوية طريقة من الطرائق الفكرية والمنهجية متشعبة، ومتنوعة في أتجاهاتها، تقوم على تفاعل مجموعة من العناصر والعلائق في صيغتها الرياضية والفيزيائية، تشكل نسقاً، أو بنية متكاملة، مغلقة، تدعى إستيعاب كل المسائل والمشاكل المطروحة التاريخية، والنفسية والإجتماعية في منظور واحد، وتقوم على الفرز بين فعاليتين: الوعي واللاوعي، وفعالية اللاوعي هي الأكثر شأناً في الداخل، وكذلك بين حدين داخلين في تركيب هذا المفهوم " البنيوية " أي التزامن والتزمن: الأول سكوني، ويوصف بالحركة أحياناً والآخر تطوري، والبعد الباطني للنص هو ما يعبر عن حقيقة هذه الطريقة، التي تنظر إلى كل مشكلة أو مسألة تستقبلها من منظور واحد، وقد يفضل البعض إجمالها ـ بسبيل التقريب ـ بالقول أنها منهج أو نسق، أو أنها هي ليفي ستروس نفسه.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>هل البنيوية منهج أم نظرية؟</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><b> </b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يرى ليفي ستروس أن طموح البنيوية هي في أن تصبح منهجاً علمياً دقيقاً، يماثل المناهج المتبعة في العلوم الدقيقة، يدرس العلاقات القائمة بين عناصر أجزاء كل بنية، وذلك بتحليل هذه الأخيرة أسمى من بنياتها الأولى، بحيث تتيح لنا تبين بنيتها الخفية، ولأجل ذلك كان إعتماد البنيوية على المناهج الطبيعية، وذلك على أساس نظرية المجموعات التي تسمح بدراسة العلاقات بين أجزاء وعناصر المجموعة، وتحليلها ثم إعادة تركيبها، من أجل الكشف عن البنية الخفية للموضوع، وكذلك باللسانيات، بإعتبار أن علم اللغة هو النموذج المباشر الذي يختص عن غيره من العلوم الإنسانية بإمكانية وضعه على قدم المساواة مع العلوم الطبيعية والدقيقة، فعلم اللغة يشتمل على العمومية والتشابه والتوافق المبدئي، وهي خصائص تتيح للنموذج الألسني الذي يتماثل والعلوم الطبيعية أو الدقيقة، أن يشكل وسيطاً ناجعاً إلى العلوم الإنسانية، ويستفيد المنهج البنيوي أيضاً من ميادين ثلاثة أخرى هي الماركسية، والتحليل النفسي، والإثنولوجيا، بوصفها ميادين تتفق والبنيوية في إرتكازها إلى المبدأ الأساسي القائل أن البنية متخفية، لا شعورية، لذا وجب التحليل والبحث عن الباطن، دون التوقف عند ظاهر الظواهر، فالبنية هنا متخفية، لا شعورية، وهي ذات طبيعة عقلية بحيث لا تستند بمفهومها إلى الواقع التجريبي المباشر، بل إلى النماذج الموضوعة بمقتضى هذا الواقع، فنحن نتعرف على البنية الإجتماعية من خلال العلاقات الإجتماعية، وللكشف عن البنية كان لا بد من تدخل العالم، وتركيب نماذج تفصح عن بينة الموضوع وتبرزه، والبنية للأسباب المتقدمة تنفع كوسيلة منهجية قابلة للتطبيق في مجالات مختلفة، ولا تكاد تختلف كلمة " البنية " عن مثيلات لها من مفردات لغوية كلفظة الشكل، ولكن مع وجود فارق منهجي بين البنية والشكل، ذلك أن الشكل يقع في مقابل المحتوى ويتحدد به، في حين أن البنية لا تتحدد بالمحتوى لأنها هي المحتوى ذاته عندما ندركه داخل تنظيم منطقي من حيث هو خاصية من خصائص الواقع، فالبنية ـ على خلاف الصورة أو الشكل ـ ذات طبيعة موضوعية تقبع خارج الذهن وتكون ملزمة له، وعلى سبيل المثال نحن مضطرون إلى تصور البنى الإجتماعية كموضوعات مستقلة عن الوعي، ويبقى أن هذا الفهم للبنية يوقعنا في مفارقات لا يمكن حلها، وتكمن هذه المعضلة في أن البنية ذات طبيعة عقلية رياضية، ميزاتها الأساسية هي الشكلية، ومن ناحية ثانية البنية ليست شكلاً ولا محتوى، بل هي المحتوى ذاته!! وهذا يعني أن البنية حقيقة دون أن تكون واقعية، مثالية دون أن تكون مجردة.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>النموذج الألسني</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><b> </b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">في سبيل العمل على إظهار المبادىء المنهجية والنظرية التي تؤول إليها كل بنيوية، تم إستعادة النموذج الألسني كما ورد في منظومة دي سوسير الألسنية، تفهم اللغة هنا على أنها نظام من الرموز Sogn، فكل كلمة في اللغة تشكل رمزاً، والرمز مصطلح أساسي من مصطلحات " قاموس الدلالة " الذي خلفه عالم اللغويات السويسري فردنان دي سوسير (1857 – 1913) وقوام الرمز عنده بأمرين: الصوت (الدال) والفكرة (المدلول)، فالمدلول يشير إلى فكرة عن شيء، والدل هو الجانب المادي من اللغة، والدال والمدلول لا ينفصلان، فكما لا يمكن الحصول على دال دون مدلول، كذلك لا يمكن الحصول على مدلول دون دال، أن أي شيء يمكن أن يتحول إلى رمز بشرط أن يندرج في قاموس الدلالة، أي أن يدل، ولا تحصل الدلالة إلا في نطاق ثقافي خاص، فحين توجد الزهور ضمن ثقافة من الثقافات فإنها تتحول إلى رموز، والإكليل الذي يرسل إلى جنازة يصبح دالاً، قد نعبر عن مدلوله بلغة التعزية، فالزهور ليس لها معنى طبيعي، بل لها معنى تحدده الثقافة أو التقاليد، وثمة تمييزين مهمين أفتعلهما سوسير لهما أهمية خاصة على مستوى نمط التفكير المتبع هنا، فقد ميز سوسير بين اللغة Langue والكلام Parol فاللغة هي مجموعة القواعد التي ينبغي على المتكلمين الإلتزام بها للإتصال فيما بينهم، أما الكلام فهو الإٍستخدام اليومي لتلك القواعد من قبل المتكلمين الأفراد، ومهمة عالم اللغة من وجهة نظر سوسير هي أن يدرس اللغة لا الكلام لأن دراسته للغة هي التي تمكنه من فهم المبادىء التي تقوم عليها وظائف اللغة عند التطبيق، ويظهر هذا التمييز في أعمال البنيويين على شكل تمييز بين البنية والحدث، أي بين نظم مجردة من القواعد وأحداث مجسدة مفردة تظهر ضمن ذلك النظام، أما التمييز الثاني، فهو التمييز بين محوري البحث المتزامن Synchronic والمتتابع ـ المتعاقب المتزمن Diachronic، فمن الممكن أن ندرس اللغة بإعتبارها نظاماً يؤدي وظيفته في لحظة من اللحظات أو بإعتبارها مؤسسة تطورت عبر الزمن، وكان سوسير نفسه يحبذ دراسة اللغة بوصفها ظاهرة متزامنة في مقابل الدراسات التي كان يقوم بها سابقوه من لغويي القرن التاسع عشر، وهي الدراسات التي تتناول اللغة باعتبارها ظاهرة متتابعة، فقد كان هؤلاء اللغويون مهتمين بتاريخ كل لغة على حدة، بأصول مفرداتها وبما طرأ على أصواتها من تغير وما شابه، ولم يتوقفوا ليكتشفوا البنية الكلية لأي لغة من اللغات وذلك عن طريق إيقافها عند لحظة من لحظات للنظر في المبادىء التي تعمل بموجبها من أجل فهمها بشكل أسهل، والرمز عند سوسير شيء " إعتباطي " فالدال شيء أعتباطي إذ تربطه بالشيء الطبيعي الذي يدل عليه علاقة يقبلها الناس بحكم التقليد او العرف والمدلول إعتباطي أيضاً شهادة أختلاف اللغات، وهذه الإعتباطية المزدوجة تكشف عن أن للغة ليست نظاماً من الأمور الجوهرية الثابتة بل من الأشكال غير المستقرة، أنها نظام من العلاقات بين الوحدات التي تتشكل على أساس أختلافها عن بعضها البعض، فهذه الوحدات لا تتحدد من خلال وجودها ذاتها، بل من خلال ما يقابلها من وحدات، والمحل الذي تحتله وحده ما، سواء أكانت صوتية أو معنوية، في النظام اللغوي هو الذي يحدد قيمتها، وهذه القيم تتغير بتغير العلاقات، وهكذا يمكن أن نلمس بوضوح مدى تأثير النموذج الألسني السوسيري على البنيوية، فالبنيوية برمتها ذات نظرة متزامنة بالضرورة، وهي تعني بدراسة النظم أو البنى التي أنتجتها على أمل تفسير عملها الراهن، وتعتبر مقولة سوسير من أن اللغة شكل وليست جوهراً، وليس هناك معنى بدون أختلاف، الجذر الأساسي الذي تحدرت منه الأعمال التي نشرها ليفي ستروس وبارت وغيرهما، فالبنيوية تتمسك بهذه الفرضية الجوهرية، وهي أنها تدرس العلاقات القائمة بين عناصر في نظام يشترط كل منها وجود الآخر وليس بين جواهر كل منها مستقل بذاته، وقد درس ليفي ستروس الظواهر الأنثروبولوجية كما لو أنها لغات، وذلك يعني أنه درس تلم الظواهر بوصفها نظماً: نظام القرابة، نظام الطوطمية، ونظام الأساطير وركز همه على العلاقات القائمة بين الوحدات المختلفة لكل نظام وكيف أن وظيفة ما قد يبدو أنه للوهلة الأولى هو الوحدة ذاتها تتباين مع تباين العلاقات التي تدخل بها مع سواها من الوحدات، ويبدو هذا التباين على أشده عندما نأتي إلى تفسير العناصر الرمزية في أسطورة من الأساطير لأن الكثيرين منها يميلون إلى الأعتقاد بأن الرموز كميات ثابتة تخضع حيثما وردت إلى تفسير واحد، أما ليفي ستروس فيثبت العكس: إن المعنى في كل حالة يتحدد بالمكان الذي تحتله هذه الرموز ضمن شبكة العلاقات التي تتضمنها تلك الأسطورة بالذات، ومعنى ذلك أن نفسر الأسطورة من داخلها، أن نسمح للنظام ذاته أن يملي معناه علينا، ومن هنا يتضح كيف يمكن للبنيوية أن تمتد لتدرس الأدب أو سواه من أنواع الكتابة وتلعب اللغة دوراً مركزياً في فكر بارت وفوكو ودريدا ولا كان، دوراً لا يقل في أهميته عن الدور الذي تلعبه في أنثروبولوجيا ليفي ستروس، حتى ليمكن القول أنهم جميعاً مهووسون بالطبيعة المؤسسية للغة وبقدرتها اللامتناهية على الخلق، واللغة ليست شيئاً نجلبه معنا عند الولادة بل هي مؤسسة ندخل في عالمها بشكل تدريجي في فترة الطفولة بإعتبارها أهم عنصر في تنشئتنا الإجتماعية على الإطلاق، وهكذا يمكن وصف اللغة بأنها لا شخصية وتتجاوزنا بوصفنا أفراداً وأي إٍستخدام للغة الإتصال بالآخرين يتطلب منا التنازل عن جزء على الأقل من تفردنا، إن شئنا إستخدام المصطلحات التي يفضلها لا كان قلنا أن جانباً من الليبيدو فينا يجب أن يقدم للنظام يجب أن ننتقل مما يدعوه لاكان بالمستوى الخيالي، وهو مستوى يتصل بحياتنا الخاصة ويتصف بالإيهام إلى المستوى الرمزي الذي يتصل بحياتنا الإجتماعية، لكن مقدار التقلص في الفردية يزداد عندما يكون المستوى الرمزي الذي نستسلم له ليس هو المستوى الأولي، مستوى اللغة كلغة، بل هو المستوى الثانوي المتمثل في الأدب، أو في خطاب discourse بشكل عام، حيث توضع علينا قيود أخرى كثيراً ما تكون شديدة على هيئة تقاليد وأعراف لتمنعنا من إستخدام اللغة بالحرية التي قد نريد، على أن هذا المستوى هو الذي تهتم به البنيوية لأن ذلك المستوى هو النظام الذي لا يمكن لنا أن نكون فيه أكثر من " أحداث " ولذلك أخذت البنيوية تمثل طريقة في التفكير تتعارض مع الفردية، بل حتى مع الإنسانية، لأنها تعطي للفعل الإنساني الإداري دوراً أقل في تفسيراتها للثقافة، لقد كتب الكثير عن" أختفاء الذات subject " في ظل البنيوية بمعنى أن البنيوية تطرفت في تحيزها ضد الجوهرية essentialism إلى حد إنكارها ـ بشكل من الأشكال ـ لوجود الكائنات البشرية إنكاراً تاماً إلى حد رؤية الفرد بإعتباره ليس أكثر من شكل غير مستقر، قابل للإستبدال ضمن نظام لا روح فيه، فما فعله مفكرو البنيوية بشكل بعيد الأثر هو تدعيم أهمية الدال على حساب أهمية المدلول، فالدال هو ما نستطيع الثقة به لأنه مادي، أما المدلول فيبقى مسألة فيها نظر، والدال واحد لا بد أن ينتج مدلولات مختلفة لشخصين مختلفين، مدلولات تحمل مكاناً دلالياً مختلف الحدود بسبب أختلاف التجارب الفردية كذلك سينتج الدال الواحد مدلولات مختلفة للشخص الواحد في أوقات مختلفة لأن تركيب العلاقات القائمة في المكان الدلالي غير ثابت والبنيوية تدعونا للإستمتاع بتعددية المعاني التي ينتجها لنا ذلك ولرفض التفسير الأحادي أو التعسفي للرموز.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>أساسيات المنهج البنيوي</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><b> </b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يقوم المنهج البنيوي كغيره من المناهج العلمية على جملة من الخطوات والقواعد التي يعتمد عليها في تحليل الموضوعات، ومن هذه الخطواتـ على المستوى الأنثروبولوجي – القيام بالملاحظة والتجريب ثم التجريب على النماذج المستقاة من الملاحظات، وذلك بغية الوصول إلى البنية والكشف عنها، ولدراسة بنية الموضوع يجب تطبيق جملة من المبادىء منها:</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">1 ـ أسبقة الكل على الجزء: وهو يفترض النظرة الكلية إلى الموضوع والكلية ما هي إلا نسق من الوحدات لذلك فإنها تتساوى والنسق.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">2 ـ أسبقية العلاقة على الأجزاء: ما يهم المنهج البنيوي ليس الأحداث ولا الكلمات بمفردها ولكن العلاقة التي تقوم بين تلك الأحداث أوالكلمات، والبنيوية كمنهج هي قبل كل شيء التحليل الواقعي للظواهر بغية إكتشاف العلاقات بين العناصر المكونة لهذه الظواهر.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">3 ـ مبدأ المحايثة: إن اللغة عندي دي سوسير نسق مغلق، نسق لا يعرف إلا قانونه الخاص ومبدأ المحايثة في اللسانيات يقتضي دراسة النسق اللغوي في ذاته من دون العودة إلى تاريخه، ولا إلى علاقته بمحيطه، ومهمة الطريقة البنيوية أن تعطي الدراسة الذاتية نوعاً من معقولية الفهم، الذي يقوم مقام معقولية الشرح، الذي يبحث عن الأسباب، لذا تتنافى المنهجية البنيوية مع كل منهجية تاريخية ليتفق المنهج البنيوي مع المنهج الوضعي.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">4 ـ مبدأ المعقولية: إن المبادىء سالفة الذكر تؤدي إلى هدف أساسي هو إكتشاف البنية ذلك أن طبيعة البنية لا شعورية، أي ذات طبيعة عقلية ولا توجد على السطح أو على ظاهرة الأشياء، ويرى ليفي ستروس أن الخطوة الحاسمة في المنهج البنيوي هو أنه من أجل تعيين الواقع يجب حذف ما يدرك مباشرة على المستوى الظواهري، أما ما يجب الإحتفاظ به فهو الواقع لأن في الواقع تكمن البنية لذا يجب إعتماد مبدأ المعقولية من أجل الكشف عن هذه البنية.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">5 ـ مبدأ التزامن والتعاقب (التزامن): التعاقبي والتزامني يتعارضان وذلك لأن الأول يهتم بأصل الإنساق في حين أن الثاني يهتم بالمنطق الداخلي للشيء، فالتعاقبي هو الدراسة التاريخية، القائمة على البحث في أصل الأشياء، ومكنوناتها في حين أن التزامني هو البحث في بنية الشيء أي الطبيعة المنطقية للشيء، وليفي ستروس يعي مشكلة التعارض على المستوى المعرفي والمنهجي وهو يقترح إقامة تاريخ بنيوي تزول فيه أسباب التعارض بين التزامن والتعاقب، وقد لآقى هذا المبدأ إنتقادات كثيرة لجهة أن كل نظام تزامني يتضمن ماضيه ومستقبله اللذين هما عنصراه البنيويان الملازمان فالظاهرة لا تخرج عن تاريخها وعن ظروفها وتكونها بل ان الظاهرة هي جزء من تلك التاريخية!.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">إلى هنا نكون قد سلطنا الضوء ـ وبشيء من الإجهاض القيصري ـ على جانب من معالم المدرسة البنيوية، وهي مدرسة تحظى بإهتمام وتقدير كبيرين في الغرب، وإن بأشكال متفاوتة من التقديرات، وتشهد إنتشاراً واسعاً في أوروبا وأمريكا والعالم، وذلك بما حققته من إنجازات في ميادين العلوم الإنسانية المختلفة، فضلاً عن تواجد المحللين البنيويين على رأس السياسات العالمية المعاصرة، وبطبيعة الحال، يلتحق في زمرة المدعوين إلى الوليمة البنيوية جملة من مثقفي العرب ومفكريهم ك" إدوار سعيد " في طروحاته النقدية المثيرة و" محمد عابد الجابري " في مساجلاته النقدية بدوره وحفرياته التراثية و" سالم يفوت " و" عبد السلام بن عبد العالي " و" هاشم صالح ".. الخ كذلك ومحمد أركون " في إسلامياته التطبيقية وحسن قبيسي في مناخه النقدي الأثنولوجي، و"علي زيعور: في تحليلاته النفسية وطروحاته عن دور اللاوعي في الذات العربية و"مهدي عامل" في الكثير من أحكامه النقدية.. الخ، ولا بد من إطلالة لاحقة على بعض هذه الدراسات التي أنجزها الفكر العربي المعاصر بوحي من المنهج البنيوي.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- الإناسة البنيانية، كلود ليفي ستروس تج حسن قبيسي ط1، المركز الثقافي العربي 1995.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- البنيوية منهج أم محتوى ـ مقال ـ الزواوي بغوره، عالم الفكر العدد 4 المجلد 30 أبريل يونيو2002م.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- البنيوية وما بعدها من ليفي ستروس إلى دريدا تحرير جون ستروك.تج.د محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت شباط 1996 العدد 206.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- مغامرة المنطق البنيوي (الجزء الأول البنيوية كما هي) إبراهيم محمود ط1 مركز الأبحاث والدراسات الإشتراكية في العامل العربي 1991.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="color: blue; font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;"> </span><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-71074235886729047492010-10-23T22:31:00.001+03:002010-12-25T15:41:03.922+02:00ملاحظات حول مفهوم مقارنة الأديان<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تعتبر معرفة أديان الأمم ومذاهبها من الإختصاصات العلمية الحديثة التي تحظى بأهمية بالغة في المعاهد العلمية الحديثة، وهي تعني بالدرجة الأولى المعاهد الدينية التي لا يمكن أن تنأى بنفسها عن معترك الحياة طالما أن الوسط الذي تؤدي فيه وظيفتها هو الإنسان نفسه. وفي زمن تختصر فيه المسافات بين الأمم والشعوب بفعل عوامل الإتصال المتعددة تغدو الحاجة ضرورية للتعرف على ثقافات وأديان الأمم الأخرى، والتواصل معها. هي مهمة تستوجب منا جهدا مكثفا لجهة التعريف بالإسلام وثقافته، قال تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ن أكرمكم عند <a class="zem_slink" href="http://en.wikipedia.org/wiki/Allah" rel="wikipedia" title="Allah">الله</a> أتقاكم). وقد بذلت جهود كبيرة على مستوى الدراسات المعاصرة في البحث عن منشأ الأديان وتطورها لدى الشعوب البدائية والمتمدنة، وطالت هذه الدراسات الأسس التي ترتكز إليها الأديان المختلفة والعلاقات القائمة بينها، والغايات التي تهدف إليها، كما سعت هذه الدراسات إلى إبراز الخصائص والمميزات التي تتمتع بها الأديان المختلفة بهدف تبيّن أوجه الإتفاق والإختلاف والموازنة بينها. وبذلك تأسس علم الأديان بفروعه المعرفية المختلفة والتي تتركز حول معرفة تاريخ الأديان، وفلسفة الدين، ومقارنة الأديان. ومهما كانت طبيعة النتائج المترتبة على مثل هذه الدراسات فإن هذا لا يعفينا من مسؤولية التعارف بين الأمم والشعوب التي دعا إليها الإسلام وحث عليها <a class="zem_slink" href="http://en.wikipedia.org/wiki/Qur%27an" rel="wikipedia" title="Qur'an">القرآن</a> بغية إيجاد علاقات متينة وروابط قوية بين البشر تقوم على أساس من العدل والإنصاف والحق.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: center;"><span style="font-size: large;">* * *<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">إن ما ذكرته المعاجم اللغوية لكلمة الدين من معان، إنما يكشف عن وجوه الإستعمالات المتشعبة لهذه الكلمة دون أن تسعفنا بمفهومها الأصلي الذي انبثقت منه. فهذه الكلمة أشبه بشجرة ذات أفنان متشعبة، تمتد بجذورها إلى باطن الأرض، ولا تتكشف إلا بعد الحفر والبحث بغية الوصول إلى منبتها الأصلي. ويبدو أن الجذر المعنوي لهذه الكلمة يرجع إلى الإتّباع والإنقياد الذي يفترض بدوره علاقة ثنائية يمثل الإنسان – في الأديان السماوية – أحد طرفيها ويمثل الخالق الطرف الآخرمنها، ويشكل الإنسان محور النظر فيها، فباعتبار التزامه بهذا الإنقياد يفسّر الدين <b>بالخضوع والورع والطاعة والعبادة</b>.. وباعتبار إلزامه بهذا الإنقياد يفسر الدين <b>بالملك والحكم والتدبير والقهر والحساب والجزاء</b>.. وحيث أن الإلزام والإلتزام لا يقعان في الفراغ، فلا بد من مبدأ يلتزم به أو يلزم به لكي يحصل الإنقياد، وباعتبار هذا المبدأ يكون معنى الدين هو <b>المذهب والملة والطريقة والعادة والسيرة والشريعة والعقيدة</b>. وعلى هذا، ترجع جميع استعمالات كلمة الدين إلى هذه المعاني الثلاثة، إلا أن ما يثير فضول الباحث في علم الأديان وتاريخه هو المعنى الأول والأخير، أي أنه يدرس الدين بصفته ظاهرة نفسية يلتزمها الإنسان ويتقيد بشروطها ويمارسها في حياته ويُطلَق عليه لأجلها أنه متدين. كما أنه يبدي اهتماما أكبر بالدين بصفته الخارجية التي تتمثل في الطقوس والشعائر وأماكن العبادة والكتب المنزلة وكل ما من شأنه أن يدخل في نظام الملة من مقدسات تدين بها أمة من الأمم. والباحث في الأديان حين يقوم بدراسة الظاهرة الدينية في بعديها النفسي والخارجي، لا يعنيه ما تختزنه هذه الظاهرة من حق أو باطل طالما أن الدين كظاهرة نفسية أو اجتماعية لا يقتصرعلى ما هو حق بالضرورة، بل ينصرف بنحو كلي أو جزئي عن إطلاق أحكام من قبيل: (الحق / الباطل، الصواب / الخطأ). ويكاد يحصر نشاطه في المجال التوصيفي للظاهرة الدينية المنظورة في نطاق بعدها التاريخي والنفسي. ولذلك فهو يدخل في اعتباره كل الأديان من بدائية وشرقية وأديان بديلة وما اشبه ذلك. وهذا الإطلاق لكلمة الدين ينسجم مع المعنى اللغوي المتقدم، كما ينسجم مع المعنى الإستعمالي الوارد في القرآن الكريم: (لكم دينكم ولي دين). ونحن وإن قيدنا العلاقة الثنائية بالعلاقة القائمة بين الإنسان وبين الخالق، إلا أنه من باب التمثيل لا الحصر، ومع ذلك نجد في كثير من التعريفات الرسمية لكلمة الدين ما يشير إلى الحق ونفي الباطل، خصوصا لدى الإسلاميين، ولأجل ذلك اختلفت تعريفات الباحثين في الدين تبعا لاختلاف أنظارهم في المسألة، فالدين كما يعرّفه صاحب الكشاف هو " وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل " [1]. وبحسب تعريف الجرجاني هو " وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول " [2]. ويقصدون هنا تعريف الدين الصحيح فحسب. وإذا أخذنا في المقابل بتعريف ريفيل للدين في كتابه "مقدمة تاريخ الأديان" بأنه: "هو توجيه الإنسان سلوكه، وفقا لشعوره بصلة بين روحه وبين روح خفية، يعترف لها بالسلطان عليه وعلى سائر العالم، ويطيب له أن يشعر باتصاله بها". وأخذنا أيضا بتعريف دوركهايم للدين في مقالته " الحياة الدينية في أشكالها الأولية" بأنه: " منظومة متماسكة من الإعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة، اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية تسمى الملة". نجد أنهما لم يقتصرا في تعريفهما على الدين الصحيح فحسب، وما ذلك إلا لأن التعريف الأول ناظر إلى البعد النفسي في الظاهرة الدينية، بينما التعريف الثاني ناظر إلى البعد الإجتماعي فيها. وهما يعرّفان الدين بصفته حقيقة نفسية أو خارجية ليس من شأنها أن تتصف أو تقتصر على ما هو حق وصحيح في ذاته بالضرورة. وعليه فلا ينبغي الخلط بين هذه التعريفات للدين والناشئة من اختلاف أنظار الباحثين فيه، كل حسب اختصاصه ومجاله. وأيضا اختلاف الأسس التي ينطلق منها الباحث في بحثه والغايات التي يسعى إلى تحقيقها.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: center;"><span style="font-size: large;">* * *<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تحدث القرآن الكريم عن الأديان المختلفة والملل والنحل، وفصّل مقالات اليهود والنصارى واعتقاداتهم، وعرض لمقالة الملاحدة الدهريين، ولم يفرق في ذلك بين الديانات، سماوية كانت أو وضعية، معتبرا أن كل ما عدا الإسلام فهو باطل. وكتب الكثير من علماء الإسلام – بوحي من القرآن – في مجال مقارنة الأديان، كالنوبختي في كتاب "الآراء والديانات"، والمسعودي، وابن خلدون، والبيروني، وأبو منصور البغدادي (429 هـ) في كتابيه "الملل والنحل" و"الفرق بين الفرق"، والشهرستاني (548 هـ) في كتابه "الملل والنحل"، وأبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين"، والجاحظ والكندي في الرد على النصارى..وكتب غيرهم الكثير في هذا المجال، إلا أن ما يجمع هذه الدراسات على اختلافها وتنوعها هو أنهما تنطلق من نزعة اعتقادية تتمحور حول الإسلام كملّة (إن الدين عند الله الإسلام) وحول مذهب معين لا تعدوه بصفته ممثلا للفرقة الناجية. فهي رؤى تعبر عن انتماءات معينة في الأديان وتنطلق من داخل آليات الدين نفسه، وتسعى لإطلاق أحكام انتقادية على أساس الحق والباطل، وبنظر هؤلاء لا ضير في ذلك طالما أن الإسلام شريعة عالمية خالدة، وأن قوانينه لم تبنى على أعراف قوم دون قوم، بل هي قائمة على مبدأ الفطرة الذي يشترك فيه جميع البشر في إي زمان كانوا وإلى أي فئة انتموا. مقابل هذه النزعة الإعتقادية، ثمة نزعة جديدة تسبغ على نفسها صفة "العلمية" باعتبارها تنطلق من وجهات نظر متعددة مستقاة من علم النفس والإجتماع والفلسفة والتاريخ، ويعبر عن هذه الوجهة بـ"علم الأديان" وهو علم يهدف إلى دراسة الأديان وتاريخها بهدف فهم الإنسان، ويسعى بذلك إلى تجاوز النظرة القديمة التي كانت تهدف من وراء دراسة الدين إلى معرفة الله والعالم والكون. يقول فان درلوو: "إن ما هو موضوع في نظر الدين يصبح هو المحمول في دراسة علم الأديان، فالله هو الذي يعمل في نظر الدين بالنسبة إلى الإنسان، أما العلم فإنه لا يعرف إلا عمل الإنسان بالنسبة إلى الله" [3]. وصفوة القول أن دراسة الدين من وجهة نظر العلوم الإنسانية، تعني ملاحظته في نطاق مجرى التاريخ (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة) والشعور النفسي، ونظم الإجتماع وهو ما يعبر عنه بالنزعة العلمية حيث يغدو الدين على أبعد الإحتمالات (وضعا إنسانيا) بعد أن كان ينظر إليه في النزعة الإعتقادية على أنه (وضع إلهي). ومن الطبيعي أن النظر إلى الدين من هذه الزاوية ينطلق من خارج آليات الدين لا من داخلها، ويهدف إلى توصيف الظاهرة الدينية بعيدا عن الحكم عليها بميزان الصواب والخطأ. إن دراسة الأديان التوحيدية والوضعية الغابرة والحاضرة من منظور واحد بغية اكتشاف أوجه التشابه والتباين بينها، وعدم استصدار أحكام كلية حولها، ومن ثم توصيف الخبرة الدينية على أساس اختبار الإنسان للشأن المقدس – أيا كان هذا المقدس – بما يعنيه ذلك من محورية الإنسان في أبعاده النفسية والإجتماعية والتاريخية، كلها عوامل من شأنها أن تثير حفيظة ممثلي الأديان وتستدعي تحفظهم إزاء ما يمكن أن يصدر عن هذه الدراسات من نتائج، ومن ثم يمكن أن ينظر إلى هذا العلم بوصفه «وافدا» ومن خلال نزعة عقائدية ترفض أن يطرح على صعيد واحد ما هو حقيقة دينية وما هو ليس كذلك، إذ من شأن ذلك أن يضع "الظاهرة الدينية" داخل دائرة الإستفهام، ومن ثم تختزل هذه الظاهرة إلى وضع نفسي يمكن تفكيك رموزه على أساس الشعور العميق بالتبعية أو الخوف أو العقدة الجنسية أو الإحساس بالمطلق. وقد تختزل الظاهرة الدينية إلى مجرد إسقاط اجتماعي باعتبار أن الدين لا يعدو كونه ضرورة اجتماعية وتمثلا يتكيف مع نمط المجتمع الذي ينتشر فيه، الأمر الذي روجت له المدرسة الإجتماعية الفرنسية وعلى رأسها "دوركهايم". وقد تختزل الظاهرة الدينية إلى ظاهرة تاريخية مشروطة بحيث لا تتجلى إلا من خلال أوضاع اجتماعية واقتصادية ونفسانية، مما يعني أن لا وجود لظاهرة دينية خالصة ونقية، بل هناك أنماط تاريخية يتجلى فيها الدين (قبلية، نياسية، قومية..).<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: center;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: center;"><span style="font-size: large;">* * *<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">إن ما قصدنا إليه – من خلال ما تقدم – هو الإلمام بالأعباء الثقيلة التي يتحمّلها الباحث المقارن نتيجة الخلط بين الرؤى، وتباين وجهات النظر، والتعقيد الحاصل في هذا الموضوع. فمما لا شك فيه أن الباحث المقارن سوف تعترضه جملة من العقبات، لا أقل من جهة إصدار تعميمات على مستوى نتائج دراسته لدين معين، طالما أن هذا الدين لا يشكل مرجعية نهائية لأتباعه إلا في نطاق الرؤى والمذاهب المختلفة. والإحاطة الكاملة بكافة المذاهب والإتجاهات داخل دين معين، هو اختصاص لا يكاد يتيسرلأحد. يضاف إلى ذلك ان نتائج البحث المقارن سوف تتأثر حكما بما تتبناه الأديان نفسها من مفاهيم وبنى تشكل الأرضية التي تجري عليها المقارنة، وسوف لن تكون هذه البنى والمفاهيم أسهل تناولا وأقرب منالا للباحث المقارن من المقارنة نفسها، مما يجعل بحثه أكثر عرضة للإخفاق، وهي صعوبات ينبغي أن يدخلها في حسبانه أثناء أدائه لمهمته. ثم أنه يمكن التساؤل عن المادة الأساسية موضوع المقارنة: هل هي المعطيات الدينية التي توصل إليها أتباع ديانة معينة، أو مذهب معين، في فترة زمنية محددة؟ أم هي النصوص الأولية التي تتضمنها الكتب المقدسة؟ ونلاحظ في هذا المجال نماذج كثيرة انصب البحث فيها على المعطى الأخير لدين ما مقارنة بالأصول الأولية لدين آخر. أو تمت معالجة موضوع ديني بطريقة معينة لا تمت بصلة إلى طريقة التفكير المتبعة داخل هذا الدين موضوع المعالجة. وهذه العراقيل تضع أمام الباحث المقارن أعباء إضافية ينبغي أن تؤخذ - من قبله - بعين الاعتبار.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ص 503.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2] الجرجاني، التعريفات، ص 94.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[3] فان درلوو: الدين في ذاته وفي ظواهره، نقلا عن كتاب "علم الأديان وبنية الفكر الاسلامي" المستشرق جيب، منشورات عويدات.<br />
