السبت، 23 أكتوبر 2010

الدين والأخلاق ونظرية النسبية (المطهري – الطباطبائي)

يتسم الفعل الانساني بالسمة الاخلاقية من جهة كونه فعلا مكتسبا يضفي عليه الناس قيمة معنوية تسمو به فوق المعايير المادية، وتجعله يحوز على قابلية تؤهله للمدح والثناء والتكريم، وتخرجه بذلك عن ان يكون مجرد فعل اعتيادي. وقد استوقفت « المعيارية الاخلاقية » « الشهيد المطهري » على اكثر من صعيد، وحاول ان يضع يده على كل ما من شأنه ان يبرر لاتصاف الفعل الخلقي بمفردات من قبيل « القيمة » و« المدح » و« الثناء »، وان يسبر اغوار الرؤى المختلفة شارحا ومحققا ومنتقدا ومفندا ومصوبا.. فجاءت أبحاثه و« محاضراته » واضحة ومباشرة ولا تكاد تخلو في كثير من جوانبها من المقارنة والمعاصرة. وقد تعرض المطهري في محاضراته لكل من « نظرية العاطفة » [1]، و« نظرية الارادة » [2]، و« نظرية الضمير والوجدان الاخلاقي » [3]، و« نظرية الجمال » [4]، وغيرها من نظريات، ورأى ان كل واحدة منها تصلح لأن تشكّل معيارا اخلاقيا، ولكن على نحو جزئي. فكل واحدة منها، تكشف النقاب عن جانب من الحقيقة. وخلص الى القول بان الحقيقة الكاملة تكمن في ان الاخلاق من « مقولة العبادة » لا غير. وعلى سبيل المثال فان القول بان جذور الاخلاق كامنة في ضمير الانسان هو قول صحيح نسبيا، ولكن لا ينبغي ان نتوهم ان الوجدان الخلقي هو حس مستقل عن حس معرفة الله تعالى، وهنا يكمن خطأ « كانت » حين اعتبر ان التكليف الخلقي ينبع من اعماق الضمير الانساني من دون ان يتوقف في ذلك على شيء آخر. والا فان الضمير يكتسب التكليف بالالهام والفطرة من مجال آخر هو الله تعالى (واوحينا اليهم فعل الخيرات) الانبياء 73. كما ان القول بان الاخلاق من مقولة المحبة والعاطفة هو قول صحيح نوعا ما، ولكنه لا يكفي من الناحية المنطقية لتبرير الفعل الذي يتجاوز فيه الانسان ذاته الى الغير، والا لماذا يضحي الانسان بنفسه من اجل الآخرين دون مقابل؟ فاذا كان ثمة مبرر منطقي لمثل هذا الفعل فهو في الايمان بالله تعالى، ذلك ان الانسان يشعر في قرارة قلبه ان محبوبه الواقعي يريد منه ذلك الفعل، ولهذا فهو يحب الغير. وايضا، فإن القول بان الاخلاق من مقولة الجمال، وان روح الانسان تدرك الجمال المعنوي الكامن في الصدق والامانة والايثار والعفة.. هو قول صحيح الى حد ما، ولكن لا ينبغي ان يغفلنا ذلك عن منبع الجمال واصله (الذات الالهية المقدسة) فان الانسان يتصل بهذا المنبع بصورة غير واعية. وينتج عن ذلك ان ينظر الانسان في اعماقه الى التكليف الالهي بما انه صادر عن الله تعالى، وبالتالي فكل ما هو صادر عن الله يراه جميلا. هذه النظريات وسواها تفتقد الى المبرر المنطقي الداعي الى السلوك الاخلاقي، ولن تجد مبررها الكافي الا في ظل الدين والايمان بالله، وعلى ضوء الثواب والعقاب. بل ان مستوى العلاقة التي تربط الانسان بالله تعالى قد تتجاوز حدود النفعية التي تتمظهر في الاتيان بالفعل العبادي بداعي الخوف من النار او الطمع بالجنة، فترقى