</span></div><div style="color: #351c75; font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-42906690418407733432010-10-23T22:25:00.001+03:002010-12-25T15:42:55.244+02:00تقاطعات الطقس الديني الاسلامي والمسيحي<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ترتسم سبل النجاة والسعادة الانسانية في الاسلام والمسيحية، من خلال اتباع منهج شامل، يستوعب وجود الانسان وكيانه داخليا وخارجيا. ويتجلى في شكله الداخلي من خلال الايمان القلبي بعقيدة معينة يتم التقيد بقواعدها في السلوك والأخلاق. كما يتجلى خارجيا من خلال القيام بمجموعة من الممارسات الدينية والطقوس والشعائر. وقد هدف الطقس في كل من الديانتين إلى ايجاد وصلة وحالة تطابق بين ما هو داخلي فيهما وما هو خارجي، ولهذا كان ممارسة الطقوس بعيدا عن محتواها ومعناها منبوذا في كل من الديانتين، إذ ما لم تقم الطقوس بتأدية الدور الأصلي المطلوب منها، فإنها ستنقلب صنمية جامدة تنعكس سلبا على الحياة الروحية للفرد والجماعة. وما التعصب الديني والانغلاق والعداء إلا نتائج مباشرة لمثل هذا الفهم الصنمي. وعليه فالمهم هو أن تنبع العقائد والطقوس من القلب، ولا يكاد يخلو دين من الأديان التوحيدية أو غيرها من طقوس يمارسها أتباع ذلك الدين، وقد تتشابه هذه الطقوس في بعض الوجوه الخارجية، إلا أن هذا التشابه لا ينبغي أن يغفلنا أوجه التمايز والتباين التي تعتور الطقس على أكثر من صعيد. وهذا ما سنلمسه من خلال مقارنة طقوس المسيحية بما يقابلها في الاسلام إن وجد، على أن نكتفي في العرض بما يتأدى به الغرض ويفصح عن أوجه التباينات الأساسية القائمة بين الديانتين في هذا المجال، مع الإشارة إلى موقع الطقس في البنية الكلية للدين.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>فلسفة الطقس وغاياته<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تعتبر الخطيئة في المسيحية مرتكزا محوريا في فهم الطقس، فالمسيحية تصوّر الانسان على أنه كان يحلم بالاستقلال عن خالقه، وبقطع الرباط الذي يجمعه به. ولا نجد تعليلا واضحا لهذا الجموح البشري المندفع بعيدا عن الساحة الإلهية سيما أن الانسان قد خلق على صورة الله تعالى كما تقر بذلك المسيحية نفسها، وربما لأجل ذلك اعتبر الإنسان أن المحبة التي تجمعه بالله تشكل قيدا له، ومهما يكن فقد أراد أن يحطم هذا القيد بفصم شركته عن الله، هنا سقط الانسان في الخطيئة. وقد أتقنت المسيحية في إظهار نتائج هذا الانحراف الخطيرة والتي لا تقتصر على النفس الخاطئة وحدها، بل يضاف إلى انثلام الحقيقة الانسانية متمثلة بثورة الأهواء على العقل، والغرائز على الإرادة، ونشوء الأمراض، وتحتّم الموت. انثلام الوحدة الاجتماعية بين البشر، لأن الابتعاد عن الله (الذي يوحد بين البشر) بسبب اقتراف الخطيئة سوف يؤدي إلى إبتعاد الانسان أيضا عن قريبه الانسان. وأخيرا انثلام العلاقة بين الانسان والطبيعة التي تمردت عليه. وحيث أنه لم يعد بإمكان الانسان النهوض بنفسه، فإن المحبة الالهية لن تدعه طريدا خارج أسوار عدن، والنتيجة فقد أراد الانسان أن يتحرر من إسار القيد وابتعد بذلك عن الله. وفي المقابل، فإن الله بمقتضى محبته، سوف يتقيد بهذه الأغلال التي اختلعها الانسان، ومن خلال التجسد سوف ينكشف سر الغفران على شكل اختبار ايماني تتطهر به النفس من الخطيئة الموروثة، واختبار كلمة الله المتجسدة، هو ما يحصل من خلال القيام بالطقس. إذن، يرتبط الطقس في المسيحية بالخطيئة ارتباطا وثيقا، وبذلك تكون الغاية من ممارسة الطقس هي التطهر والتنقية. وأما في الاسلام فلا ينطلق الطقس على قاعدة تنظيف النفس وتطهيرها من الخطيئة استعدادا للدخول في الفردوس المفقود، وإنما ينهض بدور احترازي يقي صاحبه من السقوط في الذنوب والمعاصي. كما يؤسس لعلاقة طيبة مع الله (الطاعة) تجعل الانسان مؤهلا للفوز بالجنان، فهو يضطلع بدور أساسي يتمثل بسلوك طريق التكامل البشري، والذي يتم من خلال أداء حق العبودية لله تعالى، بل يمتد دوره إلى أبعد من مجرد العلاقة الشخصية المؤسسة لمسيرة الانسان نحو الله تعالى، فيشمل صلاح المجتمع البشري بما يتضمنه من مصلحة الجماعة وخير الإنسان. والخطيئة في المسيحية قد يرتكبها الشخص نفسه فعليا، وقد يرتكبها الغير (آدم) وراثيا، فتتلوث بها النفس. والطقوس ما هي إلا عملية تطهير للنفس من تلك اللوثات. وعملية التطهير أيضا قد يقوم بها الشخص نفسه (طلب الاعتراف) وقد يقوم بها الغير (طقوس يجريها الكاهن). وعليه، فالإنسان حتى ولو لم يرتكب خطيئة بنفسه، فهو يحتاج إلى الطقوس التي تساهم في تنظيفه من الخطيئة الموروثة، وغفران ذنوبه، وتنقية قلبه، وتثبيت روحه، والتخفيف عنها. وفي الإسلام لا توجد خطيئة غيرية، فـ (كل نفس بما كسبت رهينة)، كما لا تقوم الطقوس في عملها كما لو كانت جرعات تعطى للمرضى بصورة آلية تلقائية، وكوصفة جاهزة مسبقا. أما كيف ترتبط الطقوس بالتطهر، وما هي الأشكال الدينية التي من خلالها ترمز الطهارة الجسدية إلى تنقية الروح، فقد تباينت السبل المؤدية إلى ذلك في الاسلام والمسيحية كما تنوعت الغايات. فالعماد في المسيحية والمسح بالزيت، يمنحان الغفران وينظفان النفس من الخطيئة الأصلية، وقد يقرن البعض العماد في المسيحية بالوضوء في الاسلام، بصفتهما من أفعال التطهر، إلا أنه ليس الغرض من الوضوء عند المسلمين هو نفسه الغرض من العماد، بل ان الوضوء سبب للطهارة الجسدية والمعنوية والتي تكون مقدمة للعبادة، فلا يراد بالوضوء تحقيق الغفران واسقاط الخطيئة، بل هو يعدّ العباد للدخول في العبادة والحضور بين يدي الله تعالى بصرف النظر عن كونهم خاطئين أم لا.. ومن طقوس التطهر في المسيحية المناولة، والمناولة تعقب التقدمة، والتقدمة تعود إلى ما قبل المسيحية، ففي الديانة البعلية السورية كانت التقدمة من الحيوان أو الثمار، وفي المسيحية صارت التقدمة رمزا ينوب عن المسيح: فالخبز يمثل جسده والخمر دمه. وهو، في نظر المؤمنين به، حَمَلُ الله الذي مات على الصليب لكي يرفع خطايا الناس. وتتويج الخدمة الإلهية (القداس) في المسيحية يتم بالمناولة، أي بأكله من ذلك الخبز وشربه من ذلك الخمر طلبا لمغفرة الخطايا وسعيا إلى تأسيس عهد جديد في حياته، يخلع فيه الانسان القديم، آدم، الذي سقط من الفردوس، ويلبس الانسان الجديد، يسوع المسيح، الذي استعاد للإنسان فردوسه المفقود. والطواف حول الكعبة في الحج سبع مرات، هو طقس اسلامي يواكب ذكرى الأضحى وهي تعبير عن تضحية ابراهيم (ع) بابنه اسماعيل، وتضحية اسماعيل بنفسه، استجابة لأمر الله تعالى، وحين يقوم المسلم بالطواف في الحج ويؤدي شعائره ويذبح.. فإنه يضع كل شيء في حياته تحت يد الله، ويتقدم إليه بخضوع وخشوع تامين، وهكذا تغدو الذبيحة وسيلة لنقاء القلب واستقامة الروح وتجديد النفس. وعليه، يتضح مما تقدم أن الغاية الإيمانية التي يفيدها الطقس في المسيحية هي إحدى الأمور التالية: منح الغفران، تنظيف النفس من الخطيئة الأصلية، استنزال مواهب الروح القدس، تقوية الحياة الروحية، وتعزية النفوس والأجساد. وأما الطقوس الاسلامية فهي تفصح عن غايات مختلفة يمكن إجمالها بالتالي: تحصيل كمال النفس الإنسانية، اصلاح الفرد والمجتمع، استمطار الرحمة الالهية، نيل سعادة الدارين.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>الطقوس وأوجه التباين<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">الطقس الديني في المسيحية سر، والسر صلاة، وقد أطلق على الطقوس اسم "أسرار الكنيسة" أو "أسرار البيعة"، وأسرار الكنيسة سبعة:<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>1. المعمودية: </b>وهي بأن يسبغ الكاهن (أو أي شخص غيره عند خطر الموت) الماء فوق جبهة المعمود قائلا: اني أعمدك باسم الآب والابن والروح القدس. ثم يلبسه حلة العماد البيضاء التي تكسو الرأس والجسد ويعطيه اسما يعرف به. ويصرف ماء العماد إلى الأرض الزراعية النظيفة. والمعمودية تنظّف النفس من الخطيئة الأصلية (الموروثة من آدم). فالتدين في المسيحية طقس يؤديه الكهان لصالح الغير، وبمجرد أداء الطقس والانتهاء منه يصبح هذا الغير وبشكل تلقائي من أتباع المسيح، وقد يختار الإنسان هذا الطقس (كما في البالغ المختار) وقد لا يختاره (كما في الطفل)، وفي الحالة الأخيرة يعتبر إجراء الطقس بحق غير البالغ في نظر الاسلام نوع من التحكم المسبق في إرادة التدين لدى الشخص، ومن هنا كان الاختيار الجدي للدين في الاسلام موقوفا على سن معينة تسمى بسن البلوغ، حيث يختار الانسان دينه بملء ارادته واختياره، فيتأهل بذلك لتحمل مسؤولية اختياره، بعيدا عن الإيحاءات الخارجية الضاغطة والتي من خلالها يتم السيطرة على مشاعر الانسان وصياغته نفسيا وبرمجته روحيا منذ نعومة أظفاره بحيث يجد نفسه تلقائيا في حالة الانتماء الديني الجاهز والمسبق. وعليه فالاسلام يرفض كل أشكال التحكم المسبق بمصير الانسان، نفسيا وروحيا، بحيث يؤدي ذلك إلى استلاب شخصيته الدينية وشل قدراته الاختيارية وبناء القناعات المسبقة والمعدة سلفا. وترتسم من خلال النص المتقدم جملة تباينات أخرى تتفاوت النظرة إليها بين الديانتين: أ - ففي الاسلام ليس ثمة خطيئة أصلية موروثة، بل يولد الانسان على الفطرة التي فطره الله عليها، وهذا يعني أنه يولد نظيفا من كل خطيئة وأثم. ب - والخطيئة في حال حصولها لا تتجاوز صاحبها إلى غيره، وهي لا تحصل إلا من البالغ العاقل المتعمد لاقترافها، وتغفر بإقدامه على التوبة. فلا يؤاخذ الانسان بما ارتكبه الغير، (لا تزر وازرة وزر أخرى)، كما لا يتوقع الحصول على الغفران من خلال الطقوس التي يقوم بها الغير بشكل تلقائي. ج - والاسلام يتحقق بالشهادتين على الأقل، والناطق بهما يقصد ما يقول. وأما الطفل فهو، فقهيا، تابع لآبائه، ويكفي أن يعتنق أحدهم الاسلام حتى يتبعه الطفل فيه، والمسيحية لا تخضع لهذا النظام بل تعتبر الطفل مسيحيا بمجرد تعميده. د - الاسلام يجل الأنبياء عن اقتراف الذنوب.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>2. سر التثبيت: </b>وهو يتم في حفلة خاصة على يد اسقف المنطقة، فيدهن جبهة الطفل بدهن الميرون (مزيج من البلسم وزيت الزيتون سبقت مباركته بيوم الخميس السابق لعيد الفصح) وبرسم صليب عليها قائلا: "أُسِمُك بوسم الصليب وأثبتك بميرون الخلاص باسم الآب والابن والروح القدس". ثم يصفعه على وجهه صفعة خفيفة تذكيرا بما قد يعترضه من المصاعب من أجل محبة المسيح. وخاصية سر التثبيت هي أن يقوي الحياة الروحية في المعمود، وأن يستنزل عليه مواهب الروح القدس جميعا. هذا وتشترك الأديان في أصل الطقس، كما تشترك في ضرورة أن يلتفت المؤمن إلى ما وراء الطقس من غايات ايمانية، وإلا فالطقوس القشرية قد لا تنفع ان لم تكن وبالا على أصحابها. وسر المعمودية والتثبيت يلقيان الضوء على علاقة الطفولة بالدين، ومدى قابلية الطفل للتدين الحقيقي، وهذا أمر لافت في مجال المقارنة بين الديانتين الاسلامية والمسيحية، فالطفل بمجرد أن يعمد يصبح مسيحيا متدينا، وبعد ذلك يقوم سر التثبيت بتقوية الحياة الروحية فيه، والاسلام يستحب بعض الأعمال التي يقوم بها الآباء تجاه الأطفال المولودين حديثا، كالآذان الإقامة في آذانهم، والوليمة.. ولكن المسافة بين ما يدعو إليه الاسلام من خلال هذه الأعمال، وما تدعو إليه المسيحية يبقى شاسعا، كالمسافة التي تفصل بين الواجب والمستحب. وإسماع الطفل المولود صوت الحق (الآذان والإقامة) لا يعني أنه أصبح مسلما حقيقة، بل يتبع آباءه ويعامل كما يعاملون إلى أن ينشأ ويبلغ ويختار بكامل إرادته ووعيه الدين الذي يتناسب وقناعاته المسؤولة. والاسلام وإن كان يهدف بهذه الأعمال إلى إعداد الانسان بحيث يصل إلى الدين مع نضوج شخصيته، لا قبلها،، إلا أنه لا يستبق إرادة الانسان أو يستلب قدرته واختياره بل يلح في إفساح المجال للإنسان كي يتحكم بمصيره ويتحمل مسؤولياته في ذلك على ضوء ما يرشده إليه عقله السليم وفطرته القويمة. وهو يحترم الانسان شكلا ومضمونا وتعبيرا حين يرسم له طريق سلوك العبادة، فلا صفعات تذكيرية أو جرعات تهديدية.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>3. سر القربان: </b>وهو سر أسرار، وبه يدخل المسيح ذاته (عجائيا) إلى جسد المؤمن الذي "يتناوله"، بمعنى يأكله، تحت أعراض الخبز والخمر، وذلك لمغفرة الخطايا أي لتغذية الروح، ومن واجبات كل كاثوليكي أن يتناول القربان المقدس على الأقل مرة في السنة في موسم عيد الفصح. أو إذا كان في خطر الموت. ومن شروطه أن يكون المرء تائبا عن خطاياه، صائما عن الطعام والكحول قبل ثلاث ساعات إلا إذا كان مريضا فلا تلزمه هذه الفريضة بالصوم. وفي الاسلام شُرِّعت العبادات بسبب ما تحتوي عليه من مصالح للعباد، دنيويا وأخرويا. ولا نكاد نجد في الاسلام طرقا خاصة غير مألوفة عقلائيا لتحصيل الغفران، فإن في الكف عن الطعام والشراب في أوقات معينة استشعار بحال الفقراء وتذكير بصعوبات يوم الحساب مما يدعو لتلافي تلك الأخطار بالتوبة والعمل، ودعوة إلى التآزر الاجتماعي وأمثال ذلك من غايات عقلائية تقوي من رصيد الصوم كعبادة يصح التقرب بها إلى الله تعالى. وقد يكون في الصلاة رقي روحي للمصلي: (الصلاة معراج المؤمن)، وصلاح للمجتمع: إذ الصلاة تؤثر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الرصيد يضاف إلى الصلاة ويجعلها مرضية لله تعالى. وهكذا سائر العبادات في الاسلام لا تخلو من وجوه عقلائية ومصالح للعباد بها يتقربون إلى الله تعالى، وهذه ميزة الاسلام في عباداته، أما مجرد تناول بعض المأكولات كطقس ديني، واعتبار ذلك سببا لمغفرة الخطايا بدون ان يكون لذلك مبرر عقلائي فهو ما يرفضه الاسلام ويتميز به عن غيره من الأديان بشكلها الراهن. فلا نجد في الاسلام طقسا عباديا يرتبط بتناول الطعام، وهذا غير إطعام الطعام. نعم يجب في أوقات معينة، كما في العيدين الأضحى والفطر، الإفطار وعدم الصوم، ولكن ذلك إنما يكون تعبيرا عن اظهار السرور بالعيد الذي يعني اسلاميا التوفيق إلى العبادة (انما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه).<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>4. سر التوبة: </b>يشمل الاعتراف للكاهن (في خلوة) بالخطايا التي ارتكبها المعترف ضد وصايا الله والكنيسة. وينال "الحلّة" التي تغفر خطاياه، بعد أن يفي القانون المفروض عليه من ذلك الكاهن بشكل تعويض زمني (كالنوافل والصدقات والأصوام والامانات الجسدية..). وقد اعطى المسيح لتلاميذه هذه السلطة: "من غفرتم خطاياهم غفرت، ومن امسكتموها امسكت". والغفران في الاسلام لا يتهيأ إلا بمقدار ما يساهم الانسان نفسه في تهيئة مقدماته العملية، والعمل الصالح المصحوب بالإيمان هو الأساس في هذا المجال، فالإنسان هو الذي يحدد نجاته أو شقاءه (كل نفس بما كسبت رهينة)، وأما أعمال الآخرين فيمكن أن تكون من العوامل المساعدة التي تلطّف بها المولى على عباده ليسهم في نجاتهم، كما هو الحال بالنسبة لعبادات الأبناء التي ينوبون بها عن آبائهم، بل كل عمل صالح يهب الانسان ثوابه لميت، وكموضوع الشفاعة، وحسن الظن بالله وأمثال ذلك، فهذه الأعمال انما شرعت بمقتضى الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نخلط بين الديانتين، بحيث نعتقد أن الغفران والنجاة يتحققان تلقائيا بمجرد قيام الغير بطقوس معينة من أجلنا. بل إن أعمال الانسان نفسها لا تقوى على نجاة صاحبها إلا بعد أن تخضع لعامل التنزيل الإلهي، حيث ينزّل العمل القليل منزلة العمل العظيم، فيعطى عليه من الأجر أضعاف مضاعفة، (من تقرب إلي شبرا أتقرب منه ذراعا)، والمهم في كل ذلك أن يكون العمل صادرا من الانسان نفسه، لا من الغير. أو على الأقل أن يكون الانسان قد أعد نفسه لتقبل المغفرة من خلال التورع عن ارتكاب المحرمات، وإلا فصكوك الغفران لا تعطى مجانا في الاسلام. ومن جهة ثانية فان الاعتراف في الاسلام لا يكون إلا لله تعالى، (إذا بليتم بالذنوب فاستتروا)، فليس ثمة وسائط تمنع مباشرة العبد لله في باب الرجاء والتوبة، وأي حديث عن الوسائط في الاسلام لا يتجاوز في جملته موضوع الرحمة والتسهيل، وإلا فلا وسائط تحول دون مباشرة العبد للعلاقة مع الله تعالى.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>5. المسحة الأخيرة: </b>تعطى للمحتضرين، أو للأصحاء الذين يخشون خطر الموت، وذلك تعزية وتقوية للنفوس وللأجساد. وقوامها أن يسمع الكاهن اعتراف المريض، ويزوده بالزاد الروحاني (أي القربان المقدس) في رحلته إلى خارج هذا العالم، ثم يمسح بالزيت مناطق حواسه الخمس مع تلاوة أدعية خاصة، وأخيرا يمنحه غفرانا أبويا كاملا. وهذا أمر نلحظه في كافة الأديان التوحيدية عموما، حيث تترافق مرحلة الاستعداد للموت مع بعض الأعمال التي تساهم في التخفيف عن المحتضر وتأمين راحته النفسية، (كتلقين شهادة الموت، وكلمات الفرج.. في الاسلام). ولكن يبقى التمييز بين الأعمال التي تؤدي إلى مجرد التخفيف والترويح، والأعمال التي تؤدي إلى غفران الذنوب، قائما وضروريا. مع التأكيد على أن هذه الأعمال المستحبة قد لا يقتصر دورها على التخفيف فحسب، بل يمتد إلى مجال الحصول على الغفران إن كان المحتضر قد أعان على نفسه بالعمل الصالح والتورع عن ارتكاب المحرمات..<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>6. الكهنوت: </b>وهو سر يمنح للأساقفة والكهنة وغيرهم ممن يقومون بخدمة الكنيسة روحيا، يجري منحه بموجب السلطة التي سلمها المسيح إلى تلاميذه كي يسلموها بدورهم إلى الأساقفة، وهكذا دواليك إلى حين مجيئه في آخر الزمان. ويتم سر الكهنوت "بوضع اليد" على رأس المرسوم مع تلاوة كلمات الرسامة، ويقوم بها أحد الأساقفة. ويشترط فيمن يرغب بأن يقتبل الكهنوت مجموعة شروط، وعليه أن ينذر نذوره الثلاثة قبل اقتباله الدرجة الكهنوتية، وهي نذور: بالتبتل، والفقر، والطاعة، مدى الحياة. أما في الاسلام فالعلماء المجتهدون هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل، نالوا هذا الفضل بما تمتعوا به من مواصفات قيمية عالية أهلتهم لمرتبة الوراثة، من علم واسع وتقوى وورع وكفاءة.. وعليه فليس في الاسلام طقوس عملية ومراسم دينية بحيث يتم من خلالها تعيين الأمناء على الدين الحنيف، وإنما هي كفاءات يحصل عليها العلماء ببذل الجهد والطاقة والوسع، شأنهم شأن سائر الوظائف العامة التي يصل إليها الانسان بكفاءته وإخلاصه وعلمه الواسع، وتبقى الإجراءات الرسمية الخاصة بارتداء الزي الديني في الاسلام خاضعة لاعتبارات التصدي العلني للوظيفة التبليغية العامة من دون أن تشكل بذلك إجراءا طقسيا وكهنوتي يرقى إلى مستوى الإشتراط في الانتماء.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>7. الزيجة: </b>سر يربط بين معمّدين بالغين (رجل وامرأة) لمدى الحياة، بزواج شرعي، وبه ينالان نعمة مزاولة الواجبات العائلية. ويتم بحضور الكاهن. ويسمى "اكليلا" إذ فيه يكلل العروسان رمزا إلى أنهما يخولان القيام بأسمى عمل يقوم به الانسان بعد الله أي إعطاء الحياة عن طريق انجاب الأولاد وتربيتهم في خوف الله. الزواج في المسيحية سر، فهو صلاة وعبادة. وهو في الاسلام معاملة تعاقدية فيها شائبة عبادة، وينتج عن ذلك فوارق عدة، فالزواج في المسيحية مشروط بحضور الكاهن، ولا يشترط في الزواج الاسلامي حضور عالم الدين. والزواج في المسيحية مشروع دائم، وارتباط لمدى الحياة، ولكن لا علاقة لذلك باصطلاح (الزواج الدائم) و(الزواج المؤقت) في الاسلام، ولا ربط له بالمعنى المسيحي للكلمة. ويتفرع عن ذلك تمايزات عدة: فما جمعه الله لا يفرقه الإنسان، وعلى أساس ذلك يحظر الطلاق، وهذا ما لا يوجد في الاسلام. إلى هنا، نجد أن الإختلافات التي تشتمل عليها الطقوس بين الديانتين الاسلامية والمسيحية تصل إلى العمق وتصيب الجوهر، كما أن التشابه الذي قد يتراءى فيما بينهما هو تشابه سطحي وشكلي، وبالتالي لا يمكن الأخذ بما تضمنته بعض الدراسات المعاصرة في مجال مقارنة الأديان، أو تلك التي قدمت بعنوان فلسفة الدين.. والتي تذهب إلى حد الإدعاء بالتشابه الجوهري والتطابق التام بين الأديان على الأغلب، وأن الاختلاف بينها لا يكاد يتجاوز السطح والمظهر الخارجي. وما يدعونا إلى التصريح بهذه الحقيقة هو إيماننا بضرورة الأخذ بالحقائق كما هي، هذا التصريح الذي يشكل مبنى ارتكازيا تقوم عليه محاولات التقارب والتحاور، وليس المجاملات التي لا تدوم أمام النقد العلمي والتأسيس الجاد والحقيقي لأي جهد بناء في هذا المجال.</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: left;"><span style="color: #351c75; font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-17489061922162033122010-10-23T22:17:00.001+03:002010-12-25T15:44:48.939+02:00النص القرآني في ضوء القراءة التأويلية الحداثية<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ثمة نظرة متحفظة إلى القراءات "المعاصرة" أو "الحداثية" للنص المقدس، ترى في المشروع الحداثي مجرد رابط اجتراري يربط ما بين النسخة الغربية الاصلية والمسخة العربية المقلدة , هذا الرابط يسعى الى توليد الخطاب الديني وفق معطيات الهرمينوطيقا والبنيوية والتفكيكية وكل ألوان النشاط اللساني والتأويلي الحديث التي نظّر لها أمثال بول ريكور ورولان بارت وجاك دريدا وميشال فوكو.. ولا تفرق هذه النظرة بين اتجاه وآخر في داخل المنظومة الحداثية، طالما أنه يجمعها جذر اساس يختبئ خلف الاختلافات الظاهرية القائمة فيما بينها. وقد استخدمت لفظة " هرمينوطيقا " في الدراسات اللاهـوتية للدلالة على المعايير التي يجب اتباعها لفهم النص الديني، ثم توسع مجال استخدامها بحيث صارت تعنى بالكشف عن وسائل وآليات الفهم التي تمكِّن من فهم النص. وما لبث أن تحول المفهوم إلى منهج مستقل، ونمط من أنماط القراءة للنصوص، ورؤية خاصة تستهدف تفسير وتأويل الوجود والانسان والحياة. وتعود دلالة الهرمينوطيقا في أصلها اللغوي (الإغريقي) إلى الفعل ترجم، وفسّر، وأبان، إلا أنها لم تستقر كمصطلح إلا حديثا، وعلينا منذ الآن أن نرفض الوظيفة الدلالية للغة؛ ذلك ان اللغة لم تعد وظيفتها قائمة في الكشف عن الأشياء، بل الأشياء تظهر نفسها من خلال اللغة، والقارئ يقوم باستدعائها عبر النص. وبهذا يغدو النص مجرد وسيط محايد بين المبدع والمتلقي، وتنبع حياديته من كونه ثابتا في شكله، الأمر الذي يجعل عملية الفهم ممكنة ويسمح بتلقيه من جيل إلى آخر. وتبقى الحقيقة التي يتضمنها النص غير ثابتة، وإنما تتغير تبعا لتغير فهم المتلقي وقبلياته وأفقه الخاص. والنص هنا، لا يعكس رؤية كاتبه، وليس له أن يفرض على المتلقي إرادة مبدعه، وإنما هو ملك لقارئه فحسب، يفعل به ما يشاء. ولهذا، على القارئ أن يقحم دوافعه الذاتية في القراءة، إذ تعتبر هذه الدوافع عوامل أصيلة في عملية الفهم؛ ذلك أن الفهم إبداع مستقل عن النص وإن كان يتم بالاستعانة بإيحاءات النص، ولا ينبثق مثل هذا الفهم إلى الوجود إلا بعد أن يحدّ القارئ من سلطة النص، ويكفه عن التدخل السافر في إنتاج الدلالة، ويتعامل معه بوصفه علامات ورموز جاهزة لتصرف القارئ واملاءاته. ومن هنا وجدت الهرمينوطيقا بغيتها في التفسير الرمزي للنص، وذلك: إما باعتبار الرمز وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه من معنى، بحيث يتم استجلاؤه وابراز الدلالة فيه من خلال قدرة العلامة على إيجاد صلات استدعائية بغيرها من العلامات، واحتوائها على قابلية تأويلية تربط بين الدلالات، وإمكانية تعبيرية تجمع بين المتفارقات. ولا تنفتح إمكانيات التأويل هذه إلا بعد إقالة الكاتب عن ممارسة أي دور فيه، وقصر النظر على بنية النص بما فيها إحالاته الصامتة. وإما باعتبار الرمز حقيقة مؤقتة يجب تجاوزها لبلوغ المعنى المختبئ وراءها، فالرمز هنا لا يشف عن المعنى بل يخفيه ويستبدله بمعنى زائف، ومهمة المفسر استعادة المعنى الصحيح وفضح المعنى الزائف. إلى هنا، فإن المعنى الذي يريده مؤلف النص يكون قد افتقد عنصر الثبات، واستبدِل "هرمينوطيقيا" بالفهم، وأخضع الفهم للتحول والتغير تبعا لما يريده قارئ النص وليس كاتبه. وقد جاءت القراءة التفكيكية تالية للقراءة البنيوية، فعمدت إلى دراسة النص دراسة تقليدية، متوخية في ذلك الانقضاض على نتائج ما توصلت إليه تلك الدراسة، وذلك من خلال إجراء قراءة معاكسة، مهمتها تقويض ما كان يصرح به النص فعلا. وهي تسوغ ذلك باعتبار أن التفكيك سوف يخولنا أن نتجاوز المعنى السطحي للوصول إلى معنى المعنى. وإذا كانت التفكيكية قد قطعت شوطا ما في تقويض الدراسة التقليدية، إلا انها لم تفلح في إيجاد القراءة البديلة، واقتصر انجازها على التقويض والهدم.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: center;"><span style="font-size: large;">* * *<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: #548dd4;"><b>[1]</b></span> القراءة بحسب هذا المنظور لا يمكن أن تكون بريئة؛ إذ كل قراءة تعتبر صحيحة إلى أن يتم استبدالها بقراءة جديدة، وبذلك تتحوّل القراءة الأولى إلى "إساءة قراءة"، وهكذا الأمر في القراءات اللاحقة. وعدم وجود قراءة بريئة لا يعني أن القراءة خاطئة، لأنه لا وجود أصلاً لقراءة صحيحة، بل ان كل قراءة هي عملية خروج عن المألوف، وإجراء تحوير مستمر للحقيقة. وإذا كان من الخطأ اعتبار وظيفة القراءة هي تفسير النص، فلا يتوقع القارئ من النص أن يزوده بأي معنى. وبهذا لا تخلو أية قراءة حداثية للقرآن الكريم من إساءة قراءة، باعتبار أن دلالة النص القرآني ليست ثابتة، وأن كل قراءة هي في ظرفها الخاص صحيحة، ولا توجد قراءة خاطئة على الدوام، وبهذا يكون النص القرآني مفتوحا على جميع الدلالات والاحتمالات، ويغدو علامات ورموزا حاوية بحسب القابلية لكل الاتجاهات والأغراض. وليس من شأن <a class="zem_slink" href="http://en.wikipedia.org/wiki/Qur%27an" rel="wikipedia" title="Qur'an">القرآن</a> - بحسب هذه الرؤية - أن ينطق بالحقيقة دفعة واحدة، أو يفصح عن المعنى النهائي، وإنما يندمج في علاقة تأويلية مع الحقيقة، دون أن يحد من دينامية التأويل تعارض القراءة وتناقضها، أو استغلاق النص عن الفهم، بل إن ذلك يقلّل من إمكانية استنفاذ الطاقة التوليدية للنهج الحداثي، ويدعم اثراء النص بكل جديد. وعليه، ما دام الله فوق تصور البشر، والعلاقة معه تمرّ بتوسيط اللغة، وحيث إن اللغة نسبية وخاضعة للتأويل، فليس لأحد أن يُقرر المعنى الكلي للقرآن، أو يفرض تصورا نهائيا لله، سيما وأن أي قراءة للقرآن الكريم لا يمكن أن تكون بريئة وحيادية؛ لأنها في المحصلة النهائية تستند إلى أفق القارئ الثقافي والعصري، وتتستر وراءها دوما دوافع وغايات لا تتسم بالحيادية. ومن هنا ينفتح المجال - بعملية تأويلية - لإقصاء كل تصور عن الله يدعي النهائية، وإحلال تصورات تخضع لمشيئة القارئ وأفقه الثقافي الراهن محله.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: #548dd4;"><b>[2]</b></span> رفعت البنيوية شعار "موت المؤلف" بصفته مؤسسا للنص، وأنزلته إلى مجرّد ناسخ للغة، وقطعت بذلك كل الصلات الحيوية بين المؤلف والنص، ممهّدة بذلك لإعلان ولادة القارئ. فالمؤلف مجرّد وارث ومستخدم للغة، واللغة هي التي تتكلم وتبدع المعنى بالارتكاز إلى أفق القارئ الثقافي وظرفه الراهن. وبإخضاع النص للقارئ ينكشف لنا حتمية ارتهان التنزيل الإلهي للتأويل البشري بحيث يمكن القول بأن القرآن قد تأنسن؛ ذلك أن النص القرآني بمجرد أن يحتك بالعقل البشري يدخل في دائرة الفهم الانساني ويخضع للسيرورة التاريخية والاجتماعية المحكومة بسقف الخبرة الآنية والتجربة المرحلية والموقف النسبي الذي تمليه ظروف العصر. والمعضلة هنا تكمن في أننا لسنا مخولين بالحديث عن المعنى بوصفه عنصرا قرآنيا ثابتا قابلا للاستهلاك والتوظيف، وإنما يمكن أن نتحدث عن حقيقة النص المتمثلة حصرا بفهم القارئ وقراءته له، فنتحدث عن انتاج القارئ وابداعه الحاصل من خلال تراكم معرفي يضفي على النص أبعادا جديدة لم تكن منظورة من قبل، وهذا يعني أن حقيقة النص وروحه مختزنة في داخل الإنسان، وأن الانسان بوصفه قارئا للنص مكلف بحرثه واستبذار المعنى الحقيقي فيه بما يتناسب وروح العصر. بهذا تتمثل حقيقة النص في نطاق الشرح والفهم فحسب، أما شكل النص فيغدو بمثابة الجسد الذي لا معنى له، ولا حياة له بدون الروح. وبعبارة واحدة علينا أن ندرك أن "فهم النص" قد نسخ "النص" وأنهاه. دون أن نهمل من حساباتنا أن هذا الإنتاج مستمر ويخضع لقانون إساءة القراءة ويتجدد بتجدد الظروف بفعل التراكم المعرفي المستمر، ويتعدد بتعدد القراءات بفعل نمو التجربة الانسانية وتمرحلها الدائم.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: #548dd4;"><b>[3]</b></span> بعد "موت المؤلف" على يد البنيوية، أعلنت التفكيكية لاحقا "موت النص". وبذلك أصبح القـارئ بمفرده في الميدان، فهو الذي يسهم في إنتاج النص، ويضفي عليه المعاني والدلالات. والنص هو بمثابة حقل ثري بالدلالات المضمرة والمعاني الخفية. ومهمة القارئ هي في أن يجري على النص عمليات حفر وتنقيب ضمن سيرورة لا تعترف بحد نهائي يستقر عليه الفهم، وهذا ما يضفي المشروعية للتأويل باعتباره يعمل في مجال مفتوح غير قابل للاختزال. وحينئذ لن يكون هناك أي نص بمنأى عن التأويل، بما في ذلك النص القرآني نفسه والذي يحتوي على مخزون دلالي هائل وفضاء إيحائي حافل بامكانيات القراءة إلى جانب كونه نصا متشابها حمال أوجه. وتنبع مشروعية التأويل من الفراغ الذي أصيب به النص وأفقده ثقل المركز، وحوّله بذلك إلى إشارات ودوال تحتاج الى مرجعية تضفي عليها المعنى، ويمكن تشبيه النص حينئذ بالجنين الذي يبحث عن أب يتبناه، وهذا الأب يتمثل بما يدور في ذهن القارئ ويضطلع به من إعادة بناء وخلق للنص وملء لفراغاته، وتضمينه الدلالة تضمينا دائميا لا يقبل التحقق النهائي، فالمعنى في حالة إرجاء دائم، والرمز في حالة إحالة دائمة بحيث لا يستقر على مدلول ثابت. وما دام النص القرآني حافل بالدلالات المضمرة التي لا تقف عند حد، لذلك يجب اطلاق عنان التأويل لاستفراغ المعاني الكامنة في النص وإيصاله إلى مرحلة الصفر التي يتماهى فيها مع كل الاحتمالات الممكنة، وهي مرحلة: النص الذي لا يعني شيئا محددا، وفي نفس الوقت يمتلك قابلية أن يعني أي شيء.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: #548dd4;"><b>[4]</b></span> النص ليس كيانا مقفلا على نفسه، وإنما هو نتاج لسلسلة من العلاقات المتشابكة مع نصوص أخرى، ومخاض لـ كم هائل من الدلالات ذات المصادر المتباعدة، كـل نص هو صدى لنص آخر، واستجابة لثقافات متشعبة تخضع لجدل علائقي مستمر. وحيث إن القارئ له أفقه وتوقعاته، فلا يوجد نص وإنما يوجد تناص. وبهذا المعطى، يغدو النص القرآني بحسب هذا المنظور صدى لنصوص سابقة عليه أسهمت في تشكيله وابداعه. والنص يتخلله الصمت، ويتسم بقابلية الاستنطاق، فلا يوجد نص إلا والى جانبه شيء مسكوت عنه، وهذا الفراغ يمنح القارئ الحرية في تقويل النص ما لم يقله، ويمنح النص مجالا مفتوحا لاخصاب المعنى بصورة لانهائية. وهذا يعني أن القارئ مدعو إلى التحرر مما يقوله النص - بما في ذلك النص القرآني - والى إقصاء المرجعية القصدية للمؤلف كليا؛ إذ الفهم رهن بالتحرر من سلطة النص، ويتم ذلك بالكشف عن الغامض والخفي والمستبعد في النص، والافصاح عما لم يقله المؤلف مما هو مسكوت عنه فيه، ولهذا يحتاج النص إلى عين ناقدة ترى فيه ما لم يره المؤلف، بل وتجد فيه عكس ما صرح به ولو بالاستعانة بما يقوله النص نفسه.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: #548dd4;"><b>[5]</b></span> تنشأ الدلالة المعجمية بحسب السائد من تقييد اللغة بالمعنى، في حين يخالف المنهج الهرمينوطيقي هذا التوجه، ويذهب إلى أن الدلالة انما تنشأ من تحرير اللغة من المعنى وافراغها منه، فاللغة يسودها نظام من العلامات الحرة والإشارات العشوائية والرموز المتفلتة من أي قيد، وهذا الأمر هو الذي يسمح بنمو العلاقات داخل النص، ومن خلال اللعب الحر هذا يتم إيصال الدلالة إلى مرحلة لانهائية المعنى، وبعبارة مرادفة إلى اللامعنى. والرمز هنا يسعى إلى تجنب دوره القديم في الايماء الخفي الى ما هو أعمق وأبعد غورا، ويتمرد على الوضعية السائدة التي تجعل وجوده لغيره وليس لنفسه، وهو يتبرأ بذلك من قرينه المتمثل في المرموز إليه، ويتخلى عن دوره كدال يهتدي القارئ به، وهكذا ولمرة واحدة تُرِكت الساحة للقارئ لكي يملأ فراغات الرمز ويضفي عليه الدلالة التي يشاء. من هنا علينا ان نتعامل مع النص القرآني - بحسب المنظور هذا - بوصفه حقلا ملغوما بالرموز والاشارات التي تتيح للقارئ أن يضمنها بما يريد ويرغب، فالرمز لا يقول كل الاشياء، وما يقوله يظل قابلا للتعميم، حمال أوجه، يقبل الإيحاء وإنتاج المعنى إلى ما لانهاية. ويشبه أن يكون النص - بما فيه القرآني - قابلية محضة للاستنطاق؛ ذلك أن الرمز ليست مهمته التنبؤ بالمعنى المتحقق فعلا والموجود مسبقا في قصد المؤلف، وإنما مهمته هو الترقب للمعنى الذي سيولد لاحقا في ضمير القارئ.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: center;"><span style="font-size: large;">* * *<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">هذه نبذة عن مجمل آليات الفهم التي استهلكها الفكر الغربي وأجهضها، ولا يزال الخطاب الحداثي العربي يجترها على أنها المنهجيات الحديثة اللازمة لفهم النص. وغالبا ما يتسلّل في قراءة النص القرآني قراءة حداثية من ثغرة "التأويل"، ذلك التأويل الذي لا تربطه صلة بمفهوم التأويل القرآني. وأما "التفسير" الذي يهدف للكشف عن مراد صاحب النص فلن يشبع غرور الحداثي طالما انه يتوسل من خلال المنهج المتبع لديه الى تجاوز النص وصاحبه جملة وتفصيلا. وتجدر الاشارة إلى أن هذه الخلاصة، قد تكشف عن نزعة متطرفة في الاتجاه الحداثي بحسب مصادره الاصلية، وهي مع ذلك تفصح عن نفسها في مجمل "المشاريع" الحداثية العربية التي استلهمت أسس الحداثة وبنيتها من هذا المشرب بالذات، وإن بدت لنا في ظاهرها ملطفة ومخففة عن النسخة الأم. وأخيرا، فإن القراءة الحداثية قد تبرر لأمثالي تقييم المنهج السائد فيها تقييما سلبيا وذلك انطلاقا من هذا المنظور الخاص. لكن هذا التقييم لن يزيد عن كونه - ومن نفس المنظور - قراءة خاصة لا تلزم الا قارئها. وبهذا قد تملك زمام التفلت من أي مأخذ بحقها يكون صادرا عن نفس قواعد اللعبة. الا انها - ومن منظور آخر - لن تعدو أن تكون في المحصلة النهائية ارجاعا لنزعة قديمة تأرجحت بحسب معطياتها بين مآلين: إما الوقوع في فخ "التصويب"، وإما الارتهان لمأزق النسبية والعبثية والعدمية.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;"> </span><span style="color: #351c75; font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-55136388211074042302010-10-23T22:02:00.001+03:002010-12-25T15:48:26.962+02:00النص القرآني في ضوء القراءة التاريخانية<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">نحن هنا إزاء معطى محدد: كيف نتعامل منهجيا مع النص الديني؟ وتنشأ المجازفة في هذا النوع من البحث حين نقارب النص القرآني وفق آليات منهجية تتسم بالتوتر والنسبية ولا تقر أي لون من ألوان الثبات. وهذا النمط من الدراسات لا تستسيغه الأطر التقليدية السائدة في فهم النص إذ ترى في مجمل الطروحات الحداثية على اختلاف أنظارها نوعا من تعمد سوء الفهم القائم على أساس من القطيعة مع التراث، وتنم عن سعي حثيث نحو إيجاد سلطة بديلة ترتكز في مرجعيتها إلى فهم النص «من خارجه». ويتم ذلك عادة في حقل اللسانيات الذي يشهد نشاطا خصبا على مستوى الدراسات المعاصرة، وهو نشاط تأويلي قائم على الرمزية ومهجوس بطابع الانزياح الدلالي الذي من شأنه أن يحرر القارئ من إسار حرفية النص بما يجعله على المحك في علاقته بالنص الديني، ذلك النص الذي ينبغي أن يتسم دوما بدرجة ما من الثبات والوضوح. وبالإضافة إلى اللسانيات تعتمد المناهج الغربية الحديثة في دراستها للقرآن الكريم بشكل أساس على المنهج التاريخاني.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b> النزعة التاريخية (التاريخانية)<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">التاريخانية ( Historirisme ) غير التاريخية ( Historite ). وقد عرفّت بأنها مذهبة التاريخ ضمن بوتقة مفهومية ترى أن التاريخ محكوم بقوانين موضوعية تسير به مسبقاً نحو غاية ثاوية فيه تحملها طبقة أو أمة أو عرق.. والمقصود بالتاريخانية هنا التاريخ كمبدأ وحيد للتفسير، تفسير كل الظواهر المرتبطة بالإنسان (حتى الديانات) عن طريق شروطها التاريخية، فالتاريخ يكفي نفسه بنفسه، ولا علاقة له بأي مبدأ آخر للتفسير، لأن التاريخانية تنفي كلّ المبادئ الأخرى كالغيب والوحي والرسالات.. والتاريخانية ليست مجرّد منهج بل هي مذهب يرى بأنّ كلّ حقيقة - مهما كانت النتيجة - للشروط التاريخية. وبحسب هذا المذهب فإننا لا نستطيع الحكم على الأفكار أو الحوادث أو المفاهيم والمعتقدات والأديان ونظم الجماعات، إلا بنسبتها للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه؛ إذ النظر إليها من ناحيتها الذاتية يوقعنا في التباسات اختزالية مقيتة... بينما نسبتها للوسط التاريخي ستضعها في إطار المعالجة والرؤية الموضوعية لخصائصها وتركيبها ومظهرها. لذا فلا مناص من ضرورة النسبة الحتمية للتاريخ؛ إذ سر كل شيء وروحه هو التاريخ، وسر الروح إنما يعرض نفسه في التاريخ حسب المسيحية؛ وعلى التاريخ في العلم والفن والدين والفلسفة والقانون حسب هيغل. ويفضّل محمد أركون استخدام مصطلح التاريخية على التاريخانية، باعتبار أن التاريخانية هي القول بأن كل شيء يتطور مع التاريخ، وانه ينبغي دراسة الأحداث من خلال ارتباطها بالظروف التاريخية، بينما تهدف التاريخية تحديدا إلى إقصاء الاستخدام اللاهوتي والإيديولوجي للتاريخ، والإفضاء بالتالي إلى مقولة التفسير التاريخي للقرآن باعتبار أن مضامينه موافِقة لظروف معيشة وأفق محمدP ومستمعيه الأوائل، لكنها لم تعد تتوافق مع ظروف معيشة وأفق قارئ اليوم الحضاري. أما نصر حامد أبو زيد، فيتفاوت المنهج التاريخي عنده ما بين تاريخية لا تعترف بصعيد خاص للظاهرة الدينية ولا تقرُّ به، وتتعامل معها كأية ظاهرة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية عادية، انطلاقًا من ذاتيتها المباشرة والزمكانية، وبين تاريخانية تأخذ بالاعتبار البعد التزامني، التطوري، للظاهرة الدينية، والأصعدة الخاصة للظاهرة (الميثولوجية، الميتافيزيقية، والجمالية)، باعتبار الدين ظاهرة ميتافيزيقية. وبعكس التاريخية (أو التاريخوية) التي تنطلق من فرضية وجود مسار موضوعي (وضعي) أو اتجاه عام، غائي، سببي، وعِلِّي، يقوم على قوانين تحكمه، ويمكن بناء الحكم على أساسها، فإن المنهج التاريخاني يرى أن الظاهرة الدينية تشتمل على «قيمة» متعالية، لا تخضع لقوانين المنطق الصوري ولمبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع. وإذا كانت النظرة التاريخوية تؤكِّد على بطلان المعقولية الدينية، دون التمييز ما بين الثيولوجي والميثولوجي، بين الدين والدينية، فإن النظرة التاريخانية تجد أن أشكال القدسي والرمزي محايِثة في أكثر أشكال الحداثة العقلانية. ومن نافل القول إن موضوعات الحياة وآداب المعاملة والحب والجنس والجمال والبيئة لها قيمة مقدسة. إن تبنّي أركون للتاريخية بما هي ميزة تتكفل جانب إقصاء الاستخدام اللاهوتي والإيديولوجي للتاريخ، يكشف عن الوجه الإيديولوجي الذي يغلّف النزعة التاريخية وجانب القلق في ادعائها العلمية والمنهجية، كما أن تمسّك أبو زيد بالتاريخانية وعيا منه بخصوصية الظاهرة الدينية واشتمالها على قيمة ميتافيزيقية متعالية فوق منطقية لا ينبغي أن يفهم منه إلغاء خطوط التقاطع في امتهان المنزع التاريخاني العتيد.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: red;"><b>التاريخانية والنص القرآني<br />
</b></span></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ثمة محاولات لإخضاع <a class="zem_slink" href="http://en.wikipedia.org/wiki/Qur%27an" rel="wikipedia" title="Qur'an">القرآن</a> للقراءة التاريخية، ففي جهة الاستشراق، نجد أن المناهج التي اتبعها المستشرقون في دراسة القرآن، وخلال حوالي المئة والخمسين عاماً، تدّعي في أكثرها أنها تاريخية أو تاريخانية ونقدية، وما توصلت لأكثر مما توصل إليه تيودور نولدكه [1] الذي يقع كتابه «تاريخ القرآن» في أولها (صدرت صيغته الأولى عام 1859). وأن ما انتهى إليه برتزل وجفري أولاً، ثم بلاشير وبارت ثانياً أن الطريقة التاريخانية النقدية غير مثمرة، لأنها تتعامل مع القرآن كما تعاملت مع النصوص المخطوطة، والتي لها مخطوطات عدة تختلف نصاً وقِدماً ودقة، وأنها إنما تريد باستعمال اختلافات النسخ الوصول إلى نص محقق أقرب إلى ما كتبه «المؤلف» أو تركه. فهناك بالنسبة إلى هذه المدرسة نص أول للقرآن غطته أو حرّفته أو حررته نصوص ثوان وألْسنة، وهي تطمح لإعادته للطبعة الأولى أو للمخطوطة الأولى. وقد حكم نولدكه على هذه المحاولة بالخطل منذ البداية عندما قال إن النص القرآني يعود إلى القرن السابع الميلادي، وليس فيه أَوْ لَهُ أصولٌ وفروع، بل هو نص واحد «على غرابة ترتيبه وتركيبه». وما منع ذلك كلاً من أوتو برتزل وآرثر جفري من جمع اختلافات القراءات ومخطوطات القرآن الأقدم، وطوال عقود، إلى أن تخليا عن المشروع «التحقيقي» و«النقدي» بعد الحرب الثانية. وفي جهة الاستغراب: ثمة محاولات أيضا للخوض في هذا الاتجاه، نلحظ من دعاته وإن بنسب مختلفة ومتفاوتة: الطيب تيزيني في النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة. عابد الجابري في التراث والحداثة. هاشم صالح في القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني. علي حرب في نقد النص، ونقد الحقيقة. نصر حامد أبو زيد في الخطاب والتأويل، ومفهوم النص. أدونيس في الثابت والمتحول. محمد أحمد خلف الله في الفن القصصي في القرآن. محمد شحرور في الكتاب والقرآن قراءة معاصرة. صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني. حسن حنفي في دراسات إسلامية، ومفهوم النص. وقد اشتغل المفكر الجزائري محمد أركون منذ ثمانينيات القرن الماضي على وضع آليات قراءة النص الديني وفق منظور المنهج التاريخي موضع التنفيذ، وانخرط في فضاء فكري مختلف عن البيئة الثقافية الأصلية التي ينتمي إليها ويشتغل عليها، مما أتاح له وضعا أكثر موائمة وتحررا وانفلاتا من القيود والشروط التي تقتضيها طبيعة التفاعل مع المحيط الأصلي الذي يصب عليه فكره. وقد دعا أركون إلى ممارسة النقد التاريخي على النص القرآني بقوله: عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن. واتسم طرحه بالإخلاص العميق للنزوع العلماني الليبرالي من خلال انخراطه الكلي بالأسس المنهجية الغربية، التاريخية والتفكيكية، دونما مراعاة للخصوصيات المحيطة، وكذلك من خلال متابعته للنشاط الاستشراقي الذي ينبغي بنظره التعامل معه بوصفه قناة الوصل النقية التي لا ينبغي التشكيك بجدوائيتها العلمية من جهة أخرى. وشيئا من هذا، لم يتوفر لنصر حامد أبو زيد الذي وجد نفسه في ذات الطريق ولكن في ظرف مختلف كليا عن سابقه، فقد دعا أبو زيد للتحرر من سلطة النص والقراءة الحرفية، وإلى التأويل بمقتضى المنهج التاريخي في ضوء مبدأ التطور والتغير في الأزمنة والأحوال. وبسبب اعتناقه لهذه الفكرة في منتصف التسعينيات كان عليه أن يواجه حكما بالارتداد عن الدين، نتيجة تثويره الفكري ونمطيته المتوترة، فقد كان يصدر عن خلفية حداثية مهجوسة بمزاج إسلامي تثويري. ونظرا لتشعب الموضوع سوف نعمد إلى الاستشهاد بآراء محمد أركون كونها الأكثر أداءا والأوفى تمثيلا للخطاب العلماني الغربي على مستوى الدراسات القرآنية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تمثله هذه الآراء من مسار عام على مستوى تطبيقات النزعة التاريخية المنهجية دون الوقوف عند شخص قائلها.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><span style="color: red;"><b>تاريخية النص القرآني<br />
</b></span></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يتعامل الخطاب العلماني مع النص القرآني بوصفه «نصا تاريخيا»، وهذا يعني:<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">1) إخضاع النص القرآني للقراءة النقدية عن طريق النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، ونحوها من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية.. فيفترِض الخطاب العلماني وجود مشكلة تعترض سبيل فهمنا للنص القرآني، وتتحدد هذه المشكلة في وجود فَرْق بين النص المقروء في زمن نزوله على النبي (ص)، وبين النص المكتوب بين دفتي المصحف، ويصرح أركون بأن المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائدا أيام النبي. إن التفكيك بين القرآن والظاهرة القرآنية، الشريعة والفقه، الدين وفهم الدين، المعنى والمغزى.. على أساس التمييز بين ما هو إيماني وما هو تاريخي من شأنه أن يمهد السبيل لإرساء الظاهرة الدينية على قاعدة التاريخ. وكما يقول أركون: أما التمييز بين القرآن الكريم والظاهرة القرآنية فأقصد به الفرق بين تغذية الروح الإسلامية بكلام الله تعالى، ودراسة النصوص القرآنية كما ندرس الظاهرة الفيزيائية أو البيولوجية أو الاجتماعية أو الأدبية، وبهذا يمكن لنا - بحسب الزعم - تجاوز العراقيل التي تحول دون فهمنا لآيات القرآن في الوقت المعاصر. وتتمثل العرقلة في أن القرآن يقوم - عن طريق العمليات الأسلوبية والبلاغية - بخلع التعالي على أحداث تاريخية واقعية حصلت في زمن النبـي (ص)، ولكنها حوّرت من قبل الخطاب القرآني لكي تتخذ دلالة كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية، وتصبح وكأنه لا علاقة لها بحدث محدد وقع في التاريخ المحسوس.. فالقرآن يمحو المعالم المحسوسة والإشارات التاريخية الدقيقة عن طريق أسلوب التسامي والتصعيد، أي تصعيد هذه الأحداث بالذات، وإسباغ الروحانية الدينية والكونية على مفردات ذات مضمون اجتماعي وسياسي وقانوني في الأصل. وهكذا ينجح القرآن في محو كل التفاصيل والدقائق التاريخية للحدث، ويصبح خطابا كونيا موجها للبشر في كل زمان ومكان، وهكذا يفقد صفته التاريخية فيبدو وكأنه خارج التاريخ أو يعلو عليه. هذه المحاولات من القرآن هي محاولات أيديولوجية، أي أن القرآن يفعل ذلك ويتعالى بالتاريخ لمقاصد وأغراض دنيوية. فقداسة القرآن هنا ليست أصلية وإنما دخيلة، وليست جوهرية وإنما سطحية، وليست حقيقية وإنما مصطنعة حصلت لأسباب سياسية وثقافية وتلاعبات فكرية، وأن هذه التلاعبات قد كشفها النقد وتبين زيفها فيما يخص التوراة والإنجيل، أما بالنسبة للقرآن فإن هذا لم يحصل بعد فلا يزال كتابا مقدسا يحتوي على مساحة كبيرة من اللامفكر فيه. ومن هنا يطمح الخطاب العلماني - كما يدعي - إلى نزع هالة القداسة عن الوحي بتعرية آليات الأسطرة والتعالي والتقديس التي يمارسها الخطاب القرآني، فننظر إلى القرآن ليس على أنه كلام آت من فوق، وإنما على أنه حدث واقعي تماما كوقائع الفيزياء والبيولوجيا، أو أن ندرسه بوصفه نصا فقط ونصا لغويا دون أي اعتبار لبعده الإلهي لأن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق على النص يعكّر كون النص منتجا ثقافيا، ويعكر الفهم العلمي له. ولأن النصوص الدينية ليست مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت فيها، والمصدر الإلهي لها لا يلغي كونها نصوصا لغوية مرتبطة بزمان ومكان، ولا يهمنا هذا المصدر الإلهي، وكل حديث فيه يجرنا إلى دائرة الخرافة والأسطورة. وعليه، فالفهم الصحيح للقرآن يتوقف على إزاحة هذا الغطاء الإيديولوجي المصطنع عن وجه النص القرآني، وقراءته على أنه نصّ تاريخي أدبي تطبق عليه المناهج الحديثة المختلفة في دراسة النصوص الأدبية والتاريخية، كمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومنهج التاريخ المقارن للأديان. ذلك أن النظر إلى القرآن نظرة نقدية تاريخية إنتربولوجية من شأنها أن تزعزع جميع الأبنية التقديسية والتنزيهية التي بناها العقل اللاهوتي التقليدي، وبالتالي تعمل على إفراغ الدين من محتواه الإيديولوجي وتحديد مساحته في إطار علماني ممنهج. وفي سبيل تحقيق الغايات المنشودة، يدعو الخطاب العلماني إلى التوسل بالدراسة التفكيكية للنصوص المقدسة، والى قراءتها على أنها نصوص تاريخية منفصلة عن مصدرها، أو ما يسمى في البنيوية بموت المؤلف. كما يتبنى هذا الخطاب في دراسته للقرآن الكريم الهيرمنيوطيقا التي تقوم في الدراسات الأدبية على التفرقة بين المعنى والمغزى، حيث إن المغزى قد يختلف لكن معناه ثابت، والمغزى يقوم على العلاقة بين النص والواقع، والواقع متجدد ومتغير. وهذا اللفظ يعني تأويل النصوص الدينية بأسلوب خيالي وبطريقة رمزية تبتعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول كشف المعاني الخفية وراء النصوص المقدسة. وإن التفريق بين معنى ومغزى النصوص، المعنى الذي يمثل الدلالة التاريخية للنصوص في سياق تكونها، والمغزى الذي هو محصلة قراءة عصر غير عصر النـزول، هذا التفريق المزعوم يقتضي الحكم على كتاب الله باعتباره (نصوصا) تاريخية، ويوضح ذلك أن مصطلح تاريخية النصوص المقدسة متأثر إلى حد كبير بإسقاط النظرية النسبية في الدراسات الأدبية والتاريخية المعاصرة على النص القرآني.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">2) إخضاع النص القرآني للقراءة كنصّ بشري، أو كنصّ إلهي محكوم بسقف التاريخ والثقافة. اذ تدعو التاريخية إلى تفريغ جعبة النص الديني من مفاهيم العالمية والاطلاقية ونزع صفة الخلود والصلاحية لكل زمان ومكان عنه، وذلك بغية الالتفاف على حقيقة كونية القرآن من خلال إحالته إلى التاريخ والنظر إليه باعتباره نصا تاريخيا محكوما بشروط تاريخية وظرفية يزول بزوالها، وتعمل على ربط القرآن بسياقات تنـزله، وتفسير معانيه تفسيرا تداوليا قاصرا من خلال الخوض في مسألة أسباب النـزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني وغيرها من القضايا.. فالغاية من أرخنة الخطاب القرآني بحسب تعبير أركون هي العودة بالقرآن بشكل علمي إلى قاعدته البيئوية والعرقية ـ اللغوية والاجتماعية والسياسية ـ الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي، وهذا الجهد يجد مشروعيته في القول بأن القرآن الكريم خطاب تاريخي يتغير فهمه ومعناه مع تغير الزمان والمكان، وبناء على ذلك فما جاء فيه من عقائد وشرائع تتغير وتتبدل مع تبدل الزمان والمكان، وهذا التبدل لا يقصد منه هنا المرونة في الاجتهاد الفقهي المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان بمقدار ما يعنى به عدم صلاحية الحكم الشرعي لكل زمان ومكان، فهو وقتي، بمعنى أنه جاء لوقت قد مضى، ولم يعد يتلاءم مع الوضع الحالي، وبالتالي، يجب أن تتغير تفسيراته بما يناسب الوضع المستجد! وثمرة هذا الجهد تظهر فقط في استنباش (وليس استحضار) اللحظة التاريخية الأولى التي تتكشف عن المعنى المدفون تحت أنقاض المؤامرة الإيديولوجية القابعة في مخيال الباحث العلماني، ذلك أن قراءة النص القرآني كنصّ محكوم بسقف التاريخ والثقافة من شأنها أن تكشف لنا عن الخلفية السياسية والثقافية للتلاعبات الفكرية، وهذا النقد سوف يساهم في تعرية النص القرآني من زيف القداسة تماما كما حصل بشأن التوراة والإنجيل. إلا أن الذي حصل بالفعل عند تصفح بنيات التطبيق المنهجي التاريخاني التي ساهم بانجازها العلمانيون العرب، وبالتحديد أمثال محمد أركون، هو وقوعهم في فخ التقليد والمحاكاة التطبيقية الهزيلة لما أحدثته الدراسات الاستشراقية التاريخانية على مستوى التوراة والإنجيل، وسوف نحاول الوقوف فيما يلي على عملية الإسقاط الحرفي والتي تنم عن تجاهل مطبق للخصوصية القرآنية والتراثية حتى ليخال القارئ لهذا الحقل أنه بإزاء انبعاث استشراقي مندثر بامتياز. وسوف نسوق هنا لبعض المداليل المباشرة التي أفضت إليها الممارسة المنهجية التاريخانية والتي تفصح عن مستوى الخطاب العلماني في سلوكه البحثي للنص القرآني:<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>- الأسطرة ومشابهة التوراة والإنجيل</b>: يربط أركون بين القرآن والتوراة بوصفه الخطاب الأسطوري فيقول: إن الحكايات التوراتية والخطاب القرآني هما نموذجان رائعان من نماذج التعبير الأسطوري. ويعقد صلة بين القرآن والأناجيل، فيقول: إن القرآن كالأناجيل ليس إلا مجازات تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكوِّن قانونا واضحا. فالقرآن الكريم برأيه يشكل نصا أسطوريا.