الى مستوى تتوحد فيه المسارات والميول والمسالك المختلفة للانسان بحيث تعمل جميعها في الاتجاه الذي تكون فيه العبادة تعبيرا راقيا عن حالة الشكر والامتنان لله تعالى، فيصطبغ الفعل حينئذ بصبغة الاخلاقية. فالاخلاق من مقولة العبادة، والمقصود من العبادة هنا هو حقيقة من الحقائق بحيث لا تمثل الصلاة والصوم والحج.. سوى جسم وقالب تلك الحقيقة. سواء كنا نعي تلك الحقيقة ام لا، وسواء كنا ملتفتين لها ام لا، فان تلك الحقيقة موجودة في اعماق الانسان على كل حال. والانسان حين يقوم بعبادة الله تعالى بصورة غير واعية، فانه يكون خاضعا له بالفطرة، ومتبعا لمجموعة من الاوامر الالهية المستلهمة في وجود هذا الانسان وكيانه الداخلي. وبمجرد أن يتحول شعوره اللاواعي الى الشعور الواعي – وهو الهدف من بعثة الانبياء – فان جميع افعاله تصبح اخلاقية حينئذ. بمعنى انه عندما يقوم بتنظيم غرائزه وميوله على اساس الواجبات الالهية لتعمل في الاتجاه التكاملي الصحيح الذي فيه مصلحة الانسان، فإن أكله ونومه ومشيه وكلامه وحياته وموته كلها تصبح حينئذ عملا اخلاقيا ومقدسا: (ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) الانعام 162. وعليه فلا يمكن تبرير الاخلاق الا في ظل عبادة الله تعالى. ومن جهة ثانية، فان الله تعالى قد اودع في وجود الانسان استعدادات متنوعة، واي مذهب اخلاقي يستطيع ان يستثمر جميغ تلك الاستعدادات الكامنة في وجود الانسان من غير افراط ولا تفريط فذلك هو المذهب الجامع الكامل. وعند مراجعة المذاهب الاخلاقية المختلفة نجد ان كل مذهب منها قد وضع اصبعه على احدى الخصال الروحية في الانسان وانكفأ عن غيرها. فبعضها يعتمد على مقولة العاطفة فحسب، وبعضها يؤكد على مقولة الارادة، وبعضها على الضمير.. واذا عرفنا ان الاخلاق الاسلامية تقوم على اساس روح الانسان ونفسه، ندرك حينئذ ان المذهب الاخلاقي الكامل والجامع هو هذا المذهب الذي نجده في الاسلام دون غيره. والنفس التي تنهض الاخلاق على اساسها هي النفحة القدسية الالهية في الانسان، وهذه هي الذات الحقيقية الأصيلة. وأما الذات الحيوانية فهي ذات متوهمة. والانسان في اغلب الأحيان يتخيل أن الذات الوهمية فيه هي الذات الحقيقية، وهذا يقود الى « نسيان الذات ». والاسلام حين يدعو إلى مكافحة النفس فإنه يقصد بها الذات المتوهمة والمتخيلة. وعليه فلا بد من إماتة الذات المتوهمة حتى تظهر الذات الحقيقية الأصيلة من وراء الستار. ويبدو أن « هيجل » كان أول من تناول موضوع الغربة عن الذات والانفصال عنها في الفلسفة الغربية، كما تعرض له الفيلسوف المادي « هايدغر » حين جعل الذات الانسانية على قسمين: احداهما الذات الشخصية، والاخرى الذات الكلية المغروسة في اعماق كل واحد منا. ومع ذلك فإن القرآن الكريم كان قد سبق – ولاسباب متعلقة بالهداية – الى تناول موضوع ثنائية الذات. وألمح إلى أنه توجد في الإنسان ذات حيوانية طفيلية، وفي نفس الوقت فيه نفخة من الروح الالهي تمثل الذات الحقيقية في الانسان. وفي