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"><b>- تشريعية القرآن الكريم</b>: إن القرآن – كما الأناجيل – ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري لا يمكن أن تكون قانونا واضحا. وإن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقى بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير مُحوَّرة عن مطامح ورؤى، وعواطف حقيقية، يمكن فقط للتحليل التاريخي السيسيولوجي (الاجتماعي) والبسيكولوجي (النفسي) اللغوي – أن يعيها ويكشفها. وفي هذا يشير أركون بإشارة واضحة إلى نفي كون القرآن الكريم مصدرا للتشريع، فالقرآن في نظره مجرد مجازات أدبية وحكايات أسطورية ليس لها صلة بالواقع .<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"> - <b>القصص القرآني</b>: لم يذهب أركون بعيدا عن الموقف الاستشراقي من القصص القرآني في زعمهم نقلها عن التوراة والإنجيل، ويردد مزاعم من سبقه من المستشرقين، فيقول: ننتقل الآن إلى النقطة الثالثة من موضوعنا: وهي التداخلية النصانية بين القرآن والنصوص الأخرى التي سبقته، وهنا نريد أن نقوم بقراءة تاريخية أفقية للخطاب القرآني، وذلك ضمن منظور المدة الطويلة جدا، بحسب تعبير المصطلح الشهير للمؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل، وهذه المدة الطويلة جدا سوف تشمل ليس فقط التوراة والإنجيل، وهما المجموعتان النصيتان الكبيرتان اللتان تتمتعان بحضور كثيف في القرآن، أو في الخطاب القرآني، وإنما ينبغي أن تشمل كذلك الذاكرات الجماعية الدينية الثقافية للشرق الأوسط القديم، وبهذا الصدد يمكن القول إن سورة الكهف تشكل مثلا ساطعا على ظاهرة التداخلية النصانية الواسعة الموجودة أو الشغالة في الخطاب القرآني، فهناك ثلاث قصص هي: أهل الكهف، وأسطورة غلغاميش (يقصد به: الخضر) ورواية الإسكندر الأكبر (ويقصد: به ذي القرنين) وجميعها تحيلنا إلى المخيال الثقافي المشترك والأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القديم. وفي سبيل قيام دراسة نقدية تمحص تلك الأخبار، يقول: ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- <b>الرمزية</b>: تبنى أركون منطق التفسيرات الرمزية الباطنية التي هي امتداد لمذهب الرمزية لدى فرويد، وماركس، ونيتشه، والتي ترى أن الرمز حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به بل يجب إزالتها وصولا إلى المعنى المختبئ وراءها. وهو كثيرا ما يكرر مصطلح الرمزية في فهم النص، أو ما يسميه بالرمزية السيميائية (الدلالية) في فهم وتفسير النص. ويمجد أركون بالتفسيرات الباطنية فيقول: نجد بهذا الصدد أن القراءات الرمزية للصوفيين، والقراءات المجازية للغنوصيين الباطنيين هي أكثر خصوبة بالمعلومات والدروس تجسيد أو تحيين العجيب المدهش المحتمل وجوده في القرآن.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- <b>جمع القرآن الكريم</b>: بخصوص الموقف من جمع القرآن الكريم يذكر أركون الروايات الإسلامية حول كتابة القرآن الكريم في العهد النبوي وجمعه في عهد أبي بكر وعثمان، ثم يعقب بعدم تسليمه بهذه الروايات الإسلامية ويثني على الكتابات الاستشراقية الناقدة لصحة جمع القرآن أمثال كتابات المستشرق الألماني نولدكه، في كتابه تاريخ القرآن، وشوالي، وبيرغستراسير في كتابيهما جمع القرآن، وتاريخ النص القرآني، والمستشرق الألماني ربيجيس بلاشير.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">-<b> الغيب في القرآن الكريم</b>: يعلق أركون على ما ورد في سورة التوبة من الأمر بجهاد المشركين وما أعدَّه الله من النعيم في الجنة للمجاهدين في سبيل الله بقوله: هكذا نجد أن كل الخطاب القرآني يوضع داخل التاريخية الأكثر اعتيادية ويومية، ولكن هذه التاريخية تحوَّر وتُحوَّل إلى نوع من تاريخ الخلاص الأخروي. ويقول: ولكن ظاهرة أن الخطاب القرآني قد استطاع بهذه الطريقة (ولا يزال) خلع القدسية والتعالي على التاريخ البشري الأكثر مادية ودنيوية والأكثر عادية وشيوعا ينبغي ألا تنسينا تلك الآتية والاعتباطية الجذرية للأحداث.. ليس الوجه الديني للتوبة إلا عبارة عن مجموع الصور أو التصورات التي تشكل مخيالا كونيا: أقصد الأنهار التي تجري، والمساكن الطيبة الموجودة في جنات، تستحيل في الزمان التجريـبي المحسوس الذي نعيشه.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;"> إن سبر أغوار مفهوم «تاريخية النص» في الفكر الغربي، والذي يرجع تحديدا إلى ظهور الماركسية الجدلية من جهة، وظهور مفاهيم علم اجتماع المعرفة من جهة ثانية، يقود إلى أن الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدد وعيهم أو علاقة الفكر بالواقع. وهذا يعني أن المجتمع هو أساس كل الظواهر الدينية والمعرفة، وأن المجتمع يتأثر ويؤثر في معطيات تلك المعرفة، وإذا اختزل الدين إلى مجرد انبثاق اجتماعي وفق هذه المنهجية فإن الحقائق الغيبية لن تزيد عن كونها مجرد أساطير لا تدخل في نطاق الحقائق المشاهدة. فقد حملت النزعة التاريخية في طياتها بذور الفشل بفعل انكفائها على نفسها، واتخاذها طابعا حتميا أدى بها إلى الاصطدام بالعمق الإيماني الميتافيزيقي، وإن حدة الموضوع وخطورته كان واحدا من الأسباب التي دعت الباحثين في الدراسات القرآنية في الغرب في الثلاثين سنة الأخيرة إلى التنكرُّ لأحادية المنهج التاريخاني ومذهبه الفلسفي، فعمدوا إلى تلافي الخلل من خلال دمج منهجي- تكاملي بينه وبين المنهج الظواهري، بينما فضّل آخرون العزوف كليا عن المناهج التاريخانية النقدية إلى قراءات مختلفة، كالقراءة المؤامراتية، والقراءة البنيوية، والقراءة التفكيكية، والقراءة الأنثروبولوجية، والقراءة الأدبية والأسلوبية.[2]<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1] أثار كتاب نولدكه «تاريخ القرآن» الذي نشر عام 2004م حماسة بعض الحداثويين العرب كونه يمثل الريادة في مجال القراءة التاريخانية للقرآن، وقد بلغ الحماس ببعض هؤلاء إلى القول بأن هذا الكتاب «يمثل الثورة الكوبرنيكية بالنسبة إلى الدراسات القرآنية».<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2] الاستناد في إعداد هذه المقالة إلى المصادر التالية:<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- نقد الخطاب الديني الجذب والنبذ، التفكير والتكفير: جميل قاسم (مقالة)<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- الدراسات الغربية المعاصرة عن القرآن الأفكار والمناهج والنتائج: رضوان السيد (مقالة)<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- انتهاك المقدس وتمييع مفهوم الإعجاز القرآني: أحمد إدريس الطعان (مقالة)<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- الأثر الاستشراقي في موقف محمد أركون من القرآن الكريم: محمد بن سعيد السرحاني (ندوة)<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- إشكالية العلاقة بين المنهج والنص الديني: الشيخ شفيق جرادة (مقالة)<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- مئة عام على قانون العلمانية: محمد جمال باروت (مقالة)<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">- مفهوم التعالي وتأليه العقل في الفكر الغربي: غسان على عثمان (مقالة)<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;"> </span><span style="background-color: #351c75; font-size: large;"><span style="background-color: #351c75;"></span>ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-72511066458639886492010-10-23T21:55:00.001+03:002010-12-25T15:51:27.213+02:00الدين والأخلاق ونظرية النسبية (المطهري – الطباطبائي)<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يتسم الفعل الانساني بالسمة الاخلاقية من جهة كونه فعلا مكتسبا يضفي عليه الناس قيمة معنوية تسمو به فوق المعايير المادية، وتجعله يحوز على قابلية تؤهله للمدح والثناء والتكريم، وتخرجه بذلك عن ان يكون مجرد فعل اعتيادي. وقد استوقفت « المعيارية الاخلاقية » « الشهيد المطهري » على اكثر من صعيد، وحاول ان يضع يده على كل ما من شأنه ان يبرر لاتصاف الفعل الخلقي بمفردات من قبيل « القيمة » و« المدح » و« الثناء »، وان يسبر اغوار الرؤى المختلفة شارحا ومحققا ومنتقدا ومفندا ومصوبا.. فجاءت أبحاثه و« محاضراته » واضحة ومباشرة ولا تكاد تخلو في كثير من جوانبها من المقارنة والمعاصرة. وقد تعرض المطهري في محاضراته لكل من « نظرية العاطفة » [1]، و« نظرية الارادة » [2]، و« نظرية الضمير والوجدان الاخلاقي » [3]، و« نظرية الجمال » [4]، وغيرها من نظريات، ورأى ان كل واحدة منها تصلح لأن تشكّل معيارا اخلاقيا، ولكن على نحو جزئي. فكل واحدة منها، تكشف النقاب عن جانب من الحقيقة. وخلص الى القول بان الحقيقة الكاملة تكمن في ان الاخلاق من « مقولة العبادة » لا غير. وعلى سبيل المثال فان القول بان جذور الاخلاق كامنة في ضمير الانسان هو قول صحيح نسبيا، ولكن لا ينبغي ان نتوهم ان الوجدان الخلقي هو حس مستقل عن حس معرفة الله تعالى، وهنا يكمن خطأ « كانت » حين اعتبر ان التكليف الخلقي ينبع من اعماق الضمير الانساني من دون ان يتوقف في ذلك على شيء آخر. والا فان الضمير يكتسب التكليف بالالهام والفطرة من مجال آخر هو الله تعالى (واوحينا اليهم فعل الخيرات) الانبياء 73. كما ان القول بان الاخلاق من مقولة المحبة والعاطفة هو قول صحيح نوعا ما، ولكنه لا يكفي من الناحية المنطقية لتبرير الفعل الذي يتجاوز فيه الانسان ذاته الى الغير، والا لماذا يضحي الانسان بنفسه من اجل الآخرين دون مقابل؟ فاذا كان ثمة مبرر منطقي لمثل هذا الفعل فهو في الايمان بالله تعالى، ذلك ان الانسان يشعر في قرارة قلبه ان محبوبه الواقعي يريد منه ذلك الفعل، ولهذا فهو يحب الغير. وايضا، فإن القول بان الاخلاق من مقولة الجمال، وان روح الانسان تدرك الجمال المعنوي الكامن في الصدق والامانة والايثار والعفة.. هو قول صحيح الى حد ما، ولكن لا ينبغي ان يغفلنا ذلك عن منبع الجمال واصله (الذات الالهية المقدسة) فان الانسان يتصل بهذا المنبع بصورة غير واعية. وينتج عن ذلك ان ينظر الانسان في اعماقه الى التكليف الالهي بما انه صادر عن الله تعالى، وبالتالي فكل ما هو صادر عن الله يراه جميلا. هذه النظريات وسواها تفتقد الى المبرر المنطقي الداعي الى السلوك الاخلاقي، ولن تجد مبررها الكافي الا في ظل الدين والايمان بالله، وعلى ضوء الثواب والعقاب. بل ان مستوى العلاقة التي تربط الانسان بالله تعالى قد تتجاوز حدود النفعية التي تتمظهر في الاتيان بالفعل العبادي بداعي الخوف من النار او الطمع بالجنة، فترقى الى مستوى تتوحد فيه المسارات والميول والمسالك المختلفة للانسان بحيث تعمل جميعها في الاتجاه الذي تكون فيه العبادة تعبيرا راقيا عن حالة الشكر والامتنان لله تعالى، فيصطبغ الفعل حينئذ بصبغة الاخلاقية. فالاخلاق من مقولة العبادة، والمقصود من العبادة هنا هو حقيقة من الحقائق بحيث لا تمثل الصلاة والصوم والحج.. سوى جسم وقالب تلك الحقيقة. سواء كنا نعي تلك الحقيقة ام لا، وسواء كنا ملتفتين لها ام لا، فان تلك الحقيقة موجودة في اعماق الانسان على كل حال. والانسان حين يقوم بعبادة الله تعالى بصورة غير واعية، فانه يكون خاضعا له بالفطرة، ومتبعا لمجموعة من الاوامر الالهية المستلهمة في وجود هذا الانسان وكيانه الداخلي. وبمجرد أن يتحول شعوره اللاواعي الى الشعور الواعي – وهو الهدف من بعثة الانبياء – فان جميع افعاله تصبح اخلاقية حينئذ. بمعنى انه عندما يقوم بتنظيم غرائزه وميوله على اساس الواجبات الالهية لتعمل في الاتجاه التكاملي الصحيح الذي فيه مصلحة الانسان، فإن أكله ونومه ومشيه وكلامه وحياته وموته كلها تصبح حينئذ عملا اخلاقيا ومقدسا: (ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) الانعام 162. وعليه فلا يمكن تبرير الاخلاق الا في ظل عبادة الله تعالى. ومن جهة ثانية، فان الله تعالى قد اودع في وجود الانسان استعدادات متنوعة، واي مذهب اخلاقي يستطيع ان يستثمر جميغ تلك الاستعدادات الكامنة في وجود الانسان من غير افراط ولا تفريط فذلك هو المذهب الجامع الكامل. وعند مراجعة المذاهب الاخلاقية المختلفة نجد ان كل مذهب منها قد وضع اصبعه على احدى الخصال الروحية في الانسان وانكفأ عن غيرها. فبعضها يعتمد على مقولة العاطفة فحسب، وبعضها يؤكد على مقولة الارادة، وبعضها على الضمير.. واذا عرفنا ان الاخلاق الاسلامية تقوم على اساس روح الانسان ونفسه، ندرك حينئذ ان المذهب الاخلاقي الكامل والجامع هو هذا المذهب الذي نجده في الاسلام دون غيره. والنفس التي تنهض الاخلاق على اساسها هي النفحة القدسية الالهية في الانسان، وهذه هي الذات الحقيقية الأصيلة. وأما الذات الحيوانية فهي ذات متوهمة. والانسان في اغلب الأحيان يتخيل أن الذات الوهمية فيه هي الذات الحقيقية، وهذا يقود الى « نسيان الذات ». والاسلام حين يدعو إلى مكافحة النفس فإنه يقصد بها الذات المتوهمة والمتخيلة. وعليه فلا بد من إماتة الذات المتوهمة حتى تظهر الذات الحقيقية الأصيلة من وراء الستار. ويبدو أن « هيجل » كان أول من تناول موضوع الغربة عن الذات والانفصال عنها في الفلسفة الغربية، كما تعرض له الفيلسوف المادي « هايدغر » حين جعل الذات الانسانية على قسمين: احداهما الذات الشخصية، والاخرى الذات الكلية المغروسة في اعماق كل واحد منا. ومع ذلك فإن القرآن الكريم كان قد سبق – ولاسباب متعلقة بالهداية – الى تناول موضوع ثنائية الذات. وألمح إلى أنه توجد في الإنسان ذات حيوانية طفيلية، وفي نفس الوقت فيه نفخة من الروح الالهي تمثل الذات الحقيقية في الانسان. وفي الواقع فإن ذات الانسان واحدة لا اكثر، وهذه الذات الواحدة لها درجات، فحين يحتدم الصراع داخل الانسان بين الرغبات الطبيعية والارادة الاخلاقية، فإن الصراع يدور حقيقة بين الذات الطفيلية والذات الأصيلة، لذلك اذا انتصرت الذات الاصيلة على الذات الطفيلية يشعر الانسان حينها بنشوة النصر، بينما اذا انتصرت الذات الطفيلية على الذات الحقيقية يشعر بمرارة الهزيمة. هذا الشعور بالنصر أو بالهزيمة يكشف عن الذات الأصيلة في الانسان. وإذا أحس الانسان بذاته الحقيقية التي هي من عالم الملكوت، وأدرك عظمة هذه النفس فإنه لا ينحط إلى المستويات الدانية. وهذا هو السر في ان الانسان يلتذ بالعلم وينفر من الجهل، فإن ذاته الواقعية هي من جنس العلم ولا تتناسب مع الجهل. وهكذا يلتذ بالقدرة وينفر من الضعف لأنه يدرك حضوريا أن ذاته تنتسب الى عالم القدرة والعظمة. ومن هنا كانت جميع المشاعر الاخلاقية ناشئة من الظفر بالذات وإدراك حقيقتها. ولهذا تميزت الاخلاق الاسلامية بكونها متمحورة حول معرفة النفس والاحساس بكرامتها وعظمة مصدرها.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>هل الاخلاق نسبية أم مطلقة وثابتة؟ </b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تدرج النظريات الأخلاقية التي تجعل للأخلاق معيارا محددا من قبيل العاطفة، والضمير، والتناسق بين مصالح الفرد والمجتمع، والتوازن بين قوى الروح، والجمال..الخ في خانة القول بالثبات. ولكن لا ينبغي الخلط هنا بين الاخلاق باعتبارها خصالا وسجايا وملكات ثابتة، وبين الفعل الاخلاقي والسلوكيات التي تسمح بتحقق تلك الروحيات في الخارج، والتي قد تختلف باختلاف الظروف والاحوال والاعتبارات الطارئة. وبهذا يتضح المراد من حديث أمير المؤمنين (ع) الذي يفهم منه ان النموذج الاخلاقي للمرأة يختلف عنه للرجل، فقد جاء في نهج البلاغة: « خيار خصال النساء شرار خصال الرجال » وذكر ثلاث خصال للمرأة وهي « الزهو والجبن والبخل ».. فالتغاير بينهما في الخلق ليس باعتباره خصلة نفسية، فهو امر ثابت بهذا المعنى لا يختلف بين الرجل والمرأة. وانما يختلف باعتباره سلوكا اخلاقيا، كما يقال مثلا: « التكبر على المتكبر عبادة »، والمقصود سلوك التكبر وليس نفس الخصلة، والسلوك كما تقدم امر نسبي. كما لا ينبغي الخلط بين الاخلاق بالمعنى المتقدم، والذي يرتبط بنفس الانسان ونظام عمل غرائزه.. وبين الآداب التي لا ترتبط بنفس الانسان وعمل غرائزه، وانما هي امور اكتسابية يطلق عليها اسم الفنون والصنائع، كالخط والكتابة والخياطة وركوب الخيل والسباحة.. فان هذه الآداب متغيرة بتغير الزمان والظروف، وكما جاء في نهج البلاغة فلا ينبغي بالانسان ان يؤدب اولاده بآدابه لانهم خلقوا لزمان غير زمانه. نعم، قد تطلق كلمة الآداب ويراد بها السنن والمستحبات، كآداب اكل الطعام، والبسملة عند الابتداء بالطعام، وغسل اليدين، وتنظيف الاسنان.. وامثال هذه السنن والمستحبات لا تختص بعصر دون آخر ولا بقوم دون قوم، بل هي مطلقة وثابتة. وتعتبر العبادة من ابرز المصاديق الأخلاقية الثابتة، لأن العبادة حاجة ثابتة يجدها الانسان في اعماقه، وهي المركب والزاد للحصول على الكمال الذي ينشده الانسان في وجوده. وتعتبر العدالة ايضا في مقدمة المصاديق الأخلاقية الثابتة، لأن أساس العدالة هو وجود الحقوق الواقعية والفطرية التي تستمد واقعيتها من الله تعالى، فالفرد له حق والمجتمع له حق، وكلاهما أصيل بنظر الاسلام، والعدالة تكون باعطاء كل ذي حق حقه، وإذا كانت العدالة مبنية على أساس الحق والاستحقاق وكانت عموم الاستحقاقات ثابتة وواحدة ومطلقة، فالعدالة تكون ايضا ثابتة. ومع ذلك توجد نظريات تشير بصراحة إلى نسبية الأخلاق، خصالا وسلوكا، وتبتنى نسبية الاخلاق فيها على محورية المجتمع وانتخاب الانسان كمعيار لحسن الافعال وقبحها. فكل فعل محمود بنظر العموم يكون حسنا، وكل فعل غير محمود عندهم يكون قبيحا. فما يجعل الفعل محمودا في عصر دون آخر بنظر « هيغل »، هو « روح العصر ». فروح العصر تدفع بالمجتمع دوما إلى الامام، وتترك - نتيجة ذلك - آثارها وانطباعاتها على أفكار الناس وتتحكم بتحديد اولوياتهم، وبالتالي فإن روح العصر المتوافقة مع التكامل هي التي تلهم الأخلاق والقيم وتجعلها محلا لقبول الناس واختيارهم لها في عصر ما بعد ان لم تكن مقبولة لهم في ظروف مختلفة. ويكمن معيار التغير بنظر « سارتر » في الانتخاب الشخصي، فإن هذا الإنتخاب يؤهل الفعل لاكتساب صفة الحسن، والانسان لا ينتخب فعلا ما الا لأنه يراه جيدا، وبالتالي فهو بانتخابه له يضفي عليه قيمة، كما يضفي عليه صفة العموم في نفس الوقت الذي يكون فيه جزئيا، فهو قد اختار هذا الفعل للآخرين أيضا. وسوف نتجاوز هاتين النظريتين، لنقف على الرأي الأهم والأعمق في موضوع نسبية الاخلاق. وهو الموضوع الذي عالجه الشهيد مطهري على ضوء نظرية الادراكات الاعتبارية « للسيد الطباطبائي ».<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>ثبات ونسبية الحقيقة لا يستلزم ثبات ونسبية الاخلاق</b><br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">قال الفلاسفة بثبات الحقيقة كما قالوا بثبات الأخلاق، ومع ذلك أفردوا للبحث في كل منهما مجالا خاصا لوجود فرق بينهما، فإن الحقيقة أصل نظري، بينما الأخلاق أصل عملي. والحكمة النظرية تبين الحقائق الموجودة في الماضي والحاضر، فهي صورة الواقع على ما هو عليه، وخبر عن الواقع، والبحث فيها يتناول مطابقتها للواقع وعدمها، كما يتناول ثبات هذه المطابقة وتغيرها. أما الحكمة العملية فمرتبطة بالإنسان، والبحث فيها مرتبط بما يجب أن يفعله الإنسان. ولذلك فهي إنشاء، ومنه يعلم أنه ليس في الأخلاق خبر عن الواقع ولا مطابقة. ومن جهة ثانية فإن العقل النظري قوة في النفس تكشف بها عما هو خارج عنها. بينما العقل العملي سلسلة إدراكات يتم بها تدبير البدن. فهو مختص بطبيعة النفس، والعقل النظري مختص بما ورائها. ومن جهة ثالثة يرى الفلاسفة أن ماهية الإنسان وجوهره وكماله في العلم، خلافا للعرفاء الذين لا يرون الكمال في العلم لاعتقادهم أن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ الحقيقة لا الذي يكشف عنها. فالعقل العملي عندهم يسعى لتدبير البدن أحسن تدبير من خلال توازن القوى وتعادلها، وهذا التدبير يتم بسلسلة أحكام تمكنه من بلوغ الحقيقة. وعليه فالحق أن يفصل بين الحقيقة والأخلاق في مورد البحث [5]. ومع ذلك، ثمة من يرى أن القول بثبات الاخلاق وخلودها يرتبط بفلسفة الوجود، وأن القول بنسبية الأخلاق وتغيرها مرتبط بفلسفة الصيرورة والتحول. فإذا كانت الحقائق متغيرة متبدلة فلا بد أن يشمل هذا التغير الأحكام والأخلاق معا. إلا أنه على فرض أنه ليس في الواقع الا الصيرورة والتحول فإن ذلك لا يستلزم التغير في محتوى فكر الانسان. ومع ان محتوى الفكر لا يوجد مستقلا عن الوجود الذهني أو الخارجي، الا ان الانسان حين يفكر في اية قضية فانه يجردها من وجودها الذهني والخارجي، ثم يحكم على القضية المجرّدة بانها صادقة ابدا، وذلك في مقام الاعتبار. وإلا فلو كان الفكر متغيرا، فسوف يتغير الاعتبار ايضا، وما تصورناه بالامس لن يبقى الى اليوم، ولكن لا احد يلتزم بذلك. وبهذا يتضح انه حتى ولو أخذنا بفلسفة الصيرورة، وسلمنا بتغير الحقائق، فإن تغير الحقائق لا يستوجب تغير الاخلاق، لأن الاخلاق عبارة عن مجموعة من الاوامر والنواهي (اعتبارات)، وتغير الحقائق لا يستلزم تغير الاعتبارات.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>الحسن والقبح في الاشياء ليسا ذاتيين وإنما هما ناشئان من الوجوبات الاعتبارية<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">قد يقال أن كل تشريع سواء أكان تشريعا أخلاقيا أم غير أخلاقي (كما في مورد الأحكام)، فهو قائم على المصالح والمفاسد، وهذا هو معنى قول المتكلمين والأصوليين: « الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية »، وبحسب تعبير المرحوم « النائيني »: « المصالح والمفاسد هي في علل الأحكام، والأحكام هي ما يجب وما لا يجب في الوصول الى تلك المصالح، فهي تابعة لتلك المصالح والمفاسد كما يتبع المعلول علته ». فإذا كانت المصالح والمفاسد امورا واقعية، وكانت الاوامر والنواهي عهودا واعتبارات تنشأ من تلك المصالح والمفاسد، فلا بد ان تكون متغيرة بتغيرها. ومن هنا نحتاج إلى البحث في الاوامر والنواهي، وهل أنها تنشأ من المصالح والمفاسد الواقعية أم لا؟ وبعبارة أدق هل الحسن والقبح ذاتيان في الاشياء أم لا؟ فإن البحث يتمحض في الاخلاق دون الأحكام. ويمكن بيان ثبات وخلود الاخلاق من خلال مسألة الحسن والقبح الذاتيين، فإذا كان الحسن والقبح ذاتيين في الأفعال، فسيبقى الفعل الحسن حسنا دائما، كما سيبقى الفعل القبيح كذلك ما دامت السموات والأرض، لأن الصفة الذاتية لا تتخلف ولا تختلف. ويمكن للعقل - استنادا إلى الحسن والقبح الذاتيين - ان يحكم بفعل الحسن وترك القبيح. وأما إذا كان الحسن والقبح غير ذاتيين، بأن كانا مبيّنان للرابطة بين الانسان وأفعاله، فسوف يترجح حينئذ القول بنسبية الأخلاق، فالمحبوب عند الانسان يكون حسنا، والمكروه عنده يكون قبيحا. وعليه، هل الحسن والقبح ذاتيان في الاشياء ام لا؟ من المباحث المعاصرة التي أغنت هذا الموضوع بحثا وتنقيبا، البحث الذي أعده « السيد الطباطبائي » في المقالة السادسة من « أصول الفلسفة » [6] حيث قال: « كل ما نستنتجه مرتبط بالحكمة العملية، ومتعلق بعالم الأفكار الاعتبارية، فالحكمة النظرية أو الحقيقة تعني الأفكار الحقيقية التي هي الصورة الواقعية للأشياء. والأفكار العملية تعني الأفكار الاعتبارية. والأفكار الاعتبارية هي كل الأوامر والنواهي وما يطرح في علم الأصول. وقد طرحت في علم الأصول طرحا أحسن من طرحها في كل ما عداه ». وقد بحث « السيد الطباطبائي » حول كيفية نشوء الأفكار الاعتبارية في المقالة السادسة من « أصول الفلسفة »، وتوصل إلى ما يلي:<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">1 - إن الذهن يمتلك قدرة على التقاط أفكار عن الاشياء الخارجية، وهي أفكار حقيقية لا قدرة له على اختراعها من نفسه، ثم يقوم بتطبيقها على واقع ما، أي يجعل الشيء مصداقا لشيء آخر على وفق حساب، وبالتعبير الاصطلاحي يصنع مجازا. وليس المجاز – بنظر « السكاكي » – تصرفا في اللفظ، وانما في المعنى، بأن نرى زيدا مصداقا للأسد واقعا، ثم نطلق اللفظ عليه. وهذا إنشاء يقوم به الذهن. وللمرحوم « السيد البروجردي » تعبير لطيف في هذا الصدد، اذ يقول: عندما نقول: رأيت أسدا يرمي، فإننا نستعمل جملة بدلا من اثنتين. فكأننا قلنا: رأيت زيدا يرمي، وزيد مثل الأسد. وهو يقبل كلام « السكاكي » في المجاز. وعليه فالذهن يمتلك قدرة على الانتزاع والانشاء وما شابه، فيجعل الشيء مصداقا لشيء آخر على وفق حساب. والقضية الأساسية التي يطرحها « السيد الطباطبائي » وينطلق في بحثه منها هي أن منشأ الاعتبار هو فكرة حقيقية يقوم العقل بتعميمها وتطبيقها على غير موردها، فكل مجاز يعبّر عن حقيقة، لها مصداق واقعي حقيقي. والعقل لا يخلق المفهوم الاعتباري، كمفهوم الملكية، دفعة واحدة، بل هو يقوم بحفظ مفهوم في صورة حقيقية يعتبره مجازا لشيء آخر. وشيئا فشيئا اتسعت نظرية الاعتبار لتشمل كل المفاهيم التي تندرج في باب القيم والاخلاقيات، كالحسن والقبح.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">2 - إن الطبيعة تتجهز بوسائل تعينها على التحرك الى مقصدها [7]. ولكن تجهّز الطبيعة في الحيوان ليس بكاف لبلوغ ما تريد، فيستعين الحيوان بجهازه الشعوري والادراكي. وبالتالي، يحصل تنسيق بين الطبيعة التكوينية، وجهاز الشعور الذي يعمل على ايصال الطبيعة الى ما تريد. والانسان يحسب انهما اتحدا اتفاقا وبدون تنسيق، فالحيوان يلتذ بالطعام والطبيعة تحقق مبتغاها. ويرى « السيد الطباطبائي » أن هذا التنسيق قائم بينهما بشكل دائم، ولا يعبأ بالموارد الشاذة في شأن الانسان الذي يعمل بحكم العقل.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">3 - يرى « السيد الطباطبائي » ان بين الطبيعة والغايات رابطة وجوب وضرورة من النوع العيني والتكويني والفلسفي الموجود بين العلة ومعلولها، ولكن الانسان يقيم هذا الوجوب العيني في الطبيعة بين شيئين ليس بينهما هذه الرابطة. ومن هنا يشرع عالم الاعتبار، فتنشأ هذه الوجوبات التي يخلقها الذهن، ومن الوجوب ينشأ اعتبار الحسن. وهكذا يرى الانسان المحاسن والمساوئ في الاشياء. وعليه، فان الوجوب والحسن والقبح هي في الواقع اعتبارات تكشف عن رابطة بين الانسان وفعله، وتنشأ من احساساته. أحد الاعتبارات عند « السيد الطباطبائي » هو اصل الاستخدام، وهو أن للإنسان صلة بقواه، وهي صلة عينية وتكوينية وواقعية. فقوة اليد في خدمتنا تكوينيا، وكل مادة خارجية هي وسيلة للإنسان ينتفع بها انتفاعه بيده، ومثلما أن يده هي ملكه، فإن المادة الخارجية تكون ملكه أيضا. ولا يختص هذا الاعتبار بالمواد الخارجية من جمادات ونباتات وحيوانات، فالانسان ينظر حتى الى الانسان الآخر بعين الاستخدام. وهذا الاعتبار (الاستخدام) عام وفطري برأي « السيد الطباطبائي »، وهذا يعني ان الانسان خلق بطبعه مستغلا. ويرى « السيد الطباطبائي » في « الميزان » عند تفسير الآية (كان الناس أمة واحدة) البقرة: 213 أن المسائل الاجتماعية والأخلاقية أصل ثانوي. وبينما يقول في « اصول الفلسفة » ان الاستخدام أمر فطري، والعدل الاجتماعي أمر فطري أيضا، إلا أنه يستند إلى فطرة معدلة. ومن جهة ثانية يصرح في « التفسير » بأن الانسان مدني بالتطبع، لا بالطبع، بينما يقول في « اصول الفلسفة » ان الانسان مدني بالطبع، لكن الطبع هنا غيره هناك. فهو لا يقبل ان يكون الانسان مجبولا على الاجتماع، وانما يرى اجتماعه نتيجة لتعادل وتزاحم غريزتين. فقولنا: (كل امرئ غايته الاولى استخدام غيره، وهذا احساس عام للناس جميعا)، نتيجته الحتمية هي الحرب وتنازع البقاء [8]. وعليه، فكل وجوب برأي « السيد الطباطبائي » ينشأ من أن الطبيعة لها أغراض في صميمها تسعى إليها، فالجماد والنبات والحيوان تنجز الأفعال غريزيا، والإنسان ينجز أفعاله ويريدها ويفكر فيها من أجل غاية لا ينالها إلا بإرادته. وهذه الغاية هي في الواقع غاية الطبيعة التي تتذرع بالفكر والارادة للوصول إليها. ومن هنا تمس الحاجة إلى الاعتباريات تلقائيا، والانسان يتحرك بجهازين هما « الطبيعة »، و« الفكر والارادة ». ويبتغي جهاز « الفكر والإرادة » الى تحقيق ما يصبو إليه جهاز « الطبيعة ». والإرادة لها مقدمات، وهي كما صورها القدماء: تصور الفعل الاختياري، ثم التصديق بفائدته، والرغبة فيه، ثم الجزم، والعزم، فتحصل الإرادة، وبعدئذ يحدث الفعل الاختياري. والشيء الأساسي عند « السيد الطباطبائي » هو الحكم الذي تنشئه النفس بوجوب الفعل، لا الحكم النظري بفائدته. فكل فعل اختياري يتضمن حكما إنشائيا اعتباريا، والحكمة النظرية تبحث في الوجودات، والحكمة العملية تبحث في الوجوبات، والفلاسفة يرون هذه الأخيرة أمورا اعتبارية غير قابلة للاستدلال. وقد صرح « السيد الطباطبائي » بأن هذه المسائل (الاعتبارية) ليست قابلة للبرهنة، فإن البرهان لا يرد في الأمور الاعتبارية لا من طريق قياسي ولا من طريق تجريبي. لأن مبادئ القياس يجب ان تكون من البديهيات، أو المحسوسات، أو الوجدانيات، أو المجربات في حين ان الحكمة العملية متعلقة بمفهوم الحسن والقبح، وهو منتزع مما يجب وما لا يجب، وما يجب وما لا يجب تابعان للمحبوب والمكروه، وليس المحبوب والمكروه واحدا عند الجميع، فالناس متفاوتون فيهما. وما يجب وما لا يجب هما وسيلة لبلوغ مقاصد متغيرة، وتغيرها يستدعي تغير الاحكام، فما يجب باق ما دام المقصد، فاذا تغير المقصد، تغير الوجوب قهرا. ولهذا قال: الادراكات الاعتبارية على خلاف الادراكات الحقيقية، فهي مؤقتة. وبهذا يكاد يقول بان الاخلاق لا يمكن ان تدوم. نعم، لقد قال: اصول الاعتبارات باقية، وهي في حدود خمسة او ستة. وعليه يتبين ان ما يجب وما لا يجب، وكذلك الحسن والقبح، أمور نسبية وذهنية تماما [9]. فالمعاني الاخلاقية ليست أمورا عينية بحيث تكون قابلة للتجربة والاستدلال المنطقي الخاصين بالامور العينية. ويصل « برتراند راسل » إلى النتيجة نفسها في فلسفة التحليل المنطقي، ويقول في كتابه « تاريخ الفلسفة » عند شرحه لنظرية « افلاطون » بشأن العدالة، واعتراض « تراسيماخوس » عليه بأن العدالة ليست سوى منافع الأقوياء: هذا الرأي يضعنا عند المسألة الاساسية للأخلاق والسياسة وهي: هل هناك معيار لتمييز الحسن من القبيح غير ما ذكر؟ فما لم يكن هناك معيارا فلا يمكن رفض الكثير من النتائج التي توصل اليها « تراسيماخوس ». وخلافا « لافلاطون » [10]، تلتقي وجهة نظر « راسل » مع وجهة نظر « الطباطبائي » في اعتبار الحسن والقبح من المفاهيم النسبية والتي ينظر اليها من زاوية علاقة الإنسان بالأشياء، فعندما تكون لنا غاية نريد بلوغها نقول: هذه وسيلة حسنة، وحسن هذه الوسيلة هو هذا الوجوب، لا صفة واقعية لتلك الوسيلة. وقولنا: الصدق حسن يعني لأنه حسن بالنسبة لأمر معين، لا لأنه حسن للجميع. وبالتحليل المنطقي توصل « راسل » إلى ان الحسن والقبح اعتباريان. وأنهما ليسا من الصفات الذاتية للأشياء، وإنما هما من الصفات الموصلة أو غير الموصلة بالنسبة لغاية معينة، فالصدق حسن لأنه يوصل إلى الغاية الكذائية، فيجب أن يقال. والكذب قبيح لأنه لا يوصل إليها فيجب ألا يقال. وهذا يعني انه ليس لدينا هنا سوى وجوب القول وعدمه، والحسن والقبح ينتزعان من هذا الوجوب وعدمه. وهذا عين القول بنسبية الأخلاق. وخلاصة رأي « راسل » أن مفهوم الحسن والقبح مبين للرابطة التي بين الباحث ومورد بحثه. فإذا كانت رابطة محبة عددنا الشيء حسنا، واذا كانت رابطة بغض عددناه سيئا، واذا لم تكن رابطة محبة ولا رابطة بغض لم يكن ذاك الشيء حسنا ولا سيئا. وفي الجواب على « راسل » يقول الشهيد مطهري انه يجب ان نحرز أولاً جذر (معيار) المحبة، فنعرف لماذا يحب الانسان هذا الشيء ولا يحب ذاك؟ ولا اشكال في ان الانسان يحب الشيء الذي يفيده ويصلح حياته، فالطبيعة تنزع نحو كمالها، ولذا تدفع الانسان بالارادة والاختيار، وتملؤه شوقا وميلا وتعلقا به. وهكذا تزوده بمفهوم ما يجب وما لا يجب، والحسن والقبح. ومثلما تنزع الطبيعة الى جهة كمال الفرد ومصلحته، تنزع كذلك الى كمال النوع ومصلحته. ولهذا تبعث الطبيعة الجميع على حب اشياء يتحقق بها كمال النوع. وهذه المحبوبات متشابهة دائمة كلية مطلقة، وهي معيار المحاسن والمساوئ. والعدالة والقيم الاخلاقية كلها من الامور التي تراها الطبيعة من مصالح النوع، فتثير في نفوس الجميع شوقا اليها بالاختيار. فتحصل في النفس سلسلة مما يجب ومما لا يجب بصورة احكام انشائية. والاصل الذي التفت اليه « راسل » من (انا احب) هو انه عنوان لفرد يفكر بمنافعه المادية والجسمية فقط. ولم يلتفت الى انه اصل لفرد يحس بكرامة اعلى من روحه، ويحب مصالح النوع. فنحن لدينا نوعان من الوجوبات: وجوبات فردية جزئية نواجهها يوميا، من قبيل يجب ان اتناول هذا الطعام، وان البس ذاك القميص. ووجوبات كلية مشتركة بين الناس جميعا، اي انه توجد بين الناس مصالح مشتركة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>بعض الوجوبات جزئية متغيرة، وبعضها كلية ثابتة<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ومن هنا، يرى « السيد الطباطبائي » أن الاعتباريات (الوجوبات) على نوعين: ثابت ومتغير. فالعدل والظلم وأمثالهما مثال للاعتباريات الثابتة، والواجبات الفردية والجزئية مثال للاعتباريات المتغيرة، فالمحتاج إلى درس معين يقول: يجب أن أتلقى هذا الدرس، وغير المحتاج إليه يقول: يجب ألا أتلقى هذا الدرس. وهذه الوجوبات الفردية والجزئية لا ريب في نسبيتها وتغيرها من شخص إلى آخر. فعندما أقول: هذا الغذاء لذيذ لي، فإن فيه جانبا نظريا هو علمي بلذته، كما أن فيه جانبا عمليا هو وجوب تناوله. وهنا يطرح سؤال: هل هناك وجوبات يعمل الناس جميعا على أساسها عملا واحدا؟ بحيث تكون دائمية وكلية من قبيل: (فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8. ومن قبيل: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) الانبياء: 73؟ وعلى القول بوجود مثل هذه الوجوبات فيمكن لنا ان نتصور مسألة ثبات الاخلاق حينئذ، ولكن لا يعود التمييز بين الحكمتين النظرية والعملية، باختصاص الأولى بالوجودات والثانية بالوجوبات، كافيا. فان الصناعة تتضمن عدة وجوبات، إلا أنها لا تدخل في الحكمة العملية لأنها وجوبات جزئية. نعم، تدخل الوجوبات الاخلاقية في الحكمة العملية ؛ لأنها تكون لمقاصد كلية تنبع من الروح المجردة (كما سنرى)، وليس لمقاصد جزئية تنبع من الطبيعة المادية المحدودة للإنسان. فهذه الوجوبات الكلية مشتركة بين الجميع، توجد في أذهان الناس جميعا وليس لدى البعض دون البعض.. وي نمشعر بها الناس شعورا واحدا.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>المعيار الذي تنشأ منه الوجوبات الكلية هو الأنا العلوية في الإنسان<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">والمبنى الذي ترتكز اليه هذه الوجوبات - بعد ان رفضنا قول المتكلمين بان الحسن والقبح صفتان عينيتان، ذاتيان في الاشياء؟ واستنتجنا انهما رابطة بين الانسان والشيء - يعود إلى أحد التوجيهات الثلاثة التالية:<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">أ - <b>الغيرية والعمومية</b>: التوجيه الاول هو ان الانسان كما يهدف لسد حاجاته الذاتية، يهدف ايضا لسد الحاجات النوعية، فله اهداف نوعية، وهي ان يحب الشيء ولكن ليس من اجل نفسه، وانما من اجل الآخرين. وبناءا على هذا التوجيه يكون العمل اعتياديا ومبتذلا اذا عاد على عامله، ويكون متعاليا وكريما اذا عاد على الآخرين. فالغيرية ملاك الرفعة، والذاتية ملاك الضعة. ومعيار الاخلاقية هو العمومية. لأنه ينبع من حب الخير للآخرين، وهذا اصل عام وكلي. فالصدق بما هو صدق ليس حسنا بل هو حسن لان فيه الخير العام، وخدمة الآخرين. وهذا يعني ان الاخلاق اجتماعية الطابع. وعلى وفق هذا التوجيه نصل الى اصل اخلاقي كلي خالد تتغير مصاديقه وهو ثابت. وعلى هذا التوجيه نرد جميع الاخلاق الى اصل واحد ثابت دائم هو خدمة الآخرين. والفرق كبير بين تغير الأصل وتغير مصاديقه. وهذا التوجيه يخالف رأي « السيد الطباطبائي » القائل بأن جهاز الانسان الحسي بطابق جهازه الطبيعي والتكويني، وان اصل الاستخدام في الانسان عام وضروري..<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ب - <b>الأنا الكلية</b>: والتوجيه الثاني هو انه لا يمكن ان يكون ما يريده الانسان غير مرتبط بالانا، وكل ما التذ به لا بد ان يعود على نفسه هو، غاية الامر ان للانسان نفسين: فردية واجتماعية. فالانسان فرد، يحس (بأنا) واحدة، هي الفردية الشخصية. وكذلك المجتمع له شخصية، وشخصيته حقيقية لا اعتبارية، وتركيبه من الافراد ليس اعتباريا (وهي حقيقة ذكرها « دوركهايم » وآخرون، واستنبطها « السيد الطباطبائي » من القرآن الكريم). فالمجتمع له نوع خاص من التركيب، يختلف عن التركيب الطبيعي الذي تزول فيه مميزات العناصر. فكل افراده يتمتعون باستقلالهم وارادتهم، وكل منهم يحس بنوعين من الانا احداهما فردية، والاخرى جماعية. والعرفاء بدورهم يرون الأنا الواقعية هي الأنا الكلية، وان الانسان حين يقول (أنا)، ويتخيل نفسه منفصلا، فهو مشتبه. ويرجعون النفس الواقعية الى الحق تعالى، ولا يرون الانا الفردية الا تجليا لتلك النفس الواقعية، فكأن هناك روحا كلية في الواقع تتجلى في مختلف الأفراد، أي أن كل (أنا) ترجع ألى أنا واحدة. وقد توصل وليم جيمس الى هذا المطلب بنوع من التجارب النفسية، وأن ضمائر الافراد ترتبط في الباطن احدها بالآخر دون اطلاع غالبا، والارتباط الحاصل ناشيء من اتصالها بالمنبع الالهي. وعليه، فان الافراد يكتسبون بعد التركيب واقعا حضاريا هو واقع حقيقي، فيحس الانسان احيانا بان نفسه ليست فردية، وانما هي كلية، فيعمل حينئذ عملين: احدهما من أجل أنا الفردية، والآخر من اجل أنا الجماعية في نفسه. وعليه فهذا التوجيه للوجوبات الكلية يعود إلى الطبع الاجتماعي في الإنسان، فالإنسان مفطور على الاجتماع، وقد زرع في كيانه ميول وبواعث عديدة تهدف إلى سد حاجاته الاجتماعية كما هو الحال في سد حاجاته الفردية. ولولا هذا الميل الاجتماعي لديه لما نشأت الوجوبات الكلية. وهذا الحكم مرتبط « بالأنا الكلي » الذي يريد الوصول إلى مقصده، فيدفع الإنسان نحو الأفعال الأخلاقية التي هي أصول كلية ودائمة وعامة، ووجوبات ثابتة لا تتغير أو تتبدل. وفي هذا التوجيه نظريتان: استندت الاولى على وجود الانا، واتخذتها هدفا. فالانسان يعمل من اجل الانا عملا، ومن اجل غيرها عملا. واستندت النظرية الثانية على احساس الانسان بنوعين من الانا، فهو يحس بالانا الفردية، فيعمل من اجلها، ويحس بالانا الجماعية ويعمل من اجلها. فالانا الجماعية شيء كلي دائم، وكل ما انبعث منها اخلاقي، وما انبعث من غيرها ليس اخلاقيا. ويمكن ان تتغير مصاديق هذا الاصل مع انه كلي دائم.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ج - <b>الانا العلوية</b>: والتوجيه الثالث هو انه ليس بامكان الانسان ان يعمل دون ارتباط بذاته الخاصة، فللانسان نوعان من الانا: هما التحتية والعليا. فكل امرئ له درجتان هو في احداهما مثل جميع الحيوان، وفي الاخرى هو ذو واقع علوي. فحين نقول طبيعة الانسان انما نقصد واقعه لا مظهره المادي. وهذا الواقع الوجودي في درجة، وواقعه الحيواني في درجة، وواقعه الملكوتي الذي هو القسم الاصل في درجة اعلى من الدرجتين المذكورتين آنفا. وهو يحس بالانا العليا في نفسه، فحين تتنازعه الدوافع الحيوانية والانسانية يميز هذه من تلك بعقله، ويسعى بارادته الى تغليب الدوافع التي ينتصر لها العقل. وقد يوفق في هذا الكفاح وقد لا يوفق فيه، فاذا غلبته الشهوة انهزم فيه الانسان، واذا غلب الشهوة احس بالظفر في نفسه، في حين انه لم ينتصر عليه احد ولا انتصر على احد، وانما انتصر جانب من وجوده على جانب آخر منه، فعند غلبة العقل يحس بالنصر، وعند غلبة الشهوة يحس بالهزيمة، وهذا لأن الانا عنده عقلانية وارادية، والجنبة الحيوانية عنده هي السفلى، وهو بمنزلة مقدمة لواقعه الذي هو الجنبة السفلى التي هي نفسه وغيره في آن واحد. وعليه يكون توجيه الاصول الاخلاقية على النحو التالي: للانسان كمالات بحسب الانا الملكوتية، وهي كمالات واقعية لا انشائية، لان الانسان ليس جسما فقط، وانما هو جسم وروح. وكمال الانسان المعنوي والروحي عمل علوي قيم، والعمل الذي لا يتلاءم وعلو الروح عمل اعتيادي ويعد تافها. وعلى هذا النحو نقبل الحسن والقبح اللذين قال بهما « السيد الطباطبائي » و« راسل » وغيرهما. والبحث هنا: أيّ (انا) نحبها؟ العليا ام السفلى؟ فاذا كان المحبوب هو الانا العليا كان الحب اخلاقيا وذا قيمة، واحساس الانسان بالاخلاق ناشئ من هنا. والانسان يتعاطى مع الجنبة السامية من وجوده، والاعمال الرفيعة المرتبطة بها، على أنها حقيقية، وليست اعتبارية، لانه يرى تلك الجنبة في وجوده اكمل واقوى من غيرها. وكل الكمالات ترجع الى هذا الوجود، ولذا ارجعت خصال الصدق والصواب والاحسان والرحمة والخير وامثالها الى الأنا الأعلى في الانسان. وقد قال الحكماء: ان الحكمة العملية مربوطة بالفعل الاختياري من ناحية الفضل والكمال، ويرجعون الأمر في النهاية الى النفس، ويصرحون بأن لنفس الانسان كمالين: نظري وعملي. وان اكتساب حقائق العالم كمال نظري، ومكارم الاخلاق كمال عملي للنفس ينميها ويوازن بينها وبين الجسم، ويدعم ما لديها من كمال واقعي.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>الأنا العلوية مشتركة بين جميع الناس، ولذا فالأخلاق ثابتة<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">واذا اخذنا بهذا الرأي، وصلنا الى اصل اسلامي كبير لم يذكره الحكماء، وهو ان الانسان يحس - بصورة غير واعية - بالسمو بحكم ما لديه من شرف وكرامة ذاتيين، وهما جنبة ملكوتية ونفحة الهية فيه. ويحس بان هذا العمل أو الملكة مناسبة للشرف او غير مناسبة، فاذا ناسبته وانسجمت معه، عدت خيرا وفضيلة، والا كانت رذيلة. وتوجيه ما يجب وما لا يجب والحسن والقبح هو ان الناس خلقوا متشابهين في الكمال، ولخلقهم متشابهين كان ما يحبون لونا واحدا، وهكذا نظراتهم، يعني انهم متشابهون في الكمال المعنوي على الرغم من اختلافهم في الاجسام والاماكن وتغيرهم في الحاجات البدنية، ولا بد ان تكون المحبوبات والطيبات والمساوي والمنكرات واحدة كلية دائمة. وبهذا تعلل الفضائل الاجتماعية وغيرها كالصبر والاستقامة. وعليه، فهذه الوجوبات الكلية تستمد جذورها من الشرف والكرامة الإنسانيين. ومن شأنها أن تسمو بروح الإنسان إلى المقاصد العليا إذا ما سخر لها فكره وارادته. فعندما يقول الإنسان أن الفعل الفلاني مما يجب فعله، فانه يقصد بذلك أن يبلغ ذلك السمو وإن لم يتنبه لهذا القصد في شعوره. وفي المقابل فإن الطبيعة المادية المحدودة في الإنسان تفرض عليه وجوبات جزئية تصبو إلى سد حاجاته المحدودة كالغذاء ونحوه، لكنها لا تعد أخلاقا. والتوجيهان الأولان يعللان الاخلاق الاجتماعية فقط كالايثار واعانة الغير، ولكنهما لا يعللان الصبر والاستقامة. خلافا للتوجيه الاخير الذي يعلل الاصول الاخلاقية كافة. وبقبولنا هذا الاصل المبين لجميع المحاسن والمساوي وانها ناشئة من ارتباط الشيء بكماله، فاننا نستكشف به ان هذه المحاسن والمساوي مشتركة كلية دائمة. وبالتالي تكون الاخلاق ثابتة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1] - ان الفعل الاخلاقي هو ذلك الفعل النابع من عاطفة تفوق الميول والرغبات الفردية، ويهدف الى ايصال الخير للآخرين. بينما الفعل العادي لا يكون خارجا عن اطار الذات وعن حدود الأنا. والاتجاه الذي يرى في المحبة اصلا اخلاقيا، كما في المسيحية، ينتمي الى هذه النظرية.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2] - ان المعيار في كون الفعل اخلاقيا ليس هو العاطفة، وانما هو العقل والارادة. ولا بد ان تقوم العاطفة بنشاطها في ظل اوامر العقل والارادة واما اذا بقيت العاطفة مطلقة العنان فانها تقوم بافعال غير اخلاقية. وهذا هو اتجاه الفلاسفة الاسلاميين عموما.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[3] - انه يوجد في اعماق الانسان قوة غير العقل والعاطفة، وهي تلهم الانسان ما يجب عليه فعله او تركه في المجال الاخلاقي، وهذه القوة هي الضمير والوجدان، فالافعال الاخلاقية هي التي تتعلق بوجدان الانسان، والافعال العادية لا تكون متعلقة بالوجدان بل بالطبيعة كالاكل والشرب. من اصحاب هذا الاتجاه الفيلسوف الالماني « كانت ».<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[4] - ان الاخلاق من مقولة الجمال، فإذا استطاع الانسان ان ينمي في نفسه حس الجمال بواسطة التربية، وتمكن بذلك من ادراك جمال مكارم الاخلاق، فانه سوف لن يقدم على الكذب والغيبة والخيانة وامثالهما من الافعال. وحتى لو فرضنا ان المولى تعالى أجاز ارتكاب هذه الافعال فإن الانسان يجتنبها لقبحها، فالانسان يلتذ بالاشياء الجميلة، كذكر الله، وينفر من الاشياء القبيحة. وينتمي المتكلمون – سيما العدلية منهم - الى هذا الاتجاه في باب الحسن والقبح العقليين، كما ينتمي « افلاطون » الى هذا الاتجاه ولكن الجميل عنده ليس هو الفعل، وانما هي الروح، والفعل الاخلاقي هو الفعل الجميل االذي يصدر عن تلك الروح.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[5] - على الرغم من التوسع الذي حظي به درس الشيخ ابن سينا للحكمتين النظرية والعملية في الإلهيات والمنطق من الشفاء، وفي كتاب المباحثات. إلا أن البحث فيهما – سيما في العقل العملي – ما زال يشوبه الإبهام، فهل أن العقل العملي هو قوة إدراك في النفس كالعقل النظري، أم أنه ليس من سنخ الإدراك؟ وبكلمة ثانية هل هو قوة عاملة في النفس فحسب - ويطلق عليها أنها عقل بالاشتراك اللفظي - أم أنها قوة عالمة أيضا؟ وهل هما قوتان في النفس أم قوة واحدة؟<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[6] - هو مع غناه فقد أهمل فيه جانبا مهما وهو أنه لم ينطلق في بحثه من كلمات القدماء ليعرف جذر هذه المطالب في كلمات الشيخ وأمثاله. والسبب في ذلك هو أنه وصل إلى بحثه عن طريق أصول الفقه لا الفلسفة، واستلهم القسم الأول من بحثه من آراء الشيخ محمد حسين الاصفهاني في باب الاعتباريات.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[7] - امتلاك الغاية مرتبط بالطبيعة نفسها، بيد أنها قد تشعر بهذه الغاية تارة (كما في الحيوان)، ولا تشعر بها تارة اخرى.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[8] - كلامه يشبه كلام « الداروينية الحديثة » التي ترى ان الاصل في الانسان والحيوان هو تنازع البقاء، والذي عبّر عنه هو بالاستخدام. فالاصل في الانسان التنازع الذي ياتي التعاون بعده، فالانسان يتنازع ليبقى. وليس العدو نوعا واحدا دائما، فقد يتفق الناس على عدو مشترك، لاحساسهم انهم غير قادرين على مواجهته منفردين، وأن بقاءهم رهن بتآزرهم، فينشأ التعاون كما تنشأ المعاهدات التي تبرمها الدول فيما بينها دفعا لخطر مشترك. فهو في الحقيقة تعاون منبعث من التنازع، ولهذا تحدث الحرب بين الاصدقاء في الظاهر عندما يزول العدو المشترك. وبعد مدة يسيرة ينشأ الخلاف بين الفئة الغالبة وتحصل الحرب ثانية، وهكذا حتى اذا بقي اثنان احتربا ايضا، وكان البقاء للأصلح. وإذا بحثنا عن جذور المبادئ الاخلاقية للتعاون والتآلف والاتحاد وأمثالها، وجدناها ناشئة عن التنازع. ومعنى هذا انك اذا اردت ان تبقى ازاء العدو من طبيعة وغيرها، فسبيلك الصدق والاستقامة وأمثالهما. والجدير بالذكر ان اصل الاستخدام الذي رآه السيد الطباطبائي عاما للاحياء ليس مقبولا لدينا (الشهيد مطهري)، فمسألة الحسن والقبح العقليين وما يجب وما لا يجب، تختص بالانسان الذي ينجز اعماله الاختيارية بالارادة والفكر، اي الانسان الراشد، اما الطفل والحيوان وما لا مجال للعقل العملي اليه، فلا يمكن ان بشملهم عالم الاعتبار الذي هو خاص بالانسان العاقل، خلافا الطباطبائي.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[9] - ما قاله « راسل » واضرابه يعود الى قول « الطباطبائي » هذا، فقد قالوا بانه لا يمكن اتخاذ معيار للاخلاق، وان غاية قولنا (هذا الشيء حسن) هو ان القائل يحب ذلك الشيء، وحبه له لا يعني ان الجميع يحبونه، فالحسن عندي هو شيء آخر عند غيري، وما كان حسنا لدى الماضين هو غيره لدى اللاحقين به.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[10] - ناقش « راسل » وجهة النظر الأفلاطونية التي تنظر إلى الحكمتين النظرية والعملية بعين واحدة، فالخير عند « افلاطون » هو الحقيقة الأخلاقية التي يجب على الإنسان ان يعرفها، وهو حقيقة مستقلة عن النفس، لذلك لا فرق بين الأخلاق والحقيقة بنظر « افلاطون ».<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: left;"><span style="background-color: #351c75; font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-61571776677417592702010-10-23T21:43:00.001+03:002010-12-25T15:54:02.921+02:00التأويلية الإسلامية وسؤال المعنى<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1]</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يتم تناول النص من خلال ما يثيره من معان تنسبق منه إلى ذهن القارئ، ويتجلى المعنى وفق مستويات متفاوتة تساهم فيها المفردة اللغوية إلى جانب تركيب الجملة والسياق الكلي، فيكون للجملة بما لها من تركيب خاص دوراً مرجعياً في الإضاءة على المفردات اللغوية وتفسيرها، كما يكون للسياق العام مرجعيته في رسم تفاصيل الصورة الكلية للنص من خلال ضبط إيقاع الجمل وانتظامها بحيث يتشكل منها نسيج النص وروحه. وبهذا، يتجلى النص وفق سياقات وأساليب مختلفة بأشكال ومستويات متعددة، الأمر الذي يؤكد على ضرورة ملاحظة هذا التشابك الكلي كشرط للاستنطاق، واستقامة القراءة، بعيداً عن أحادية النظرة التي من شأنها توتير النص في مدلولاته المحتملة والحيلولة دون استنطاقه ومعننته. وقد تنشأ الصعوبة في القراءة من داخل بيئة النص، نظراً لاحتوائه على مادة غنية بالدلالات، تفترض مستوى من القراءة تسمح باستجلاء الزخم الكامن فيه، كما هو الحال بالنسبة للنص القرآني، إذ «كل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم، وكل عبارة وراءها عالم من الصور، والظلال، والمعاني، والإيحاءات، والقضايا، والقيم». وقد تنشأ الصعوبة من خارج النص حين يراد إسقاطه وتسييله وفق واقع ظرفي خاص أو توجه ذرائعي معين، ويفضي ذلك إلى تطويع النص وَلَي عنق الدلالة فيه بما يناسب وجهة النظر المحددة. هكذا بدا النص القرآني ملتبساً غائماً في كثير من المفاصل الأساسية للتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي في الإسلام، نقع على هذه الحقيقة في عبارة النبي (ص) للإمام علي(ع): «تقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل»، وفي تحذير الإمام علي (ع) لابن عباس من الانزلاق في معمعة التراشق الجدلي مع الخوارج: «لا تخاصمهم بالقرآن، فإنه حمّال أوجه، ولكن حاججهم بالسنة». وما ذلك إلا بسبب غنى النص وقابليته للاستثمار وفق الأفق الثقافي الخاص بالقارئ، فإن انفتاح هذه الإمكانية من شأنه أن يهيئ أرضية خصبة للتأويل ويلقي بظلاله على سؤال المعنى الملحّ كقضية محورية تتطلب علاجات منهجية جامعة تسمح برسم المعالم الكلية للنظرية القرآنية في التفسير، وتنأى جانباً بالروح الجدلية التي ساهمت في تأطير النص وفق آليات خاصة أفضت لاحقاً إلى تحجير حركة الفكر. وقد شهد سؤال المعنى أشدّ مراحله جدلاً واضطراباً بين المسلمين في موضوعة الصفات الخبرية، وهي الصفات التي ينحصر طريق إثباتها بالأدلة النقلية فحسب، سواء ما يتعلق منها بذات <a class="zem_slink" href="http://en.wikipedia.org/wiki/Allah" rel="wikipedia" title="Allah">الله</a> تعالى، كالوجه، واليدين، والعينين، والساق، وغير ذلك. قال تعالى: (خلقت بيديّ) ص: 75، أو ما يتعلق بأفعاله جلّ شأنه، كالاستواء، والنزول، والمجيء، ونحو ذلك. قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى) طه: 5.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: #c00000; font-size: large;"><b>النظريات الإثباتية<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">توزعت الآراء في الموقف من الصفات الخبرية بين مثبت للصفة والمعنى معاً وهو الاتجاه الحرفي، أو مثبت للصفة متصرف في المعنى وهو الاتجاه التأويلي الإجمالي، أو متصرف في كليهما معا وهو الاتجاه التأويلي التفصيلي. ونتناول في البحث هنا النظريات الإثباتية، سواء الحرفية منها أو التأويلية الإجمالية ومعالجاتها. فنعمد إلى رصد بنية النظرية عموماً من خلال تشريحها إلى عناصرها المكوّنة لها، والتي لا تتجاوز بحسب الملاحظة المبدئية الأربعة عناصر، وهي: إثبات الصفة أو نفيها، إثبات معنى الصفة وحقيقتها، والموقف من التجسيم والتشبيه، وعلاقة التفكيك والارتباط داخل بنية النظرية. ويتركز البحث حول العنصر الثاني تحديداً، وهو المقصود بسؤال المعنى، مع ملاحظة أهمية العنصر الرابع وهو مدى ارتباط وتلازم هذه العناصر فيما بينها داخل بنية النظرية الواحدة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>1 - نظرية التكييف<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تقوم هذه النظرية على إبقاء الصفات الخبرية على ظاهرها بمعناها الحرفي دون تمييز صفات الخالق عن صفات المخلوق، وتفسّر مثل: «يد اللّه» و«عين اللّه» و«وجه اللّه» على أنها جوارح وأعضاء جسمانيّة، وتدعي أنّ لله سبحانه عينين ويدين مثلما للإنسان. وبهذا تقترف هذه النظرية جناية التشبيه والتجسيم مما هو باطل بصريح العقل والنقل. وتنسب هذه النظرية إلى «الظاهرية» و«الكرّامية» ويعرف أتباعها لأجل ذلك بالمشبّهة والمجسّمة. قال الشهرستاني: «أما مشبهة الحشوية فقد أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص». إذن، تدعو هذه النظرية إلى إثبات الصفة، وإثبات المعنى، وإثبات التجسيم: فهي تثبت اليد والوجه لله تعالى بالمعنى اللغوي المتبادر من المفردة، والذي هو الجارحة والآلة. وتصرّح نتيجة ذلك بالقول بالتجسيم. والتزام جانب الإثبات في كافة عناصر النظرية يجعلها تتوفّر على عنصر الانسجام والترابط الداخلي من الناحية المنطقية. وتنشأ الإشكالية هنا من عدم توافق النظرية فيما خلصت إليه من نتائج مع المضمون الإسلامي الثابت. فهي قضية كاذبة متناقضة بحسب النتيجة والمضمون؛ إذ أن القول بالتجسيم يتنافى ومقام الذات المقدسة، ويسقِط النظرية عن المقبولية، ولهذا لم تستطع هذه النظرية أن تشق طريقها إلى العقل الإسلامي الذي تعامل مع مقولة التجسيم كأصل متسالم على بطلانه عقلاً ونقلاً، وجعل منه معياراً في قبول الآراء ورفضها. وبالتدقيق في عناصر النظرية، نجد أن النص ينتمي إلى الوحي الإلهي بامتياز ويحظى بتوثيق من الدرجة الأولى، فيمتلك بذلك عنصر الثبات الأقصى، ولهذا فإن أي تصرّف في عناصر البنية يجب أن لا يطال ثبات النص. ومن جهة ثانية، إن لازم النظرية لا بد أن ينبثق عنها كضرورة حتمية بحسب المعنى اللغوي في تفسير المفردة، فإذا ثبت المعنى الإفرادي للنص الصريح في الجارحة بإجماع اللغويين، فهذا يحتّم الأخذ باللازم كنتيجة تلقائية لا تقبل التصرف أو التلاعب أو التحوير. وهذا يعني أن أي جهد توافقي يجب أن يتمحور حول العنصر الثاني من عناصر النظرية: إزالة ثبات المعنى. وفي هذا الجانب تحديدا يتركز جهد كل من نظرية «التفويض» ونظرية «نفي التكييف». إن هذا يجعلنا ندرك أهمية سؤال المعنى بالنسبة لهاتين النظريتين.