الواقع فإن ذات الانسان واحدة لا اكثر، وهذه الذات الواحدة لها درجات، فحين يحتدم الصراع داخل الانسان بين الرغبات الطبيعية والارادة الاخلاقية، فإن الصراع يدور حقيقة بين الذات الطفيلية والذات الأصيلة، لذلك اذا انتصرت الذات الاصيلة على الذات الطفيلية يشعر الانسان حينها بنشوة النصر، بينما اذا انتصرت الذات الطفيلية على الذات الحقيقية يشعر بمرارة الهزيمة. هذا الشعور بالنصر أو بالهزيمة يكشف عن الذات الأصيلة في الانسان. وإذا أحس الانسان بذاته الحقيقية التي هي من عالم الملكوت، وأدرك عظمة هذه النفس فإنه لا ينحط إلى المستويات الدانية. وهذا هو السر في ان الانسان يلتذ بالعلم وينفر من الجهل، فإن ذاته الواقعية هي من جنس العلم ولا تتناسب مع الجهل. وهكذا يلتذ بالقدرة وينفر من الضعف لأنه يدرك حضوريا أن ذاته تنتسب الى عالم القدرة والعظمة. ومن هنا كانت جميع المشاعر الاخلاقية ناشئة من الظفر بالذات وإدراك حقيقتها. ولهذا تميزت الاخلاق الاسلامية بكونها متمحورة حول معرفة النفس والاحساس بكرامتها وعظمة مصدرها.
هل الاخلاق نسبية أم مطلقة وثابتة؟
تدرج النظريات الأخلاقية التي تجعل للأخلاق معيارا محددا من قبيل العاطفة، والضمير، والتناسق بين مصالح الفرد والمجتمع، والتوازن بين قوى الروح، والجمال..الخ في خانة القول بالثبات. ولكن لا ينبغي الخلط هنا بين الاخلاق باعتبارها خصالا وسجايا وملكات ثابتة، وبين الفعل الاخلاقي والسلوكيات التي تسمح بتحقق تلك الروحيات في الخارج، والتي قد تختلف باختلاف الظروف والاحوال والاعتبارات الطارئة. وبهذا يتضح المراد من حديث أمير المؤمنين (ع) الذي يفهم منه ان النموذج الاخلاقي للمرأة يختلف عنه للرجل، فقد جاء في نهج البلاغة: « خيار خصال النساء شرار خصال الرجال » وذكر ثلاث خصال للمرأة وهي « الزهو والجبن والبخل ».. فالتغاير بينهما في الخلق ليس باعتباره خصلة نفسية، فهو امر ثابت بهذا المعنى لا يختلف بين الرجل والمرأة. وانما يختلف باعتباره سلوكا اخلاقيا، كما يقال مثلا: « التكبر على المتكبر عبادة »، والمقصود سلوك التكبر وليس نفس الخصلة، والسلوك كما تقدم امر نسبي. كما لا ينبغي الخلط بين الاخلاق بالمعنى المتقدم، والذي يرتبط بنفس الانسان ونظام عمل غرائزه.. وبين الآداب التي لا ترتبط بنفس الانسان وعمل غرائزه، وانما هي امور اكتسابية يطلق عليها اسم الفنون والصنائع، كالخط والكتابة والخياطة وركوب الخيل والسباحة.. فان هذه الآداب متغيرة بتغير الزمان والظروف، وكما جاء في نهج البلاغة فلا ينبغي بالانسان ان يؤدب اولاده بآدابه لانهم خلقوا لزمان غير زمانه. نعم، قد تطلق كلمة الآداب ويراد بها السنن والمستحبات، كآداب اكل الطعام، والبسملة عند الابتداء بالطعام، وغسل اليدين، وتنظيف الاسنان.. وامثال هذه السنن والمستحبات لا تختص بعصر دون آخر ولا بقوم دون قوم، بل هي مطلقة وثابتة. وتعتبر العبادة من ابرز المصاديق الأخلاقية الثابتة، لأن العبادة حاجة ثابتة يجدها الانسان في اعماقه، وهي