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>2 - نظرية التفويض<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تقوم هذه النظرية على إجراء الصفات الخبرية على الله سبحانه وإثباتها له مع تفويض المراد منها إليه تعالى. فهذه النظرية تنفي التشبيه والتجسيم، وهي تتوقّف عن بيان المراد من هذه الصفات، ذلك أن اللّه تعالى أعلم بما أراد، ولا نعرف معنى الصفات، ولسنا مكلّفين بالكشف عن هذا المعنى فضلاً عن تأويله. وتترقى هذه النظرية إلى حد تحريم الخوض في الصفات الخبرية بدعوى أن الآيات المشتملة عليها هي من جملة الآيات المتشابهة التي نهى سبحانه عن ابتغاء تأويلها، وأمر عباده بالإيمان بها. قال سبحانه: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العالم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) آل عمران: 7. وتخلص بذلك إلى وجوب الإقلاع عن تفسير الصفات، وتفويض أمرها ومعانيها إلى الله سبحانه. ويتمثّل هذا الاتجاه بالجملة الشهيرة التي أطلقها مالك بن أنس في مقام تعرضه لمعنى الاستواء على العرش: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، وعلى هذا سلك أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي الظاهري وغيرهم من الفقهاء. قال الشهرستاني: «إن جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون إنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله: (الرحمن على العرش استوى)، ومثل قوله: (لما خلقت بيدي). ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له، وذلك قد أثبتناه». وقال الرازي: «هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شيء غير ظواهرها، كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها«. إذن، تقوم المعالجة في هذه النظرية على أساس إثبات الصفة حفظا للنص، وإسكات المعنى درءاً لمقولة التجسيم. وبهذا يتغلغل التفكيك داخل بنية هذه النظرية، فإن إسكات المعنى وإسقاط التجسيم لا ينسجم منطقياً مع إثبات الصفة، فهو تفكيك بين اللازم والملزوم، وبهذا يعوز النظرية عنصر الترابط والانسجام والتوافق داخل بنيتها. ومن هنا يتوجه سؤال المعنى عن التبرير المنطقي المسوغ لهذا التفكيك، فيتطلب إيجاد التوافق بين إثبات الصفة وإسكات المعنى من جهة، وإثبات الصفة وإسقاط اللازم من جهة أخرى. إن تبرير التفكيك بالاستناد إلى أن التفسير الصامت تفويضا أولى من التفسير الناطق تأويلاً، وأن التفويض أسلم من الإثبات، لن يدرأ غائلة التشبيه والتجسيم عن هذه النظرية، إذ السكوت عن الشيء إن لم يكن قبولاً بما له من ظاهر ولو استلزاماً، فهو وقوع تحت قيد مسائلة من نوع أشدّ: فيؤول إلى إدعاء أن الله تعالى خاطبنا بما لا نعقل، وهذا يعرّض النظرية لسهام العبثية - المنفية عنه تعالى بحكم العقل والنقل -، مضافاً إلى أن السكوت لا ينسجم مع الإعتقاد الذي يتسم بطبيعته بسمة الوضوح والبيان، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) إبراهيم: 74، فما هو «معروف» في عبارة مالك بن أنس المشهورة، لن يسعف هذه النظرية بعنصر الوضوح والبيان إلاّ أن يكون مدركا بنحوٍ يكون فيه «معروفاً» في الإطار القرآني والتقرير العقيدي. وما هو المعروف في إطار اللغة لا يرقى إلى مستوى المدلول القرآني والعقيدي ما لم يلحظ فيه سياق الآية ودوره في إسباغ المعنى.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>3 - نظرية نفي التكييف<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تقوم هذه النظرية على أساس إجراء الصفات الخبرية على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها ولكن «بلا تكييف»؛ جمعاً بين ظواهر النصوص ومقتضى التنزيه. فالله سبحانه له يد وله عين، ولكن يده وعينه ليست كأيدينا وأعيننا. وتنسب هذه النظرية إلى الشيخ الأشعري وبعض الفقهاء كأبي حنيفة والشافعي وابن كثير. قال الأشعري: «إن لله سبحانه وجهاً بلا كيف، كما قال: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، وإن له يدين بلا كيف، كما قال: (خلقته بيدي)«. إذن، تدعو هذه النظرية إلى معالجة من نوع مختلف عن سابقتها، تقوم على أساس إثبات الصفة، وإثبات (المعنى اللائق)، ونفي اللازم. ذلك أن إثبات الصفة يفترض إيجاد نوع من التجانس بينه وبين إثبات المعنى، كما أن نفي اللازم يفترض إيجاد نوع من التجانس بينه وبين إثبات المعنى. لذلك فإن إيجاد التناسب بين إثبات الصفة ونفي اللازم يستوجب تصرفاً في المعنى. وهذا التصرف يقوم على أساس الإقرار بوجود اليد بمقتضى حفظ النص، ونفي الكيفية عنها بمقتضى نفي اللازم. فتُحمل الصفة على المعنى اللغوي لليد مرفوعاً عنها الكيف. وبشيء من التدقيق نجد أن هذا النوع من التفسير يقوم على أساس التمييز بين مستويين من الدلالة: مستوى الدلالة اللغوية المعهودة (حفظاً للنص)، ومستوى الدلالة اللغوية مرفوعاً عنها الكيف (درءاً لما يلزم)، وما يبرر التمييز هنا، هو الحاجة إلى استحداث عنصر جديد إضافي يسهم في التجسير داخل بنية النظرية وردم الهوة ما بين الصفة واللازم. ولكن النظرية إذ تكشف عن إسهام العنصر الجديد في الوصل بين الصفة واللازم، تغفل في الوقت ذاته الثغرة الجديدة التي أحدثها إقحام هذا العنصر الجديد في بنية النظرية، كيف يتم الربط بين (المعنى الظاهر في الحقيقة اللغوية) والذي تم تحييده، و(المعنى اللائق) الذي تم ابتكاره، والحال أن المفاهيم متباينة بذاتها؟ في أفضل الأحوال، يمكن الإجابة بأن النظرية لا تستحدث معنى جديداً هنا، وإنما تقوم بإجراء تعديل طفيف عليه، فإن لفظ اليد مثلا يراد به نفس المعنى اللغوي الموضوع له، ويستعمل هنا بنفس معناه اللغوي مع حذف الشق المتعلق بالكيفية منه بداعي تنظيفه مما لا يليق بجلاله تعالى. وقد يتناسب هذا التحليل مع القول بأن الألفاظ موضوعة لروح المعاني، ولكنه لا ينسجم إطلاقا مع القول بأن الألفاظ موضوعة للمعاني بنفس كيفياتها؛ فإن انتفاء الكيفية يفضي إلى انتفاء الحقيقة. مع أن الذي يتكفله الوجدان العرفي هو أن هذه الصفات موضوعة للمعنى بنفس كيفيته، وذلك لتبادر الكيفية من اليد عند حملها على اللغة، ووضوح التكلف عند حمل اليد على المعنى المستحدث: «البلكفة» (بلا كيف)، فإننا لا نقع على أثر لهذا المعنى المبتكر في فهم القدماء لنصوص الكتاب والسنة، بل نجد البعض من أكابر القوم يذهب إلى القول بالتفويض كما تقدم. وعليه، فإن أي إجراء أو تصرّف في المعنى لا بد وأن يحدث تغييراً في حقيقته سيما وأن المفاهيم بما هي مفاهيم متباينة فيما بينها. ومهما يكن، يظل التفكيك ضارباً بجرانه في بنيان هذه النظرية: فما يفهم من الصفة غير مقصود، وما يقصد منها غير مفهوم، وإذا كان الله تعالى قد خاطبنا بما لا نعقل، فإن هذا يستلزم العبثية وينافي الحكمة. وإن القول بأن لله يداً حقيقية بلا كيف، هو قول يعتريه الغموض والإيهام، ويخالف نهج القرآن الكريم في رسم معالم العقيدة من خلال مخاطبة الفطرة والعقل السليم بلغة واضحة جلية لا يشوبها أدنى تعقيد وإبهام. وبذلك يفتقد سؤال المعنى التبرير المنطقي المسوغ لهذا التفكيك، فيتطلب إيجاد التوافق بين إثبات المعنى اللغوي المتبادر والمعنى اللائق المستحدث، الأمر الذي تتوقف عليه مشروعية النظرية ككل، وهو العنصر اللازم في إيجاد الترابط والانسجام داخل بنية هذه النظرية.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>ابن تيمية بين التكييف ونفيه<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يتمسك ابن تيمية بما ورد في النصوص من صفات وأفعال لا تتناسب بظاهرها ومقام الذات المقدسة، وينحو في الجواب عن سؤال المعنى باتجاه إفراغ اللفظ من أية دلالة حقيقية على مستوى الفهم، فإذا كان الله سبحانه يستقر على العرش استقراراً، وينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة، ولم يكن لنا أن نقترف جناية التشبيه لتعاليه سبحانه عن صفات المخلوقين، ولم يكن لنا أن نقترف جرم التأويل لاستلزامه مغبّة التعطيل، فلا بدّ حينئذ من إجراء الصفات على ظاهرها وإثباتها على حقيقتها، غاية الأمر إجرائها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، ولن يقدح في ذلك عدم تمكننا من الإلمام بكيفية المعنى اللائق به تعالى مطلقاً. وبهذا يظهر من ابن تيمية تبنيه نظرية «نفي التكييف» التي عمل على صياغتها وبثّها من جديد بعد أن كانت قد هجرت منذ القرن الرابع الهجري نتيجة تصدي ابن الجوزي للحنابلة آنذاك، ونفيه أن يكون مذهبهم هو بعينه مذهب السلف. ومهما يكن، فقد أعاد ابن تيمية إحياء هذه النظرية في القرن الثامن الهجري، ودعا إليها لكونها بين التعطيل والتشبيه، وأثارها بوصفها مذهب السلف الذين: «لا يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا.. ولم يقل أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه في كل مكان، ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنه داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها». وقرّر أنَّ «مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية، واستواء على العرش، ووجه، ويد، ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضاً من غير تأويل، وبالظاهر الحرفي. فهل هذا هو مذهب السلف حقاً؟.. وقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري، وادعوا أن ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، فكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة»؟!. إن مسوغ التفكيك الضارب بجذوره في متن نظرية نفي التكييف، ونظرية التفويض، يقوم على أساس درء محذور التجسيم اللازم من إثبات الصفة لله تعالى، ولذلك فإن أية مقاربة من شأنها المساس بهذا الارتكاز المحوري سوف تضع هاتين النظريتين على المحك. وبالرغم من تبني ابن تيمية لنظرية «نفي التكييف« بحسب الظاهر، إلا أن منطلقات ذلك التبني لم تكن ناشئة من نفس الفضاء العام الذي تحرك فيه العقل الإثباتي آنذاك، وهو درء محذور التجسيم كأصل متسالم يشكل نقطة ارتكاز في قيام هذه النظرية. ذلك ما توحي به عبارات ابن تيمية التي يشوبها الكثير من التأرجح ما بين التكييف وعدمه، فكثيراً ما بدا ابن تيمية مغرقاً في التشبيه إلى حد المغازلة الصريحة لأتباع نظرية «التكييف« المتطرفين في حرفيتهم، ولعل مرجع ذلك إلى تبنيه للمنطق الاستقرائي الذي وفّر لديه مادة لا بأس بها من النصوص التشبيهية بعد أن استقامت لديه دليليتها. ومن هنا يسوق ابن تيمية في بعض مؤلفاته مقاربة تقعيدية تبرر التشبيه والتجسيم، وهي مقاربة تقوم في جوهرها على أساس التمييز بين التمثيل والتشبيه: فالتمثيل هو تشابه بين شيئين من جميع الوجوه، وهذا هو المنفي في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)، بينما التشبيه يكون بين شيئين ببعض صفاتهما. وهو يرى أن التشبيه بين الخالق والمخلوق لا يقتضي التمثيل: فإن الله سبحانه أثبت التشبيه بينه وبين خلقه، فسمّى نفسه حيا: (الحي القيوم) البقرة: 255، وسمّى بعض عباده حياً بقوله: (يخرج الحي من الميت) الروم: 19، وسمّى نفسه سميعاً بصيراً: (إن الله كان سميعاً بصيراً) النساء: 58، وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً: (فجعلناه سميعاً بصيراً) الإنسان: 2، وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير. وحينئذ فإن إثبات صفات الله التي يقتضي إثباتها التجسيم لا حرج فيه، ولم يرد نفي التجسيم عنه سبحانه. واحتجاج البعض بقصة موسى والسامري حيث قال تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده عجلاً جسداً له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً) الأعراف: 148، لا يصح، فالله تعالى لم يذكر فيما عابه كونه ذا جسد، ولكنه ذكر فيما عابه به أنه لا يكلمهم، ولا يهديهم سبيلاً، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيباً ونقصاً لذكر ذلك، فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيب ونقص. ثم إن أدلة الكتاب والسنة على إثبات العلو والاستواء أكثر من أن تحصر، ودلالتها على ذلك جلية مفهومة، وحينئذ فيقال: إن كان إثبات هذا يستلزم أن الله جسم وجسد، لم يكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر من قصة العجل، لأن ليس فيها أن كونه جسدا هو النقص الذي عابه الله وجعله مانعا من إلهيته. وعليه، لم يرد في النصوص أن التجسيم عيب ونقص، بل دلّت النصوص على إثبات العلو والاستواء بوضوح، ولهذا أثبت ابن تيمية القول بالجهة والاستواء والانتقال والنزول. إن المحذور المتصوّر هنا، أي الوقوع في غائلة التشبيه والتجسيم، لا بد أن يحتكم إلى الرؤية العقيدية الناشئة من عملية التفسير نفسها، فإن ما يمكن أن يعدّ محذورا لدى البعض قد لا يعدّ كذلك بنظر البعض الآخر. ذلك أن أحادية المنهج في التفسير وفق هذا المنحى النقلي من شأنها أن تستبعد قطعيات العقل ومرتكزات العرف كلياً، وبذلك تنأى بغائلة الدور بعيدا عن هذا الوجه، وتسمح للبنى العقيدية أن تنبثق من جراء عمليات تفسير محض نصيّة، دون أن تكون محكومة مسبقاً بسقف تلك البنى. فيتضح أن قيام هذا الوجه من التفسير الحرفي رهن بتعطيل حركة العقل ومرتكزاته العرفية كليا في آلية التفسير، بحيث يغدو سؤال المعنى مشروعاً فقط خارج إطار استجلاء النص نفسه. وهذا الأمر يتم تناوله في سياق الحديث عن قيمة المنهج الأحادي في الإتباع، ويحتكم في نتائجه إلى مدى جدوائيته في استجلاء مضامين النص. وما يهم هنا، هو أن إثبات الصفة، وعدم المانع من إثبات اللازم، يحتّم حمل الصفة على المعنى اللغوي المتبادر من مفردة اليد والوجه ونحوهما بمقتضى الانسجام الداخلي الذي تتطلبه بنية النظرية، وهذا من شأنه أن يضع نظرية «نفي التكييف» القائمة على درء محذور التجسيم على المحك. لذلك فإن سؤال المعنى يغدو أشد تأزماً واضطراباً طالما لم يتوفر له عنصر الإثبات رغم زوال الموانع من طريقه: فهل يثبت ابن تيمية المعنى اللغوي للفظ اليد لانعدام المانع عنه، وبالتالي يقع في تناقض صريح مع المضمون الثابت في فضاء العقل الإسلامي! أم يتمسك بنظرية «نفي التكييف» ليتناقض بذلك مع الأساس الارتكازي لهذه النظرية بشكل لم يبلغه السلف أنفسهم؟! إن سؤال المعنى هنا يتطلب أكثر من أي وقت مضى التبرير المنطقي الذي يفسر إزاحة المعنى، سيما بعد إثبات الصفة، وإثبات عدم المانع من جريان اللازم.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">والخلاصة: يظلّ سؤال المعنى مطروحاً بقوة بوجه الاتجاهات الإثباتية كافة طالما أن ما خلصت إليه بكل أطيافها إن هو إلا رؤى من شأنها أن تقودنا في النتيجة إلى الدائرة المفرغة من أي معنى؛ فالبعض وصف جسماً مركّباً منفعلاً متغيّراً وصرّح بأنّه جسم، والبعض الآخر وصف لفظاً وصمت عن المعنى، والبعض الثالث وصف معنى بلا كيف. ولا نجد من بين هذه الاتجاهات سوى اتجاه واحد يحظى بسمة الترابط والانسجام الداخلي، وهو اتجاه «التكييف» الذي أثبت الصفة ولوازمها من المعنى والتجسيم. وحيث إن هذا النوع من الترابط يؤدي إلى الوقوع في محذور التجسيم، بل هو صريح في ذلك، فقد تم استبداله برؤى نسقية غير منتظمة تدعو إلى التفكيك بين المقدمات ولوازمها الحتمية بذريعة التوفيق بين إثبات الصفة حفظاً للنص، ونفي التجسيم حفظاً للمعنى. وهذا التفكيك ما هو في المحصلة النهائية إلا نوع تأويل ليس إلا، غاية الأمر أنه تأويل إجمالي يهدف إلى درء التجسيم من خلال الإثبات والنفي في نفس الآن. إن عملية التأويل تتم وفق مستويين: مستوى التفكيك والفصل من جهة بداعي إزالة الملازمة، ومستوى البناء والوصل من جهة ثانية بداعي إيجاد الملائمة. وقد تكثفت جهود الاتجاهات الاثباتية المتمثلة في »نفي التكييف» و«التفويض» حول المستوى الأول من عملية التأويل، بينما تم تجاهل المستوى الثاني والاكتفاء بالإحالة إلى علم الله تعالى، ولهذا لم تؤتَ هذه الجهود ثمارها إلا لجهة تفريغ النص من معناه وجعله صامتاً. وقد يبرر لهذا النزوع تمسكه بالثابت الملموس في مقابل المتغيّر الحدسي، وحيث إنه لا يمكن الاحتفاظ بكلا العنصرين فلا بد من إسقاط أحدهما لحساب الآخر. وحيث إن النص ثابت متحصن بحرفيته متأدلج بنصوصيته، بخلاف المعنى فهو مأزوم في دلالته، لا مندوحة حينئذ من المصير إلى توتير المعنى وتبديده من الذهن، دون أن يصل الأمر إلى حد استبداله بمعنى آخر؛ فإن استبدال المعنى في قضايا الدين ما لم يكن مستنداً إلى دليل حرفي فإنه يشكل مجازفة خطيرة وتدخّلاً بشرياً سافراً في شؤون المقدّس، الأمر الذي من شأنه المساس بالنص وحرفه عن مسار قدسيته. وإلى هنا تكون العملية التأويلية للاتجاهات الإثباتية قد استنفذت طاقتها. إن الخروج عن الظهور الحرفي بصرف اللفظ عن دلالته في الكيف إلى الكيف المجهول، أو اللاكيف، ما هو في الحقيقة إلا وجه من وجوه صرف المعنى إلى غيره، فلا فرق في التأويل بين إيجاد المعنى أو صرفه إلا بمقدار ما يفتقد في بنياته الداخلية إلى التبرير المنطقي ويكون تأويلاً إجمالياً، ولن يختلف حينئذ جوهرياً عن الاتجاهات التأويلية الأخرى في جهة تبنيه مبدأ العملية التأويلية في الجملة إلا بمقدار طموح التأويلية التفصيلية لدرء التفكيك بالتزام الترابط في النفي، وليس في الإثبات: أي نفي الصفة، ونفي المعنى، ونفي التجسيم والتشبيه. فإن أتباع التأويل التفصيلي يرفضون إثبات اليد والوجه لله تعالى، وإثبات الصفات بمعنى الآلة والجارحة، وإثبات التجسيم جملة وتفصيلاً. وحيث إن هذه الرفوضات يمليها منطق الترابط والفرار من غائلة التجسيم والتفكيك، لذا، فإن التحدي الذي يواجه التأويليين التفصيليين هو نفسه التحدي الذي واجه التأويليين الإجماليين، وهو مدى قدرتهم على إثبات تأويلاتهم وفق الأسس العلمية المقبولة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2]</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">توزعت الآراء في الموقف من الصفات الخبرية بين مثبت للصفة والمعنى وهو الاتجاه الحرفي، أو مثبت للصفة متصرف في المعنى وهو الاتجاه التأويلي الإجمالي، أو متصرف في كليهما معاً وهو الاتجاه التأويلي التفصيلي. وقد تناولنا أعلاه النظريات الإثباتية بالبحث، وبيّنا أنها - فيما عدا الاتجاه الحرفي المتزمّت - تستند في جوهرها إلى نوع من التأويل الإجمالي، يقوم على التفكيك بين الشيء ولوازمه، والإحالة في المعنى، بداعي التوفيق بين إثبات الصفة حفظاً للنص، ونفي التجسيم حفظاً للمعنى. والتأويلية اتجاه في التفسير يقوم على النفي والإثبات معاً، وهي إذ تطمح إلى تجاوز هاتين العقبتين تنجز ذلك على مرحلتين: صرف اللفظ عن دلالته الأولية في جهة النفي، وترجيح كفة الدلالة الثانوية في جهة الإثبات. وكلاهما تصرف على خلاف الطبيعة الأولية للأشياء، ولأجل ذلك يفتقر التأويل إلى عنصر التطبيع، ويحرص على امتلاك مبررات وجوده التوافقي من داخله، وذلك وفق إجراءين: أولاً: اتخاذ الوضعية الطارئة كنمط في الوجود. لجهة استناده إلى المجاز ونحوه، فلا يتطرق إلى نطاق الوضع، وإنما يعمل في إطار الاستعمال، ويبقى بمثابة حالة طارئة لا غير. ولئن كان «الوضع» يهتم بجعل اللفظ على المعنى وتخصيصه به، فإن التأويل يستند في مشروعيته إلى هذه الخصوصية الوضعية التي تسود العلاقات اللغوية، ولا يسعى إلى تقويض قواعد اللعبة التي تحكم المسار اللغوي من خلال العبث بالألفاظ والمعاني وضم الأغيار إلى بعضها البعض جزافاً، إذ الوضع يهيئ الأرضية اللازمة لإجراء العملية التأويلية، دون أن تصل تلك العملية إلى حد المساس به. فالتأويل هو نقلة من الأصل الذي يشكل نقطة ارتكاز أولية تتماهى مع طبيعة الأشياء، إلى الفرع الذي يظهر دائماً في صورة الوضعية الطارئة. والتأويلية تستبيح اللفظ دون أن تخلف المعنى الأصلي عليه، إذ التأويل يأبى أن يتحول إلى أمر واقع مما من شأنه أن يفقده هويته التأويلية، لذلك لا يسعى إلى ترقية المعنى التأويلي إلى مقام الوضع، وإنما يستثمره في مقام الدلالة الاستعمالية فحسب. وهنا تحديداً ينشأ عنصر المراوغة فيه: فهو إذ يعبث بالأدوار يحرص على إبقاء الأشياء في مواقعها، فيحتفظ بالسيطرة والقدرة على التحكم في مسار الأمور في نفس الوقت الذي ينأى بنفسه عن الظهور في طور الواقع الرسمي. ثانياً: تتيح ثنائية النفي والإثبات لمفهومين أن يتعاقبا على لفظ واحد طولياً بسبب قيام علاقة ما بينهما، ومن خلال هذه العلاقة تتشكل العملية التأويلية في مرحلتيها: مرحلة النفي والفصل من جهة بداعي تفكيك الموائمة، ومرحلة الإثبات والوصل من جهة ثانية بداعي تحقيق الملائمة. وقد حصرت الاتجاهات الاثباتية ذات المنحى التأويلي جهودها في المستوى الأول من عملية التأويل، فيما أحالت المستوى الثاني إلى المجهول، الأمر الذي أفضى إلى إرباك المفهوم؛ إذ المفهوم الواحد بما هو مفهوم لا يحتمل ورود التجزئة عليه بالنفي والإثبات وإلا لاختلت هويته وكينونته الخاصة، ذلك أن العبث في المفهوم الواحد، بإثبات شق منه - وهو المتعلق بالجارحة مثلاً - ونفي شق آخر منه - وهو المتعلق بالكيف – من شأنه إلحاق الضرر بعنصر الثبات في الوحدة المفهومية، فإن المفهوم متقوم بتمام أجزاءه. وإذا كان الشيء الجديد هنا هو التأكيد على النفي دون أن يلامس ضفاف الإثبات حفظاً لهيبة النص من الإقحامات الدخيلة؛ بحجة أن الإثبات يستدعي المساس بالنص وحرفه عن مسار قدسيته. فلن يزيد الإثبات بشيء على النفي لجهة المساس بالمفهوم وعرقلة النص عن مهامه الدلالية، وبذلك لن يؤتي هذا الجهد ثماره إلا لجهة تفريغ النص من محتواه وجعله صامتاً. إن استناد النظريات الإثباتية إلى الثابت الملموس في مقابل المتغيّر الحدسي، بدعوى أن النص متحصن بحرفيته متأدلج بنصوصيته، بينما المعنى مأزوم في دلالته، لن يسهم سوى في تبديد المعنى من الذهن تحت عبء قدسية المطلق، ولكن ذلك لن يكون في صالح النص، ذلك النص الذي تتقوّم هويته ونصوصيته بكونه ذا معنى ودلالة! بل إن الجهد التأويلي الباحث عن المعنى هو في صميمه جهد باتجاه النص، وإسهام في حفظ نصوصيته قبل أن يكون أي شيء آخر. ولن يشكل التأويل تدخّلاً بشرياً في شؤون المقدّس طالما أن قواعد اللعبة التأويلية محفوظة في عرف اللغة العربية التي منها تَشكّلَ الخطاب القرآني. بل إن الإحالة إلى مجهول، وتخصيص المجاز بغير الكتاب، ونحوها من إقحامات على النص إن هي إلا مجازفة في طريقة التناول، لا تحظى في عرف اللغة القرآنية - والتي من أهم خصائصها: البيانية والهدفية - بأي رصيد يذكر. ومهما يكن، فلا فرق في التأويل بين إضفاء المعنى أو صرفه إلا بمقدار ما تفتقد النظرية في بنيتها الداخلية إلى النسق المنطقي ويكون تأويلاً إجمالياً، ولن تختلف حينئذٍ جوهرياً عن الاتجاهات التأويلية الأخرى في جهة تبنيها مبدأ العملية التأويلية في الجملة إلا بمقدار طموح التأويلية التفصيلية لدرء التفكيك بالتزام الترابط في النفي، وليس في الإثبات: أي نفي الصفة، ونفي المعنى، ونفي التجسيم والتشبيه. فإن أتباع التأويل التفصيلي يرفضون إثبات اليد والوجه لله تعالى، وإثبات الصفات بمعنى الآلة والجارحة، وإثبات التجسيم جملة وتفصيلاً. وحيث إن هذه الرفوضات يمليها منطق الترابط والفرار من غائلة التجسيم والتفكيك، لذا، فإن التحدي الذي يواجه التأويليين التفصيليين هو نفسه التحدي الذي واجه التأويليين الإجماليين، وهو مدى قدرتهم على إثبات تأويلاتهم وفق الأسس العلمية المقبولة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: #c00000; font-size: large;"><b>النظريات التأويلية<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يؤكد التأويليون على أنه كما أن تجاوز الحد في التنزيه يؤدي إلى التعطيل، فكذلك تجاوز الحد في التشبيه يفضي إلى التجسيم، فإن التمسك بظواهر المفردات التي تتحدث عن الصفات الخبرية يفضي إلى تشبيه <a class="zem_slink" href="http://en.wikipedia.org/wiki/Allah" rel="wikipedia" title="Allah">الله</a> بخلقه ونسبة التجسيم إليه تعالى لذا يجب حملها على خلاف ظاهرها. وإذا كان لا بدّ من الذهاب باللفظ إلى حيث مدلولاته الثانوية، وتفسير الصفات على خلاف ما يظهر منها بالظهور الأولي، تنزيها لله تعالى عن التشبيه والتجسيم وما يلزم منهما من الحلول والتحيّز والأعضاء والانفعال ونحو ذلك، ولأن الله تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها، فإن هذا يحتّم تأويل الصفات المسماة خبرية إلى معان تليق بجلاله تعالى انسجاماً مع ما قطع به العقل وثبت به التنزيل المحكم من أنّه تعالى شأنه (ليس كمثله شيء) الشورى: 11، فالمتشابه يردّ إلى هذا المحكم حينئذ. وفي المقابل ترفض الاتجاهات الحرفية المتمسكة بظاهر الصفات الخبرية إدراج نصوص الصفات هذه في دائرة المتشابه الذي لا يراد ظاهره، وتنعت التأويليين بأنهم من المعطلة والنفاة للصفات. إذن هذا الموقف الإشكالي يستدعي تصرفاً ما يجعل من الصفات شيئاً يليق بجلاله. وفي هذا يلتقي التأويليون كافة، سواء انتموا إلى المنحى الإجمالي أو التفصيلي. غير أن السبل والوسائل التي اتبعت لتحقيق هذه الغاية جاءت مختلفة ومتباينة مما يضعنا مباشرة أمام إشكالية المنهج. ويتمثل الموقف التأويلي التفصيلي في مجال الكلام في تيارات ثلاث رئيسة، هم المعتزلة وبعض الإمامية وبعض الأشاعرة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>التأويل الاعتزالي<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تدور العقيدة لدى المعتزلة مدار اليقين لا الظن، وإذا كانت ظواهر النصوص من كتاب وسنة ظنية الدلالة، وكانت أدلة العقل الصحيح قطعية الدلالة، فلا بد عند التعارض من تقديم العقل على النقل، وجعله الأصل الأوّل، بل الأصل للكتاب وللسنّة. يقول القاضي عبد الجبار «فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول»، فالمحكمات تزيل ما اشتبه معناه من نصوص الصفات باعتبار أن المتشابه هو «ما خرج ظاهره عن أن يدل على المراد» . فإذا وقع التعارض بين العقل والنقل، يجب التصرف في النقل بما يلائم العقل ويتفق معه، وإلا قدّمت الأدلة العقلية على ظاهر النصوص، وأحسن الظن بالنصوص بأنها: مما يراد به الابتلاء، لا اعتقاد ما دلت عليه. فإذن، تتوقف العملية التأويلية هنا على العناصر التالية: الإيمان بقيمة العقل. أولوية اليقين على الظن. ظواهر النصوص ظنية الدلالة. الاعتقاد لا يثبت بخبر الآحاد. الإيمان بوجود المجاز في القرآن. إمكان وقوع التعارض بين العقل والنقل. أولوية العقل على النقل في صورة التعارض. وقد تحفظ المعتزلة في الاستدلال بظواهر الكتاب والسنّة في الاعتقاديات، لإفادتها الظن، ولا مكان للظن في العقائد. ومن جهة أخرى اقتصروا على المتواتر، إلاّ قليلاً، من الحديث، فساهم ذلك في تضييق دائرة النقل، والتوسعة في المنحى العقلي في الإثبات والنفي، وبذلك أخضعوا النصوص للتأويل كونه هو المفيد لليقين العقلي. وقد ساق المعتزلة الحجج العقلية واللغوية لتأويل صفة الوجه، والعين، واليد.. بصرفها عن ظواهرها إلى المعاني المجازية لها. ففسروا اليد مثلا بالنعمة والقدرة، معتمدين في تأويلها على قياس الغائب على الشاهد فيما يعرف بقياس المخالفة بين المطلق والمحدود من كلّ وجه. كما تناولوا صفات الأفعال التي يلزم من بقاءها على ظاهرها التجسيم والتشبيه لزوماً عقلياً، فأوّلوا صفة الاستواء والنزول والمجيء والإتيان بمعان تليق بشأن المولى تعالى، لأنه يلزم من بقائها على ظاهرها محدودية الله تعالى في المكان، وكونه جسما يقبل الأعراض، والعقل لا يجيز اتصاف الله تعالى بشيء من ذلك. فلا بد وأن يكون المراد من الاستواء على العرش معنى مجازي تمثيلي هو الاستيلاء وإظهار القدرة، إذ أن الاستواء بالمعنى الحرفي الذي هو الجلوس محال في حقه تعالى: (ليس كمثله شيء). وبهذا يتحتّم اعتماد المجاز حلاً لإشكالية التعارض الظاهري بين النصّ والعقل. وقد اتسع التأويل الاعتزالي ليشمل الصفات الثبوتية أيضاً، كالعالم، القادر، الحي، السميع، البصير، فليس هناك برأيهم صفات على الحقيقة، وإنّما هي كلمات ملفوظة أو مكتوبة ليس لها من معنى أكثر من الوصف. وقد نفوا أن يكون هناك ألفاظ وكلمات في الأزل، ولهذا لم يصف اللّه تعالى نفسه في الأزل. وإذا كان اللّه تعالى في الأزل بلا صفة ولا اسم، فإن كلامه تعالى يكون مخلوقاً له كسائر المخلوقات. وتمثّل هذا القول بالجهم بن صفوان، وتابعه واصل بن عطاء مؤسّس «المعتزلة». ولذلك اتهموا بتعطيل الصفات وعرفوا بالجهمية والمعطّلة</span><span style="font-size: large;">.