المركب والزاد للحصول على الكمال الذي ينشده الانسان في وجوده. وتعتبر العدالة ايضا في مقدمة المصاديق الأخلاقية الثابتة، لأن أساس العدالة هو وجود الحقوق الواقعية والفطرية التي تستمد واقعيتها من الله تعالى، فالفرد له حق والمجتمع له حق، وكلاهما أصيل بنظر الاسلام، والعدالة تكون باعطاء كل ذي حق حقه، وإذا كانت العدالة مبنية على أساس الحق والاستحقاق وكانت عموم الاستحقاقات ثابتة وواحدة ومطلقة، فالعدالة تكون ايضا ثابتة. ومع ذلك توجد نظريات تشير بصراحة إلى نسبية الأخلاق، خصالا وسلوكا، وتبتنى نسبية الاخلاق فيها على محورية المجتمع وانتخاب الانسان كمعيار لحسن الافعال وقبحها. فكل فعل محمود بنظر العموم يكون حسنا، وكل فعل غير محمود عندهم يكون قبيحا. فما يجعل الفعل محمودا في عصر دون آخر بنظر « هيغل »، هو « روح العصر ». فروح العصر تدفع بالمجتمع دوما إلى الامام، وتترك - نتيجة ذلك - آثارها وانطباعاتها على أفكار الناس وتتحكم بتحديد اولوياتهم، وبالتالي فإن روح العصر المتوافقة مع التكامل هي التي تلهم الأخلاق والقيم وتجعلها محلا لقبول الناس واختيارهم لها في عصر ما بعد ان لم تكن مقبولة لهم في ظروف مختلفة. ويكمن معيار التغير بنظر « سارتر » في الانتخاب الشخصي، فإن هذا الإنتخاب يؤهل الفعل لاكتساب صفة الحسن، والانسان لا ينتخب فعلا ما الا لأنه يراه جيدا، وبالتالي فهو بانتخابه له يضفي عليه قيمة، كما يضفي عليه صفة العموم في نفس الوقت الذي يكون فيه جزئيا، فهو قد اختار هذا الفعل للآخرين أيضا. وسوف نتجاوز هاتين النظريتين، لنقف على الرأي الأهم والأعمق في موضوع نسبية الاخلاق. وهو الموضوع الذي عالجه الشهيد مطهري على ضوء نظرية الادراكات الاعتبارية « للسيد الطباطبائي ».
ثبات ونسبية الحقيقة لا يستلزم ثبات ونسبية الاخلاق
قال الفلاسفة بثبات الحقيقة كما قالوا بثبات الأخلاق، ومع ذلك أفردوا للبحث في كل منهما مجالا خاصا لوجود فرق بينهما، فإن الحقيقة أصل نظري، بينما الأخلاق أصل عملي. والحكمة النظرية تبين الحقائق الموجودة في الماضي والحاضر، فهي صورة الواقع على ما هو عليه، وخبر عن الواقع، والبحث فيها يتناول مطابقتها للواقع وعدمها، كما يتناول ثبات هذه المطابقة وتغيرها. أما الحكمة العملية فمرتبطة بالإنسان، والبحث فيها مرتبط بما يجب أن يفعله الإنسان. ولذلك فهي إنشاء، ومنه يعلم أنه ليس في الأخلاق خبر عن الواقع ولا مطابقة. ومن جهة ثانية فإن العقل النظري قوة في النفس تكشف بها عما هو خارج عنها. بينما العقل العملي سلسلة إدراكات يتم بها تدبير البدن. فهو مختص بطبيعة النفس، والعقل النظري مختص بما ورائها. ومن جهة ثالثة يرى الفلاسفة أن ماهية الإنسان وجوهره وكماله في العلم، خلافا للعرفاء الذين لا يرون الكمال في العلم لاعتقادهم أن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ الحقيقة لا الذي يكشف عنها. فالعقل العملي عندهم يسعى لتدبير البدن أحسن تدبير من خلال توازن القوى وتعادلها، وهذا التدبير يتم