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>التأويل الأشعري<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يتمثل موقف الأشاعرة في أقرب أشكاله المنفتحة على المحيط من خلال الموقف التأويلي لدى كبار الأشعريين، وهو مجال يشوبه الكثير من التوجس في الموقف الرسمي الذي يرى استحالة أن يصف الله تعالى نفسه بما يلزم منه نقص فيه تعالى، وبالتالي، فإنّ كل ما وصف به الله تعالى نفسه فهو من الثناء على الذات بصفات الجلال والكمال، من ذلك ما وصف به سبحانه نفسه من نزول إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير، واستواء على العرش، ومجيء يوم القيامة.. فهذه الصفات لا بد أن تكون صفات كمال. إن صفة الاستواء مثلاً - والتي يظن المتأوّلون أنّها صفة نقص، وبالتالي ينسبون إلى الله تعالى أنه وصف نفسه بالنقص، ثم ينفونها عنه ويؤولونها - هي في الحقيقة صفة كمال وجلال، وما ذكرها سبحانه في موضع من كتابه إلا مقرونة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها. ولهذا، فإن المسلم إذا سمع صفة وصف الله بها نفسه، أول ما يجب عليه أن يعتقد أن تلك الصفة بالغة من الجلال والكمال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينها وبين صفات المخلوقين، فيؤمن بها على أساس التنزيه. إن كل وصف أسند إلى الله تعالى فظاهره المتبادر منه هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق، فإقراره على ظاهره هو الحق، والعاقل لا ينكر أن المتبادر للأذهان السليمة أن الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته. فلا يلزم من استوائه على عرشه كما قال أن يشبه شيئاً من المخلوقين في صفاتهم، بل استواؤه صفة من صفاته، وجميع صفاته منزهة عن مشابهة الخلق كما أن ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق. وهذا الجواب يطرد في الكل، فإن جميع الصفات من باب واحد بلا فرق بينها؛ والموصوف بها واحد، والصفات والذات من باب واحد، وكما أننا نثبت ذات الله تعالى إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية مكيفة، فكذلك نثبت لهذه الذات المقدسة صفات، إثبات إيمان ووجود، لا إثبات كيفية وتحديد. إن التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إنما يكون مقبولاً فيما إذا كان لدليل صحيح من كتاب أو سنة، إما إذا لم يكن لدليل، أو كان لشيء يعتقد أنه دليل وهو في نفس الأمر ليس بدليل، فهذا من التأويل الباطل الذي نهى عنه الكتاب العزيز. إن الخطأ الذي يرتكبه المتأوّل هو أنه إذا سمع صفة من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه، أول ما يسبق في ذهنه أن هذه الصفة تشبه صفة المخلوق (فيكون فيها مشبهاً)، فيدعوه ذلك إلى أن ينفي هذه الصفة عنه تعالى، إذ لا يليق به تعالى أن يتصف بصفات المخلوق (فيكون فيها معطلاً). وخلاصة هذا النهج المتحفّظ: إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله (ص) من غير تكييف، والإيمان بمعاني ألفاظ النصوص مع التنزيه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق، طلباً للسلامة من ورطتي التشبيه والتعطيل، وإن التأويل مذموم: إذ منه ما هو كفر كتأويلات الباطنية، ومنه ما هو بدعة وضلالة كتأويلات نفاة الصفات، ومنه ما يقع خطأ. هكذا، بدا موقف الأشاعرة متأرجحاً بين التمسك بحرفية الصفات الخبرية تارة، وهو ما نسب إلى متقدمي الأشاعرة كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني، أو التمسك بضرورة التأويل لكل ما أوهم التشبيه تارة أخرى، وهو ما يظهر من متأخري الأشاعرة كإمام الحرمين أبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي والرازي ومن تأخر عنهم. ومهما يكن، فقد استدلّ الأشعري والباقلاني في منهجية البحث حول الصفات الخبرية بالعقل إلى جانب الكتاب والسنّة. وتبنى الجويني والغزالي ومن جاء بعدهما من الأشاعرة تأويل الصفات الخبرية بقسميها، نظرا لعدم صحة الاحتجاج بدلالة النصوص الظنية إلاّ بعد اعتضادها بالدليل العقلي، والتقوا بذلك مع من سبقهم من المعتزلة على مستوى المنهج. وقد عمد الغزالي في تفسيره للصفات الخبرية إلى التفويض تارة والتأويل أخرى، مشدّداً على أن التأويل مذهب العلماء ولا يجوز للعوام الاشتغال به. على أنه ثمة ادعاء بأن ما صرّح به أبو الحسن الأشعري من التمسك بظاهر الصفات الخبرية في كتابه «الإبانة من أصول الديانة» إنما كان تقية لموافقة الاتجاه الحنبلي. وفي المقابل ينسب إلى الجويني في كتابه «العقيدة النظامية» والغزالي في كتابه «إلجام العوام» تراجعهما عن القول بتأويل الصفات لصالح الأخذ بدلالتها الظاهرية . وسواء كان هذا التأرجح متأثّراً في بعض مراحله بسيادة المذهب الأشعري كمذهب رسمي للدولة، الأمر الذي يعطي الأولوية للنقل على العقل، باعتبار أن النقل سلطة وانضباط والعقل معارضة وتمرد، والنقل يحتاج إلى مرجعية ذات سلطة تفسره والعقل يؤسس قواعده بشكل مستقل عن أي سلطة من خارجه. أو كان متأثراً بالضغوط التي مارسها الاتجاه الحنبلي - السلفي في بعض مفاصله، إلا أن الاتجاه الأشعري شهد رغم ذلك منعطفات فكرية هامة امتدت خلالها جسور التواصل ما بين العقل والنقل وإن بشكل محدود، وتبنى فيها الأشاعرة مقولة التأويل القائمة على أساس إنارة متشابه القرآن بردّه إلى المحكم: (منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران: 7، واهتموا بمعالجة التعارض الظاهري بين العقل والنقل، وإحكام المتشابه بردّه إلى المحكم، وذلك من خلال إدخال عامل المجاز على اللغة بمقتضى التناسب في الدلالة ما بين النقل والعقل. وإذا أمكن الاستدلال بالنقل، لكن التعويل على الأدلة العقلية . فإن ما دلائله يقينية يحكم بها العقل، وقد تأيدت بالنقل، فالاعتماد هنا على الأدلة العقلية، وأما النقلية فهي تؤيدها فحسب. وبهذا استند الأشاعرة في تأويل آيات الصفات إلى المجاز، وعلى هذا الأساس نفى ابن رشد التعارض الظاهري ما بين العقل والنقل، وكذلك ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن»، وابن المنير في ردوده على تفسير الزمخشري وغيرهم. ولئن حصل التقاء في المنهج، إلا أن ذلك لم يسمح باختراق الخطوط العقائدية الفاصلة بين الاتجاهات الفكرية المختلفة إلا نادراً جداً، فقد ساهم المنهج الواحد في توكيد الرؤى المتخالفة، كما ظهرت اجتهادات حول الضوابط التي يؤدي الخروج عنها إلى تزييغ التأويل نتيجة فتح بابه على مصراعيه، فيلقي الإمام الشوكاني مسؤولية هذا التزييغ على عاتق التيار الأصولي السني المتمثل بالجويني والغزالي والرازي، إذ «هم الذين وسعوا دائرة التأويل وطولوا ذيوله»، وهذا العجز في التوفيق بين العقل والنقل مرجعه إلى سوء تقدير التأويل كما يرى ابن رشد. ومع ذلك، فإن دائرة التأويل الأشعري ضاقت بما رحبت: إذ تمحور التأويل حول القضايا التي كانت مثار جدل مع المعتزلة، والتي تتعلق بالتوحيد والتنزيه والعدل وخلق الأفعال، واقتصر التأويل على القرآن دون الحديث: فقد أطلق الأشاعرة دائرة مثبتات العقيدة لتشمل أحاديث الآحاد، فجوّزوا على سبيل المثال رؤية الله جلّ شأنه يوم القيامة استناداً إلى بعض أحاديثهم التي بقيت بمنأى عن أي نشاط تأويلي.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="color: #351c75; font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-9172321073616317782010-10-23T21:20:00.001+03:002010-12-25T15:55:52.120+02:00اشكالية العلاقة بين المثقف وعالم الدين<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">تحكم المثقف في عالمنا الاسلامي هواجس النهوض الحضاري، وهي هواجس أكبر من أن يحيط بها مثقف أو يتصدرها طالما أنه لم يع تراثه وعيا كاملا، فلا يتاح له ان يعيش حالة التوازن بين ماض يريد العزوف عنه ومستقبل يطمح اليه، ويتسبب ذلك عادة بالقطيعة مع التراث والتي تتبدى باشكال مختلفة، وهي قطيعة تترسخ معالمها من خلال ما يستوحيه من نظم وافدة لا تنتمي بحال الى هذا التراث. وفي المقابل يتسلح عالم الدين بما يفتقر اليه المثقف من نظم تراثية "شب عليها وشاب". ولكنه مع ذلك قد يقع في اسر هذه النظم بحيث يتعسر عليه ان يتجاوز ما يمكن تجاوزه فيها، ويعود السبب في ذلك الى الطرق التي من خلالها يهضم التراث والتي قد لا تفسح في المجال لمثل هذا التجاوز. ولا اقصد بهذا الاستهلال ان افصح عن لب المشكلة القائمة بين المثقف وعالم الدين بمقدار ما قصدت الى الافصاح عن المراد من المثقف هنا ولو بنحو الاشارة والاجمال ومن دون الدخول في التحديدات المملة، فانه ليس من المفارقات الكبرى ان يقوم عالم الدين بمهمة المثقف أو العكس، ولكن عالم الدين يغدو مثقفا، كما ان المثقف يكون مدفوعا بالحمية الدينية في تلك الحال. ومهما يكن فقد تطرقت فيما يلي الى بعض النواحي التي قد تسلط بعض الضوء على مجالات يظهر فيها الخلاف بين المثقف والعالم الديني بحسب ما تهيأ لي في هذه العجالة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>سطوة الاسس الفكرية<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ان الانسان محكوم في رؤيته للواقع لشبكة من المؤثرات والمنظومات الفكرية التي درج عليها في اثناء تكوينه الذهني. ونظرا لتفاوت المنطلقات والاهداف التعليمية ما بين الحوزة والجامعة، فان الواقع سوف ينعكس في ذهنية المتلقي عموما على اساس من طبيعة هذه المؤثرات التي يخضع لها في فهمه للاشياء، وبالتالي يتبلور فهمه للاشياء بالكيفية التي تشكلت بها ذهنيته الثقافية. ولا فرق في ذلك بين المثقف وعالم الدين، واذا اخذنا بعين الاعتبار طبيعة الاختلاف الجوهري القائم ما بين الدراسات الحوزوية والجامعية بحسب المنطلقات والاهداف وحتى المعطيات المباشرة، فاننا سنفاجأ حين نجد ان المشكلة التي يعاني منها الطرفان واحدة، ولكن مع اختلاف في المنطلقات والاهداف وحدّة التباين في الرؤية ايضا. فالعلم لا يكون علما الا بمقدار ما يلامس الواقع. وبهذا الاعتبار، سوف تقف بين المثقف والعالم الديني من جهة، والواقع الذي ينتمي اليه كل منهما من جهة ثانية فاصلة، هذه الفاصلة يمكن ان نعبر عنها كما يلي :واقع لا ينتمي الى الاسس الفكرية "المستوردة والمعاصرة"، والمطلوب في هذه الحالة تغيير الواقع بما يتناسب مع تلك الاسس كشرط للانطلاق. وتلك هي مشكلة المثقف. وواقع ينتمي الى الاسس الفكرية "التراثية"، ولكن مع وجود مساحة فاصلة تستدعي تطوير الخطاب وتحيينه وتفعيله لمعاصرة الحدث. وتلك مشكلة عالم الدين.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>التخصصية سلاح ذو حدين<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">العلوم الاسلامية متمحورة حول النص، ومن ميزات النص الديني انه شمولي، ونظرا لتعقيد الواقع فان ربط النص بالواقع يستدعي العمل على ايجاد التخصصية في مجال العلوم الدينية. وفي حين يفتقر الواقع التثقيفي الديني عموما الى هذه التخصصية، ويتسم العالم الديني بالشمولية على مستوى الطرح، نجد ان المثقف ينطلق في مجالات التنظير من جانب تخصصي.. وينجم عن ذلك واحدة من الاشكاليات التي تندرج في اطار سوء الفهم. فقد يختلف العالم الديني في وجهة نظره مع المثقف بالرغم من ان المضمون الذي يقدمانه قد يكون هو ذاته، والعكس صحيح ايضا. أو يتفاقم الخلاف حول قضايا لا مبرر للاختلاف حولها، والعكس هنا صحيح ايضا. وفي المقابل، فإن المشكلة قد تنعكس تماما فيما يبدو شبيها بتبادل الادوار، وذلك بسبب من طبيعة المنهج الذي تحتكم اليه الدراسة الحوزوية والجامعية، وبحسب بعض التعبيرات فإن الدارس الاكاديمي ينظر الى الاشياء "نظرة عصفورية"، بينما الدارس الحوزوي ينظر اليها "نظرة دودية"، فالاول ينظر الى العلاقات والروابط القائمة بين التيارات الفكرية بنظرة كلية شاملة في محاولة استجلاء معالمها الرئيسية وذلك من خلال مقارنة اوجه الاختلاف فيما بينها والحدود التي تفصل بعضها عن بعض، ولكن من دون الدخول في المعطيات المباشرة للظواهر المدروسة. بينما يغرق الثاني في المعطيات المباشرة، بحيث تكاد أن تغيب عنه المعالم الكلية الفاصلة بين هذه التيارات الفكرية غالبا، ولكنه يمتلك بذلك وعي الحقيقة في تفاصيلها وهمومها الآنية. وفرق كبير بين التحليق بعيدا عن الارض، وبين الاحتكاك الحميم بها. واذا صح شيء من هذه الفروق الاشكالية – وهي تعبر عن مأزق المثقف بالدرجة الاولى -، فان ملائمة ما بين الفكرين بحيث تنأى هذه الاشكالية جانبا، لا تكاد تتأتى الا من خلال ايجاد التخصصية على المستويين الاكاديمي والحوزوي من جهة، واحاطة كل من الطرفين بالمكونات الفكرية لدى الطرف الآخر فيما يشبه عملية التكامل الفكري بينهما من جهة ثانية على أن ذلك قد يساعد في التخفيف من حدة الإشكالية نوعا ما، دون ان يعني بالضرورة زوالها.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>البعد الايديولوجي في تفسير الظاهرة<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ينظر الى التفسير المادي النافي للتفسير الغيبي، على انه واحد من الابعاد الايديولوجية التي تدخل في نسيج البناء العلمي، بحيث تتشكل على اساسه الهوية العلمية. وهذا يكشف عن بعض وجوه التفاوت في المنطلقات الفكرية بين المثقف وعالم الدين. فحين ينطلق المثقف وعالم الدين لمعالجة قضية ما من قضايا الواقع المعيوش، مثل قضية "الاصابة بالعين" أو "الجن" مثلا، هنا سوف يعمد المثقف الى تحليل هذه الظاهرة على الاسس العلمية، واذا لم يجد لها تفسيرا ضمن النطاق الفيزيائي، أو النفسي التجريبي.. سوف يعمد الى رفض هذه الظاهرة. وهو في رفضه لها لا ينطلق من اسس علمية، فيكفي ان تنتفي القدرة العلمية على سبر اغوار الظاهرة حتى يتبرر بذلك نفيها عن الواقع المقبول لديه! بينما عالم الدين لا يتوقف عند الاثبات المادي المباشر لهذه الظاهرة طالما أن النص قد برر للاعتراف بها، وطالما ان العقل لا يرى استحالتها، وطالما أن العلم القطعي لم ينطق بكلمته بعد، وحتى في صورة افصاح العلم عن رأيه ازاء الظاهرة، فإن الكشف عن البعد المادي لا ينفي وجود البعد الغيبي أصلا. ومهما يكن فإن التعارض هنا – في المعطيات المادية – بين الدين والعلم لا يعدو ان يكون وهميا وغير حقيقي. وهذا يشبه الى حد كبير التعارض الموهوم في مجال العلوم الانسانية، حيث يتم اخراج القضية بصورة صراع ما بين الدين والعلم. وقد يسعى المثقف بدافع من الاعتداد العلمي، الى تقديم تصوراته بصفتها ناجزة ومكتملة، مع انه - وبمقتضى العلمية ذاتها - تميل التصورات العلمية الى ان تكون حيوية، وهذا لا يتأتى الا من خلال تقديم العلم نفسه على انه منهجية وطريقة في البحث لا اكثر.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>الفصل بين الأحكام والموضوعات<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">قد يثير البعض قضية ان الفقيه يعمل على انتاج الحكم الشرعي للواقع من خلال خبراته الأصولية والفقهية، وأن المثقف ينتج الواقع الذي ينطبق عليه الحكم ويحدده، ويرى في هذا تكاملا معرفيا. وهو يسعى بهذا لاجراء نوع من المصالحة التبرعية، كالتي تكون بين الخصوم، بحيث لا تستند الى اساس سليم. فلا ينبغي تبسيط الامر بحجة الحصول على وفاق بين عالم الدين والمثقف، بحيث تتم المصالحة على اساس ما يشبه التعاقد التصافقي، ويتم تبادل الادوار على أساس تكافؤ حصصي. فان مثل هذا التكامل قد ينفع فيما لو كانت المشكلة نابعة من تجاوز كل من الاطراف لمجال اختصاصه والتعدي على مجال اختصاص الآخر. كما هو الحال في نمط تعامل كنيسة العصور الوسطى مع المثقفين. حيث لم تكن الكنيسة تملك رصيدا دينيا مباشرا يخولها الإمساك بالسلطات الزمنية، ومع ذلك فقد نالت نصيبها من السلطان على اساس التعاقد المصلحي الآني. اما في حالتنا نحن، حيث يكون للفقيه اختصاصه الكلي الشامل للاحكام والموضوعات، فإن توزيع الأدوار بالشكل المطروح سوف لن يعدو عن أن يكون أجحافا بحق أحد الاطراف ينعكس أثره سلبا على الواقع بعينه. فقد اعطى التصور الاسلامي للفقيه سلطة تشمل حتى مجالات التشخيص في الموضوعات الكلية.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: red; font-size: large;"><b>الفصل بين التنظير والواقع<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">بنظر المثقف فان تجدد العلوم الدينية هو أمر ضروري لمماشاة الواقع المتغير، بينما يستوجب العالم الديني أن تتبدى العلوم الدينية في نطاق اكثر تماسكا وثباتا. ولأجل ذلك يصر العالم الديني على صياغة علومه الدينية على اساس من علوم الفلسفة والمنطق والرياضيات.. نظرا لما تحظى به هذه العلوم من تماسك. ويرى المثقف ان هذا التماسك يتأتى من كون هذه العلوم تعبر عن فكر مستقل – نسبيا أو كليا - عن الواقع، وبالتالي تتسم هذه العلوم بطابع الهيمنة على الواقع ومحاولة اخضاعه واحتوائه كليا أو جزئيا. ويعزو المثقف التخلف على مستوى الواقع الى هذا التماسك الذي جعل من الدين فكرا غريبا لا يستجيب لمتغيرات الواقع وتحولاته، ولا يشبع طموح الانسان المسلم أو يروي غليله في شيء.. وبالتالي ينبغي ان ترتبط العلوم الدينية بعجلة العلوم الانسانية من اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية.. وهي علوم تتسم بكونها اكثر التصاقا بالواقع من غيرها. وقد يبدو ان مهمة المثقف هنا تتحدد في اطار تفسير الواقع الديني بما يتلائم مع توصيف بنية هذا الواقع بمعزل عن الاهداف المعيارية واطلاق الاحكام. بينما تكمن مهمة العالم الديني في تغيير هذا الواقع بما يسمح له بالتكيف مع ما تصبو اليه النظرية، وذلك بصفته محيطا بأبعاد النظرية الدينية من جهة، ومبلغا رساليا من جهة ثانية. فالمثقف أشبه بالباحث الذي يصف الواقع ويسجل توصيات ذات طابع نقدي، أما زمام التكييف والتغيير فيقع على عاتق العالم الديني. واذا صح هذا الكلام، فان اشكالية العلاقة بين المثقف والعالم الديني تظهر الى السطح بمقدار ما يتجاوز احدهما مجال اختصاصه ليصدر الاحكام فيما هو من مجال الطرف الآخر.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">هذه بعض المقاربات الاولية لرؤى لا تدّعي النهائية في فهمها بالضرورة، بمقدار ما تصبو لتكون مدعاة للحوار والنقاش بين اطراف لا ينبغي أن يجمع بينهم مجرد التعايش السلمي، كي لا نقع في بؤرة الاغتراب عن الواقع، ونصبح على هامش التاريخ والتراث والحضارة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="color: #351c75; font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0tag:blogger.com,1999:blog-8364358630498483486.post-57322200270776121312010-10-23T20:25:00.001+03:002010-12-25T15:58:00.310+02:00الحقيقة وطرائق المعرفة في التراث الفلسفي<div dir="rtl" style="text-align: right;" trbidi="on"><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">يدور البحث حول الخطوط العامة لطرائق المعرفة – في نطاق الفلسفة الإسلامية وما سبقها – وبيان مدى اسهامها في الكشف عن الحقيقة على اختلاف مداليلها، وتحتكم هذه الخطوط في مساراتها إلى اتجاهين رئيسين اشتهر التعبير عنهما بالاتجاه المشائي والاتجاه الإشراقي. وقد لا يروق للبعض تصنيف الفلاسفة وفق هذا النمط الحاد، سيما وأن الفلاسفة الذين يدرجون عادة على رأس قائمة المشائين كالفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي.. لم يكونوا حياديين تماما إزاء النزعة الإشراقية في ممارستهم الفلسفية. إلا أن ما يبرّر اعتماد مثل هذا التصنيف هو اشتغال هؤلاء على فلسفة أرسطو العقلانية، وطغيان المنطق الأرسطي على ما بذلوه من جهود فلسفية، بخلاف الفلاسفة الذين أدرجوا في خانة النزعة الإشراقية، فلم يعتنوا عناية الأوائل باستخراج منطق أرسطو وتنقيحه، بل انصرفوا عنه – جزئيا أو كليا – إلى تشييد موضوعاتهم الفلسفية على أساس كشفي في الغالب، الأمر الذي دفعهم للتشكيك بقيمة المنطق على مستوى إنتاج المعرفة الحقيقية، فإذا كان للمنطق من قيمة بنظر هؤلاء فهي تكمن في التعبير عن التجربة الداخلية لا أكثر، مما يذكرنا بما آل إليه المنطق في العصور المتأخرة، حيث صار يُنظَر إليه باعتباره مجرّد لغة تسعى إلى إحراز الدقة في التعبير بوصفه شكلا من أشكال التفكير. وتقضي الضرورة المنطقية هنا ملاحظة التعدد الحاصل في استعمالات الحقيقة بحسب اختلاف مناهج الفلاسفة، فقد استعمل لفظ الحقيقة بالمعنى اللغوي تارة، وقصد به الشيء الثابت قطعا ويقينا في مقابل المتغير والزائف والمتحول، وهذا المعنى يلتقي مع المضمون الأنطولوجي للحقيقة بوصفها جوهر الأشياء الثابتة والتي تقع في مجال الإدراك العقلي، مقابل الأعراض المتغيرة والمتحولة والزائلة والتي تقع في مجال الإدراك الحسي. ومن ناحية ثانية، فقد استعمل لفظ الحقيقة في الفكر المشائي بالمعنى المنطقي للكلمة والذي يعني الحق والصدق مقابل الباطل والكذب، فالحقيقة هي الحكم المتطابق مع الواقع، أو هي التطابق ما بين الإدراك والمدرَك، وما بين الذهن والعين. فيما استعمل تارة ثالثة بالمعنى الاشراقي، فالحقيقة هي أن يتحقق الإنسان بأسماء الحق تعالى وصفاته، وان تشرق على الإنسان أشعة الحقيقة المطلقة التي هي مجال الإدراك الروحي، فالحقيقة في مدلولها الإشراقي لا تبنى على العلم العقلي الصوري، وإنما يكون لها معنى في نطاق دائرة العلم الحضوري بالوجود. ولأجل هذا التنوع في استعمالات الحقيقة، كان لا بد أن تتنوع طرائق المعرفة – لدى الفلاسفة المسلمين – بما يتناسب والمعنى المنظور للحقيقة، وقد جاءت هذه الطرق على النحو التالي: الحس والعقل والقلب والوحي. ويمكن أن نلحظ هذا التماثل لطرائق المعرفة مقارنة مع الطرق المعهودة في الفلسفة القديمة وعلى مختلف مسارات التاريخ الفلسفي الموروث.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: #c00000; font-size: large;"><b>الحس والعقل<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ثمة نزعة عقلية سيطرت على الاتجاه الفكري الذي ساد في الفترة السابقة على منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، وذلك في السواحل الشمالية الشرقية للبحر المتوسط، حيث تمّ التركيز على العقل باعتباره الوسيلة المأمونة لمعرفة حقائق الأشياء، ولكونه يشكّل أساسا مشتركا بين جميع الناس. بخلاف المعرفة الحسية التي لا تملك القدرة على الغور في الحقائق، كما لا تقوم على أساس مشترك بين الناس، لذلك اقتصرت النظرة القديمة على العقل وحده كأداة للمعرفة، ونبذت بذلك المعارف الحسية[1]. وقد سيطرت هذه النزعة على مجمل الفكر اليوناني – من دون أن يعني ذلك الاستبعاد التام للجانب الحسي من المعرفة – واستثني من ذلك بعض المراحل التي لا تمثل بنظر الكثير حالة صحية من تاريخ الفكر اليوناني، كالمرحلة السوفسطائية التي أحدثت تحولا هائلا في المنهج القديم، صار الإنسان بسببها مقياسا لكلِّ شيء وأساسا للمعرفة. هكذا تمّ تفكيك أسس النظام المعرفي القديم مع جرجياس وقضاياه المعروفة في الشك المعرفي، فلم يعد هناك شيء موجود، ولو كان ثمة موجود لما أمكن لنا معرفته، ولو أمكن معرفته فلا يمكن إيصاله الى الآخرين. وبذلك فقد العقل أصالته في التعرف على حقائق الأشياء. وربما شكّل ذلك استفزازا للفكر اليوناني آنذاك لكي ينشط باتجاه ترميم المعرفة وبناءها على أسس ثابتة لا تقبل التزلزل. مما سمح بانطلاقة ما يسمى «بالمرحلة الذهبية» في الفكر اليوناني، فقد تحدث الفلاسفة قديما وحديثا عن الحقيقة وكيفية إدراكها والكشف عنها، معتبرين أن هذه المهمة هي من وظائف العقل، ولا شأن للحس فيها، فالعقل عند سقراط أداة مأمونة لمعرفة الحقيقة، والمعرفة الحقيقية هي المعرفة التي تنبعث من المدركات العقلية، وتتجاوز العالم المحسوس إلى العالم المعقول[2]، وهكذا أعاد سقراط للمعرفة اعتبارها. والحقيقة المبحوث عنها في إطار ثنائية الحس والعقل ذات طابع أنطولوجي كما تقدم، بحيث يطال جوهر الأشياء التي تقع في مجال الإدراك العقلي، ويتجاوز كل ما هو عرضي متغير وزائل مما يمكن أن يقع في مجال الإدراك الحسي. هذه الحقيقة تتبدى بشكل أوضح مع أفلاطون، الذي تتركز طرائق المعرفة عنده على أربعة أسس هي: الحس والظن والاستدلال واليقين، فالحس يختص بإدراك ظواهر الأشياء والأمور النفسانية، ولا يصلح أن يكون سبيلا إلى المعرفة الحقيقيّة لأنه ينقل لنا الصيرورة الدائمة والتغيّر المستمر، نعم هذه المعرفة تساعدنا على استذكار المثل. بينما يزاول العقل الأفلاطوني نشاطه وفق مستويات ومراحل متفاوتة، هي: مرحلة الظن، وهي مرحلة الحكم على المحسوسات المتغيّرة استنادا إلى ما تم استنباطه من العلاقات القائمة بينها، وهي مرحلة أرقى من الحس، إلا أنه يظلّ معرفة ناقصة غير معلّلة. ومرحلة الاستدلال، وهو أرقى من الظن لأن موضوعه غير حسّي، وأقل من العلم لأنه يستعين بالمحسوسات للوصول إلى موضوعه. وموضوع هذه المعرفة عبارة عن معان كلية، كالمعاني الرياضية والهندسية التي لا تقبل البرهنة برأيه، ولذا يمتنع فيها العلم اليقيني، وتكون في الدرجة الوسطى من المعرفة. ومرحلة اليقين، وهي عبارة عن إدراك عالم المثل. وموضوع اليقين هو حقائق الأشياء، وهي كليات مجردة عن المادة، لا تدركها الحواس ولا يطرأ عليها الفساد والفناء، ولولا تلك المجردات لاستحال وجود العلم اليقيني في شيء من الأشياء، ولامتنع الإنتقال من النسبي إلى المطلق، ومن الناقص إلى الكامل. وحصول المعرفة يكون بالإنتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المعقولات الأولى إلى المعقولات الثواني، للوصول إلى مبدأ المعقولات كلها وهو مبدأ الخير. والعقل يحصل على المبادئ الأولى استنادا إلى العلوم الجزئية، ثم يهبط منها إلى هذه العلوم فيربطها بمبادئها، ثم إلى المحسوسات فيفسرها. ومن خلال هذا الجدل الصاعد والجدل الهابط تتم عملية المعرفة عند أفلاطون. وأما أرسطو – الذي بنى نظريته في المعرفة على الحس والعقل والحدس – فيرى في المعرفة الحسية معرفة مباشرة تكشف لنا الطبيعة من أقرب الطرق، ويتم ذلك عن طريقين: الإحساس الظاهر بواسطة الحواس الخمس، والإدراك الباطن. والإدراك الباطني يحصل من خلال ثلاث قوى باطنية: الحس المشترك: وهو مركز تتجمّع فيه صور المحسوسات مما يسمح بالتأليف والمقارنة بينها. والمخيّلة: وهي قوة تجتمع فيها صور الأشياء بعد غياب مادتها من العضو الحاس. والذاكرة: وهي قوة تسمح باستعادة الصور، فلا تختلف عن المخيّلة إلا في نسبتها إلى الزمان الماضي. ويمتنع أن يكون العقل عند أرسطو مختلطا بالجسم، فالمعرفة العقلية أرقى من الحس، ووظيفة العقل تختلف عن وظيفة الحواس، وكما تتأثر الحواس بالصور الحسية في علاقاتها الزمانية والمكانية، فإن العقل يتأثر بالصور العقلية المجردة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان. وقد ميّز أرسطو بين قوتين في العقل: قوة منفعلة قابلة لتلقي جميع المعقولات، ويسميها بالهيولات. وقوة فاعلة تخرج المعاني الكلية من الجزئيات وتظهرها كما يظهر ضوء الشمس للألوان من الظلام، ويحولها إلى الوجود بالفعل في العين الإنسانية. وبحسب أفلوطين، تتعدّد طرائق المعرفة إلى أربعة هي: المعرفة الحسية، والمعرفة العقلية، والمعرفة بالمبدأ العقلي، والمعرفة الروحية. وتنهض نظرية المعرفة عنده على أساس الوجود، إذ الوجود قسمان: العالم المحسوس، والعالم العقلي. والعالم المحسوس هو ظل وانعكاس للعالم العقلي الحقيقي. وتتم المعرفة الحسية عند أفلوطين بواسطة الحواس الخمس، وتختص بما هو ظاهري وخارجي. أما المعرفة العقلية فهي أعلى درجة من المعرفة الحسية لاختصاصها بالمعقولات، ووظيفة العقل هي تجريد الصورة عن المادة وتعيينها.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">وأما في الجانب الاسلامي فنجد الكندي يقسّم الإدراك إلى قسمين: حسّي وعقلي، ويعرّف الإدراك الحسّي بأنه تصّور يحصل بواسطة الحواس عند مباشرة الحسّ لمحسوسه. والمعرفة الحسية تتم باستمرار، ولكنها غير ثابتة؛ لأن موضوعها يتغيّر ويفسد دائما، ويتعرّض لأنواع الحركات والزيادة والنقصان. ويتمثل موضوع المعرفة الحسّية في النفس الإنسانية من خلال تجمّع صور الأشياء في المصوِّرة، والتي تؤديها بدورها إلى الحافظة. وفي مقابل الادراك الحسي الذي هو تصور، هناك الإدراك العقلي الذي هو بنظر الكندي تصديق، ويميّز الكندي الإدراك الحسّي عن الإدراك العقلي في أن موضوع الأخير هو الأشياء الكليّة من أجناس وأنواع، بخلاف موضوع المعرفة الحسّية التي هي الجزئيّات أو الأشخاص الهيولانية. وإذا كانت الأشخاص أو الجزئيّات متمثّلة في النفس، فإنّ كل ما هو معنى نوعي وما فوقه ليس متمثّلا للنفس بل هو مصدّق أو محقّق بفضل المبادئ والأوليات العقلية الضرورية، كالتناقض، والذاتية، والتساوي.. الخ[3]. ويجعل الكندي العقل على أربعة أقسام: العقل الذي بالفعل أبدا وهو العقل الأول أو الله. والعقل الذي هو بالقوة. والعقل بالفعل الذي خرج في النفس من القوة إلى الفعل بتأثير العقل الأول. والعقل الظاهر الذي تخرجه النفس فيكون موجودا لغيرها منها بالفعل. أما الفارابي فتتنوع طرائق المعرفة عند إلى أربعة، هي: الحس، والعقل، والخبر المنزل، والقلب[4]، والمعرفة الحسية عنده مركبة من فعل بدني وفعل نفساني، وكونها فعلا بدنيا يقتضي اتصال الإنسان المباشر بالأشياء والمحسوسات، أما كونها فعلا نفسانيا؛ فلأنّ الإحساس ذاته فعل نفساني. ولا تحصل المعرفة لدى الإنسان بمجرد مباشرة الحس للمحسوسات، بل بعد تدخّل قوى نفسية متعددة، فإن الحس يباشر محسوسه فتحصل صورها فيه ويؤديها إلى الحس المشترك حتى تحصل فيه فيؤدي الحس المشترك تلك الصور إلى التخيّل، والتخيّل يرفعها إلى قوة التمييز ليعمل فيها تهذيبا وتنقيحا ويؤديها منقّحة إلى العقل. وبذلك يكون الفارابي قد جمع بين اكتساب المعرفة من خلال الحس الظاهر، والحس الباطن، وأوصلها إلى المعرفة العقلية. ومراتب العقل النظري عند الفارابي هي: العقل المنفعل، أو الهيولاني، أو بالقوة، وهو العقل قبل أن يحصل فيه أي إدراك. والعقل بالفعل، أو بالملكة، وهو العقل بالقوة لكنه قد أدرك معقولات منتزعة من المادة، ويتم هذا الإدراك بتوسط العقل الفعال الذي يجعل العقل بالقوة عقلا بالفعل. والعقل المستفاد: وهو العقل بالفعل الذي استكمل بالمعقولات كلها أو جلها، فأصبح أشد مقارنة للمادة، ليس بينه وبين العقل الفعال شيء. وبواسطة العقل المستفاد يفيض العقل الفعال مقولات على العقل بالفعل، ثم على المتخيلة، فيكون الإنسان فيلسوفا بما يفيض على عقله، ويكون نبيا بما يفيض على متخيلته. وفي المسار ذاته تتشكل طرائق المعرفة عند ابن سينا من أربعة، هي: الحسّ، العقل، القلب، النّص. والحس عنده أول درجات الفهم الإنساني، ويختصّ بما هو خارجي. ويتمّ الإدراك الحسّي بواسطة أعضاء الحسّ الخارجي كاللمس والشّم والذّوق والرؤية. ويرى ابن سينا أنّ الحواس تدرك الموجود الجزئي المحسوس بصورته ومادته، لأننا لا نستطيع التمييز بين الصورة والمادة، فالحسّ لا ينزع الصورة عن المادة من جميع لواحقها. ويختص العقل من بين طرائق المعرفة بالمعاني الكلية المجردة عن المادة، ومهمة العقل تجريد الصورة عن المادة، ثم جمع الأشياء المختلفة في نسق واحد، ويؤلف من كل مجموعة من الأجناس والفصول معنى واحد. وبهذا يظهر أن ابن سينا ميّز بين موضوع العقل وموضوع الحس، فأعطى لكلٍّ منهما مجاله، ولم يجعل الحس صورة منعكسة للعالم العقلي كما فعل أفلوطين. ومراتب العقل تصبح عند ابن سينا كالتالي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد[5]. أما بالنسبة لكيفية اكتساب المعرفة، فيرى ابن سينا أن المعرفة الحسية تتم بواسطة انفعال الحاسة بمحسوسها، فاليد تحس بالحرارة والبرودة، والبصر ينفعل عن لون المبصر، وهكذا وهذه هي المرحلة الأولى. ثم يلي هذا مرحلة تميز المحسوسات التي تتم داخل الحس المشترك، كأن يكون ملموسا، أو مشموما، أو غيره. ولا يتم هذا التمييز إلا من خلال الصور المحفوظة في الخيال، ومعنى ذلك أن الحس الباطن من اختصاصه أن يركّب ما اجتمع في الحس المشترك من الصور، وأن يفرّق بينهما، ويوضح فيها الاختلافات، من غير أن تزول الصور من الحس المشترك. ثم يلي ذلك مرحلة التركيب لتلك الإحساسات، فيتكون لدينا رأي حسي، ويرى ابن سينا أن نهج اكتساب المعرفة الحسية هو المنهج الاستقرائي القائم على استقراء الجزئيات المحسوسة ومن هذا الاستقراء يصل إلى العلم اليقيني. والمبادئ التي منها يتوصل إلى العلم اليقيني برهان واستقراء، ولا بد في استناد الاستقراء إلى الحس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحدس لا يخرج عند أرسطو عن الاستدلال، ولهذا نجده يربط بين الحدس وحسن الذكاء والفهم في كشفه عن الأوساط، بينما يجعل أفلاطون الحدس في مقام أعلى من الاستدلال؛ كون الحدس يشكل معرفة مباشرة لعالم المثل[6]. أما أفلوطين فيجعل المعرفة بالمبدأ العقلي أعلى درجة من الفهم العقلي، لأن من شأنه أن يدرك الموجودات الحقيقية، وهي تتحقق دون أن تدخل في الزمان، بل تحصل في لحظة خاطفة، مما يعني انه يوجد فيها شيء من المعرفة الحدسية العالية التي تعتمد على الإلهام. يتضح مما سبق أن الفلاسفة المسلمين اشتغلوا على مادة معرفية غنية تهيأت لهم بواسطة النقل الحضاري الذي شهده قرنهم الثاني وما تبعه، وهي مادة ترى في العقل أداة مأمونة لمعرفة الحقيقة، فالمعرفة الحقيقية هي المعرفة التي تنبعث من المدركات العقلية، وتتجاوز العالم المحسوس إلى العالم المعقول، وتتجاوز المعقولات الأولى إلى المعقولات الثواني، وصولا إلى مبدأ المعقولات كلها وهو مبدأ الخير. والعقل – كما وصل إلى المسلمين – يتأثر بالصور العقلية المجردة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، ويمتلك مراتب أربعة، ويكون قوة فاعلة تخرج المعاني الكلية من الجزئيات وتظهرها كما يظهر ضوء الشمس للألوان من الظلام، ويحولها إلى الوجود بالفعل في العين الإنسانية. ويغلب على التقسيم الرباعي للعقل اتّباع تفسير الإسكندر الأفروديسي لكتاب النفس لأرسطو، وقد قبِلَ الفارابي وابن سينا هذا التقسيم الرباعي الذي ظلّ عنصراً ثابتاً في نظريات علم النفس لدى الفلاسفة المسلمين حتى زمان ملا صدرا والسبزواري[7]. وقد كان لكتاب «أثولوجيا» لأفلوطين اسهاما واضحا على مستوى تشكيل النظام المعرفي في إطار الفلسفة الاسلامية في مراحلها المتأخرة، فكان لهذا الكتاب أثر كبير على ملا صدرا الشيرازي حيث استفاد منه في مسائل حركة الجوهر، واتحاد العاقل والمعقول، وعلم الحق، وما يتعلق بالمعاد الجسماني، واتحاد النفس بالعقل الفعال، ووحدة الوجود. هذا مع العلم أن الشيرازي أشار إلى ذلك الكتاب معتقداً أنه لأرسطو. وينبغي أن ندرك بجلاء أن انتظام ثنائية الحس والعقل في الفلسفات المتعاقبة، والذي يعتبر العقل أساس فيه، يرتهن في واقعه الى الاسس المنطقية الصورية التي تلقي بظلالها على كامل بنية النظام المشائي.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="color: #c00000; font-size: large;"><b>المعرفة الروحية<br />
</b></span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">وهي المعرفة الذوقية التي تحصل بالإلهام دون واسطة من حس أو عقل، وهي الحكمة الروحية التي نطق بها الحكماء الأقدمون، وتكفل بشرحها الفلاسفة المتأخرون، اذ مهمة الفلسفة هنا هي الشرح والبيان. ويعدّ القرن الثالث الميلادي عصر الشرّاح[8]، وأفلوطين نفسه كان من هؤلاء الشرّاح، فهو يقول في التاسوعات: «يجب أن نعتقد أن الفلاسفة القدماء.. قد اكتشفوا الحقيقة»[9]، و«نظرياتنا ليس فيها جديد، وليست من اليوم، فقد أعلنها (الفلاسفة القدماء) قبل وقتٍ طويل، ولكن دون أن يتبسطوا فيها، ولسنا نحن إلا شرّاح هذه المذاهب القديمة»[10]. والمعرفة الحقيقية عند أفلاطون ترتكز على اليقين، واليقين هو عبارة عن إدراك عالم المثل. فمعرفتنا بالأشياء هي في الحقيقة تذكر للمثل، كما أن الجهل هو نسيان لها، والبحث عن الحقيقة بنظره لا يعدو إيقاظ النفس وإثارة ما يوجد فيها بالطبع، وقد اشتهر عن أفلاطون قوله: «العلم تذكر والجهل نسيان»[11]. ويعتبر أفلوطين أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة الروحية، وهي أعلى درجة في المعرفة، وهي تحصل لبعض الأشخاص الذين يتميّزون بنفاذ بصيرتهم، فتشملهم العناية والإشراف الإلهي، فيرتفعون بسبب هذه المعرفة إلى العالم الأعلى، وطريق هذه المعرفة هو الوجدان والحدس المباشر في إدراكه للحقيقة المطلقة (الواحد)، والوصول إلى هذه الحقيقة يتطلب اتباع سلوك أخلاقي معين يعين المرء على الوصول إلى الإتحاد بالواحد فتنكشف له الحقيقة في لحظة حدس خارجا عن الزمن دون جهد أو عناء، وكأنه ضوء خاطف في لمح البصر يملأ قلب المحب بالحقيقة المطلقة[12]. ويشير الفارابي إلى أن الروح بها قوى أخرى لا تتصل بفعل العقل النظري؛ لأنها من السّر وليست من العلن، ولا تبدو وتتبيّن إلا بتخلّص الفرد من جانبه الظاهري، أي من الغضب والشهوة، للتحقّق بمعرفة لدنية عليا[13]. ويعتبر الفارابي صاحب فلسفة إشراقية حين يعتمد على القلب في التعرف على بعض الحقائق، كما يظهر في بعض أجزاء كتابه «فصوص الحكم»[14]. أما ابن سينا فيرى ان القلب هو مصدر المعرفة الذوقية. ومثل هذه المعرفة لا تحصل إلا لأصحاب النفوس الطاهرة والقلوب الصافية التي تتلقى عن الله دون واسطة من حس أو عقل، فتشرق عليهم الأنوار القدسية، فيسعدوا بها سعادة أبدية. والذي يعين على ذلك هو التفكر في الله دون سواه، وعشقه عشقا منزها، ولا يمكن هذا العشق بأداة غير القلب. وأما نضوج التمثّل الفلسفي للإشراق في الفكر الإسلامي فيظهر في شخصيّة السهروردي الذي طلع علينا برؤية فلسفية تختلف في منطلقاتها وتوجهاتها عن المرحلة المشائية. هذه الرؤية تنبعث من التاريخ «الإشراقي» القديم الذي تفتّحت براعمه مع حكماء الفرس القدماء وأفلاطون وغيرهم كما يخبرنا السهروردي نفسه. ذلك أن النفس الناطقة عنده سابقة على هذا العالم، وقد هبطت إليه لكي تستكمل بالعلوم والمعارف الحقيقية، فالعلوم تنقسم برأيه إلى قسمين: حقيقية، وعرفية اصطلاحية. والعلوم الحقيقية هي ما لا يتغيّر العلم به لعدم تغيّر المعلوم، وأما العلوم العرفية الإصطلاحية فما يقابل العلوم الحقيقية، فيتغير العلم بتغير المعلوم. والكمال الحقيقي إنما يحصل بالعلم الحقيقي الثابت بحسب ثبات معلومه. والعلوم الحقيقية بدورها تنقسم إلى قسمين: ذوقية كشفية، وبحثية نظرية. والعلوم الذوقية هي عبارة عن معاينة للمعاني والمجردات، وذلك على سبيل المكافحة لا بفكر ونظم دليل قياسي، أو نصب تعريف حدّي أو رسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية متفاوتة تسلب النفس عن البدن وتتبيّن معلّقة، تشاهد مجرّدها، ويشاهد ما فوقها مع العناية الإلهية. وهذه الحكمة الذوقية قلّ من يصل إليها من الحكماء[15]. وينقل السهروردي في كتابه «التلويحات العرشية» رؤية كان قد رآها، حيث كان موضوع المعرفة يقلقه ويشكّل هاجسا بالنسبة إليه، ويذكر ما مفاده: «أني كنت أفكّر كثيرا في مسألة تتعلّق بالعلم، وكانت هذه المسألة بالنسبة لي صعبة الحلّ، إلى أن رأيتُ في منامي المعلّم الأوّل أرسطو، فسألته مسألتي. فأجاب بقوله: إرجع إلى نفسك سوف تُحَلّ مسألتك»[16]. ويلحظ هنري كوربان أن أرسطو الذي يتحدّث إليه السهروردي هو أرسطو أفلاطوني صريح، حيث يشير بوضوح إلى معرفة النفس بذاتها إذ النفس في جوهرها حياة، نور، ظهور، شعور بذاته. فهو علم حضوري شهودي وإشراق حضوري تشرق به النفس على الموضوع. وذلك في مقابل العلم الصوري المنطقي. ثم ينقل السهروردي أن أرسطو أخذ يثني على أستاذه أفلاطون ثناء تحيّرت فيه، فقلت: وهل وصل من فلاسفة الإسلام إليه أحد؟ فقال: ولا إلى جزء من ألف جزء من رتبته. وحين أخذ السهروردي بذكر فلاسفة الإسلام وذكر منهم أمثال بايزيد البسطامي وسهل التستري من المتصوّفة الكبار قال أرسطو مستبشرا: هؤلاء بحق هم الفلاسفة والحكماء الذين لم يتوقّفوا عند العلم المتعارف بل وصلوا إلى العلم الحضوري والشهودي[17]. ولا ينسى السهروردي أن يقحم المنهج الإشراقي حتى في تقسيماته المنطقية، فيرى أن معارف الإنسان تنقسم إلى معارف فطرية ومعارف غير فطرية، والمجهول إذا لم يكفِ في معرفته التنبيه والإخطار بالبال؛ كما في الضروريات، أو لم يحصل التوصّل إليه بالمشاهدة الحقة والرياضات والمجاهدات؛ كما هو الحال بالنسبة للحكماء العظماء، فحينئذٍ لا بد له من معلومات موصِلة إليه ذات ترتيب موصِل إليه منتهية في التبيّن إلى الفطريات[18]. وبهذا الاعتبار يجعل السهروردي العلم على قسمين: نور لنفسه. ونور لغيره، وهذا الغير يكون نورا لنفسه. وعلم الشيء بنفسه عبارة عن كونه نورا لنفسه. وعلم الشيء بغيره عبارة عن إضافة نورية بين شيئين نوريين. فيرجع العلم الأول إلى العلم الحضوري، والثاني إلى العلم الحصولي الصوري. وبذلك يؤسّس السهروردي لمنهج جامع، يجمع بين الذوق الكشفي والنظر العقلي، وهو المرتكز الذي استند إليه الشيرازي في مزاولته للبحث الفلسفي، إذ إن «إدراك هذا العالم يحتاج إلى قياس صحيح وكشف صريح، وكل واحد منهما له موانع ومغالط فيه شبه وشكوك يعسر على أكثر البشر التخلص منها، ولهذا قال أرسطو: من أراد أن يشرع في علمنا هذا فليستجد فطرة أخرى»[19]. بعد السهروردي، قام تلميذه الوحيد شمس الدين الشهرزوري بوضع شرحا على كتاب «حكمة الاشراق»، واستفاد من هذا الأخير كل من ابن كمونة (ت1284م) شارح التلويحات. وقطب الدين الشيرازي الذي شرح كتاب «حكمة الاشراق» عام (1295م). ويمكن أن نرصد خلال الفترة الممتدة بين السهروردي والشيرازي بعضا من المشتغلين على المادة الاشراقية أو العاملين بوحي من إشراقاتها، كالمحقق الطوسي، وابن عربي وشراحه، ومحمد ابن أبي جمهور، وجلال الدين الدواني، وغياث الدين منصور الشيرازي، وودود التبريزي، وميرداماد وغيرهم[20]. وهكذا فقد دسّ السهروردي بذور الإشراق في الذهنية الإسلامية العامة آنذاك، مما ساعد الذين جاءوا من بعده على استنباتها، تماما كما فعل الشيرازي ومعاصروه وأتباعه فيما بعد، حيث وجدت هذه البذور تربة صالحة لنموّها تحت ظلال الحكمة المتعالية، فقد استلهم صدرا الشيرازي التراث الإشراقي من خلال مناقشة حكمة الإشراق، وصوفية الغزالي، وعرفان ابن عربي، ما جعله على مفترق الطرق إزاء النزعات المختلفة آنذاك، وساعده كل ذلك في ترسيخ البناء النظري للمنهج الجامع في حكمته المتعالية. لاشك أن هذه النزعة الإشراقية قد اقتبست من مشكاة العرفاء الأوائل الشيء الكثير. كما وتعايشت هذه النزعة مع الإمتدادات اللاحقة لهذا العرفان خصوصا في أشكاله المتعاقبة مع مولوي الرومي، وابن عربي، والقونوي، وحمزة الفناري، وملا عبد الرزاق الكاشاني، وابن تركة الأصفهاني، وعين القضاة الهمداني، وعز الدين الكاشي وغيرهم من العرفاء. وقد بلغ من تأثير ابن عربي في اللاحقين أن ملا صدرا الشيرازي كان في كثير من كتبه يستشهد بكلامه لتأييد موضوعاته حتى كأن كلامه في هذا المجال وحي منزل. ولا يفوتنا أن نذكر ما قدمه الغزالي من إسهام على مستوى تنقيح المعرفة اليقينية والتي تتم من خلال الكشف، فاليقين عنده هو حالة لا يبقى معها مجال للشك بحيث يتعين على العقل أن يعرف الحقيقة، وهذا اليقين يفيده البرهان الحقيقي، ولكن مستنده هو النور الإلهي الذي أتيح للغزالي من خلال الكشف والمشاهدة. وفي سبيل الكشف عن الحقيقة رفض الغزالي جدليات المتكلمين كطريق موصل إلى هذه الحقيقة، وكفّر الفلاسفة، ونبذ الباطنية، وانتهى إلى التصوّف الذي رأى فيه خَلاصه إلى الحق. وبعد عزلة قضاها في سبيل ذلك انطلق إلى مجال التدريس والتبليغ. ومن هنا يوجد شبه كبير بين سيرته وسيرة صدرا الشيرازي بحيث أن الأخير لا يخفي مدى تأثّره بالغزالي كما يظهر في بعض رسائله ﻛ رسالة الأصول الثلاثة التي تضمّنت نصوصا مقتبسة من كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي، كما يتضمّن معالجة لإشكالية العلم يظهر فيها تأثرا واضحا بأسلوب الغزالي. إذن، فقد استنار المسلمون من عقلانية الفلسفة السابقة عليهم، كما استفادوا أيضا من روحانية السابقين وإن في ثوبها الفلسفي والنظري، فما لم نبلغ إلى اليقين فلا يمكن أن نبصر حقائق الأشياء، بل إن البحث عن الحقيقة لا يعدو إيقاظ النفس وإثارة ما يوجد فيها بالطبع. فالمعرفة الحقيقية هي المعرفة الروحية، وطريق هذه المعرفة هو الوجدان والحدس المباشر، وهو يتطلب اتباع سلوك أخلاقي معين من شأنه أن يملأ قلب المحب بالحقيقة المطلقة. وتعتبر الفلسفة الاسلامية بشقيها المشائي والاشراقي امتدادا حقيقيا واصيلا لجميع الانشطة الفكرية التي مارسها الانسان على مدى التاريخ الفلسفي القديم. وينبغي أن نشير إلى الأهمية التي أولاها المسلمون للمعرفة النقلية بالخصوص، فالمعرفة برأي الكندي لها طريقان: أحدهما طريق العقل، والآخر طريق الوحي. وهذان الطريقان يوصلان إلى حقيقة واحدة. فيما يرى الفارابي أن الخبر المنزل هو أمر يقوم على الإيمان؛ وموضوع إيمان المؤمنين هو الخبر المنزل الذي يعتبر مصدرا لمعارف منزلة من عنده سبحانه وتعالى تفوق ما في مقدور العقل البشري أن يصل إليه. وقد عدّ ابن سينا النص الديني في مصادر المعرفة، واستخدمه كثيرا، كما في استدلاله على وجود الله ووحدانيته، حيث استدل بقوله تعالى في الكتاب الكريم: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ) فصلت: 53، وهذا حكم لقوم، ثم يقول بعد ذلك: ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) في نفس الآية، وهذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به، لا عليه.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ومجمل القول، أن الحقيقة في الفكر المشائي عبارة عن تطابق الإدراك مع المدرَك، والحقيقة بهذا المعنى تتفاوت على مستويات متعدّدة لا تتجاوز صعوداً المستوى العقلي الذي يُعتبر أرقى أنواع المعرفة الممكنة ضمن منظومة الفكر المشائي، ويمكن للحقيقة أن تتمثّل بعد ذلك في مستويات أخرى متدنّية داخل دائرة العقل وخارجها، فنجد في الدائرة العقلية مستويات متفاوتة كالعقل المستفاد والعقل بالملكة والعقل الهيولاني، وفي خارج هذه الدائرة يقبع الوهم والخيال والحس. والعلم في هذا النطاق هو حصول صورة المعلوم في الذهن، وقد تمرّ هذه الصورة الذهنية في مراحل متفاوتة وتخضع للتهيئة والإعداد المناسبين على مستوى التجريد قبل أن تصبح في متناول الذهن. وبحسب المنحى المشائي هذا، فإن هذه الصورة تظهر بوضوح تام في مرحلة الحس، ثم تزول بعض معالمها في مرحلة الخيال، وهكذا تفتقد الصورة شيئاً من وضوحها ورونقها كلما ارتقت إلى مرحلة من التجريد أعلى حتى تصل إلى مرحلة العقل حيث تفقد شفافيتها وتتحوّل بذلك إلى مفهوم ضبابي قابل للتعميم. ويتمّ ذلك من خلال عملية تجريد وانتزاع ذهنيين، أو من خلال عملية التبديل والإنقلاب. والعقل هنا يقوم بعمل خلاّق إذ يخلق هذه الصورة ويبدعها نتيجة لحصوله على ملكة الخلق والإبداع بوقوفه على الصور الخيالية والحسيّة. وفي المقابل تختلف الحقيقة في مدلولها الإشراقي عنها في مدلولها المشائي، فالحقيقة هنا ليست تطابقا ما بين الذهن والعين، وهي لا تبنى على العلم العقلي الصوري، وإنما يكون لها معنى في نطاق دائرة العلم الحضوري بالوجود. وهي كشف المحجوب وتجلي الوجود من وراء الحجاب. وهذا إنما يتم في حال حضور الإنسان في مقام الوجود، وليس فيما كان الوجود حاصلاً في مقام الذهن فحسب. ومن هنا تنشأ المعرفة الحقيقية. والحقيقة بهذا المعنى سابقة على أرسطو، ولذلك نجد ملا صدرا الشيرازي يمجّد فلاسفة الإغريق السابقين على أرسطو. من هنا لم يعد النزاع منحصراً في نطاق إمكانية المعرفة أو عدمها، ولا في نطاق الأولوية التي يحتلها الإدراك الحسي على الإدراك العقلي أو بالعكس. بل صارت المعرفة تتمثّل في أرقى مستوياتها بالسلوك الخاص الذي يقود إلى الكشف عن سرّ الوجود. وكشف الوجود معرفياً يمر عبر الانتقال من المحسوس إلى المتخيّل، ومنه إلى المعقول، ولكن لا على أساس الإنتزاع والتجريد، حيث تشكّل المسيرة المعرفية نوعاً من التراجع القهقري على مستوى وضوح الصورة وضبابيتها. وإنما على أساس الاستكمال والارتقاء بحيث يغدو المعقول أقوى وجوداً من المتخيل والمحسوس. فالصور العقلية ما هي إلا إشراقات الحقائق. والصور الحسية والخيالية ما هي إلا معدّات للنفس لكي تستشرق هذه الحقائق والمثل المفاضة عليها من العالم النوراني. وعملية المعرفة في النظام المشائي أشبه بعملية الخلق البشري، بينما هي في النظام الإشراقي أشبه بعملية الخلق الإلهي. والمعرفة في الفكر المشائي هي عبارة عن وعي خلاّق للنفس، وفي الفكر الإشراقي هي عبارة عن اقتراب من مصدر الحقيقة. وهذا الإقتراب يفترض ضمناً موقفاً اغترابياً للنفس يجعلها تسعى إلى إعادة التواصل مع الحقيقة من خلال عملية المعرفة نفسها. ومن هنا يَعتَبِر الشيرازي أن المعرفة العقلية ليست إبداعاً وخلاقية بمقدار ما هي عملية ترقّ وتكامل من درجة إلى أخرى أكمل وأكثر تجرّداً من سابقتها. وربما كان الشيرازي الأكثر انسجاماً من بين الإشراقيين مع هذا التوجه بسبب ارتكاز نظريته في علم النفس الفلسفي على كونها جسمانية الحدوث روحانية البقاء. إلا أن الذي يبرّر لسائر الإشراقيين ذهابهم هذا المذهب هو اعترافهم بنوع من أسبقية النفس على البدن ما يفسّر سر غربة النفس وحنينها إلى معاودة الإقتراب من مصدر الحقيقة.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[1] انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، د. محمد عبد الرحمن مرحبا، ط1، بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993م. ص162.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[2] انظر: محاضرات في الفلسفة الإسلامية نظرية المعرفة، د. محمد محمد الحاج حسن الكمالي، ط1، اليمن، صنعاء، مؤسسة الفاو، ص201.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[3] الرسائل الفلسفية (الفلسفة الأولى)، الكندي، طبعة عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1953، ص106 – 112.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[4] محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الكمالي، ص141.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[5] الإشارات والتنبيهات، ابن سينا، ط1، قم، مؤسسة نشر البلاغة، 1375 ﻫ ش ج2 ص367.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[6] محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الكمالي، ص131. أيضا: تاريخ الفلسفة اليونانية، د. محمد عبد الرحمن مرحبا، ص284-285.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[7] ثلاثة حكماء مسلمين، سيد حسين نصر، ص165 تعليق رقم (5).<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[8] حيث تم العمل على شرح أفلاطون، كما شرح الاسكندر الأفروديسي أعمال أرسطو.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[9] (3، 7، 1، 13) الرقم الأول رقم التاسوعة، والثاني المقالة، ثم أرقام الفقرات.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[10] (5، 1، 9).<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[11] تاريخ الفلسفة اليونانية، محمد عبد الرحمن مرحبا، ص232.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[12] ) محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الكمالي، ص135.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[13] الفلسفة العربية مشكلات وحلول، د. علي أبو ملحم، بيروت، مؤسسة عز الدين، ط1، 1994م. ص174-175. أيضا: الفارابي المعلم الثاني، عبده الحلو، ط2،، بيروت، بيت الحكمة، 1977. ص39.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[14] الفارابي المعلم الثاني، عبده الحلو، ص51.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[15] شرح حكمة الاشراق، شهرزوري، ط1، تهران، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، 1372 ﻫ ش ص4.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[16] مجموعة تأليفات شيخ الاشراق، تحقيق هنري كوربان، تهران، 1355 ﻫ ش ج1، ص73 و 79.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[17] تاريخ الفلسفة الإسلامية، هنري كوربان، بيروت، منشورات عويدات، 1966 م ص311، 312.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[18] شرح حكمة الاشراق، ص50.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[19] م. ن. ص17.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit; text-align: justify;"><span style="font-size: large;">[20] تاريخ الفلسفة الإسلامية، هنري كوربان، ص327.<br />
</span></div><div style="font-family: inherit;"><span style="font-size: large;"><br />
</span></div><div style="color: #351c75; font-family: inherit; text-align: left;"><span style="font-size: large;">ha.ye.ba</span></div></div>hasanyehyahttp://www.blogger.com/profile/16980568533432068414noreply@blogger.com0