بسلسلة أحكام تمكنه من بلوغ الحقيقة. وعليه فالحق أن يفصل بين الحقيقة والأخلاق في مورد البحث [5]. ومع ذلك، ثمة من يرى أن القول بثبات الاخلاق وخلودها يرتبط بفلسفة الوجود، وأن القول بنسبية الأخلاق وتغيرها مرتبط بفلسفة الصيرورة والتحول. فإذا كانت الحقائق متغيرة متبدلة فلا بد أن يشمل هذا التغير الأحكام والأخلاق معا. إلا أنه على فرض أنه ليس في الواقع الا الصيرورة والتحول فإن ذلك لا يستلزم التغير في محتوى فكر الانسان. ومع ان محتوى الفكر لا يوجد مستقلا عن الوجود الذهني أو الخارجي، الا ان الانسان حين يفكر في اية قضية فانه يجردها من وجودها الذهني والخارجي، ثم يحكم على القضية المجرّدة بانها صادقة ابدا، وذلك في مقام الاعتبار. وإلا فلو كان الفكر متغيرا، فسوف يتغير الاعتبار ايضا، وما تصورناه بالامس لن يبقى الى اليوم، ولكن لا احد يلتزم بذلك. وبهذا يتضح انه حتى ولو أخذنا بفلسفة الصيرورة، وسلمنا بتغير الحقائق، فإن تغير الحقائق لا يستوجب تغير الاخلاق، لأن الاخلاق عبارة عن مجموعة من الاوامر والنواهي (اعتبارات)، وتغير الحقائق لا يستلزم تغير الاعتبارات.
الحسن والقبح في الاشياء ليسا ذاتيين وإنما هما ناشئان من الوجوبات الاعتبارية
قد يقال أن كل تشريع سواء أكان تشريعا أخلاقيا أم غير أخلاقي (كما في مورد الأحكام)، فهو قائم على المصالح والمفاسد، وهذا هو معنى قول المتكلمين والأصوليين: « الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية »، وبحسب تعبير المرحوم « النائيني »: « المصالح والمفاسد هي في علل الأحكام، والأحكام هي ما يجب وما لا يجب في الوصول الى تلك المصالح، فهي تابعة لتلك المصالح والمفاسد كما يتبع المعلول علته ». فإذا كانت المصالح والمفاسد امورا واقعية، وكانت الاوامر والنواهي عهودا واعتبارات تنشأ من تلك المصالح والمفاسد، فلا بد ان تكون متغيرة بتغيرها. ومن هنا نحتاج إلى البحث في الاوامر والنواهي، وهل أنها تنشأ من المصالح والمفاسد الواقعية أم لا؟ وبعبارة أدق هل الحسن والقبح ذاتيان في الاشياء أم لا؟ فإن البحث يتمحض في الاخلاق دون الأحكام. ويمكن بيان ثبات وخلود الاخلاق من خلال مسألة الحسن والقبح الذاتيين، فإذا كان الحسن والقبح ذاتيين في الأفعال، فسيبقى الفعل الحسن حسنا دائما، كما سيبقى الفعل القبيح كذلك ما دامت السموات والأرض، لأن الصفة الذاتية لا تتخلف ولا تختلف. ويمكن للعقل - استنادا إلى الحسن والقبح الذاتيين - ان يحكم بفعل الحسن وترك القبيح. وأما إذا كان الحسن والقبح غير ذاتيين، بأن كانا مبيّنان للرابطة بين الانسان وأفعاله، فسوف يترجح حينئذ القول بنسبية الأخلاق، فالمحبوب عند الانسان يكون حسنا، والمكروه عنده يكون قبيحا. وعليه، هل الحسن والقبح ذاتيان في الاشياء ام لا؟ من المباحث المعاصرة التي أغنت هذا الموضوع بحثا وتنقيبا، البحث الذي أعده « السيد الطباطبائي » في المقالة السادسة من « أصول الفلسفة » [6] حيث قال: « كل ما نستنتجه مرتبط بالحكمة العملية، ومتعلق بعالم الأفكار الاعتبارية، فالحكمة النظرية أو الحقيقة تعني الأفكار الحقيقية التي هي الصورة الواقعية للأشياء. والأفكار العملية تعني الأفكار الاعتبارية. والأفكار الاعتبارية هي كل الأوامر والنواهي وما يطرح في علم الأصول. وقد طرحت في علم الأصول طرحا أحسن من طرحها في كل ما عداه ». وقد بحث « السيد الطباطبائي » حول كيفية نشوء الأفكار الاعتبارية في المقالة السادسة من « أصول الفلسفة »، وتوصل إلى ما يلي:
1 - إن الذهن يمتلك قدرة على التقاط أفكار عن الاشياء الخارجية، وهي أفكار حقيقية لا قدرة له على اختراعها من نفسه، ثم يقوم بتطبيقها على واقع ما، أي يجعل الشيء مصداقا لشيء آخر على وفق حساب، وبالتعبير الاصطلاحي يصنع مجازا. وليس المجاز – بنظر « السكاكي » – تصرفا في اللفظ، وانما في المعنى، بأن نرى زيدا مصداقا للأسد واقعا، ثم نطلق اللفظ عليه. وهذا إنشاء يقوم به الذهن. وللمرحوم « السيد البروجردي » تعبير لطيف في هذا الصدد، اذ يقول: عندما نقول: رأيت أسدا يرمي، فإننا نستعمل جملة بدلا من اثنتين. فكأننا قلنا: رأيت زيدا يرمي، وزيد مثل الأسد. وهو يقبل كلام « السكاكي » في المجاز. وعليه فالذهن يمتلك قدرة على الانتزاع والانشاء وما شابه، فيجعل الشيء مصداقا لشيء آخر على وفق حساب. والقضية الأساسية التي يطرحها « السيد الطباطبائي » وينطلق في بحثه منها هي أن منشأ الاعتبار هو فكرة حقيقية يقوم العقل بتعميمها وتطبيقها على غير موردها، فكل مجاز يعبّر عن حقيقة، لها مصداق واقعي حقيقي. والعقل لا يخلق المفهوم الاعتباري، كمفهوم الملكية، دفعة واحدة، بل هو يقوم بحفظ مفهوم في صورة حقيقية يعتبره مجازا لشيء آخر. وشيئا فشيئا اتسعت نظرية الاعتبار لتشمل كل المفاهيم التي تندرج في باب القيم والاخلاقيات، كالحسن والقبح.
2 - إن الطبيعة تتجهز بوسائل تعينها على التحرك الى مقصدها [7]. ولكن تجهّز الطبيعة في الحيوان ليس بكاف لبلوغ ما تريد، فيستعين الحيوان بجهازه الشعوري والادراكي. وبالتالي، يحصل تنسيق بين الطبيعة التكوينية، وجهاز الشعور الذي يعمل على ايصال الطبيعة الى ما تريد. والانسان يحسب انهما اتحدا اتفاقا وبدون تنسيق، فالحيوان يلتذ بالطعام والطبيعة تحقق مبتغاها. ويرى « السيد الطباطبائي » أن هذا التنسيق قائم بينهما بشكل دائم، ولا يعبأ بالموارد الشاذة في شأن الانسان الذي يعمل بحكم العقل.
3 - يرى « السيد الطباطبائي » ان بين الطبيعة والغايات رابطة وجوب وضرورة من النوع العيني والتكويني والفلسفي الموجود بين العلة ومعلولها، ولكن الانسان يقيم هذا الوجوب العيني في الطبيعة بين شيئين ليس بينهما هذه الرابطة. ومن هنا يشرع عالم الاعتبار، فتنشأ هذه الوجوبات التي يخلقها الذهن، ومن الوجوب ينشأ اعتبار الحسن. وهكذا يرى الانسان المحاسن والمساوئ في الاشياء. وعليه، فان الوجوب والحسن والقبح هي في الواقع اعتبارات تكشف عن رابطة بين الانسان وفعله، وتنشأ من احساساته. أحد الاعتبارات عند « السيد الطباطبائي » هو اصل الاستخدام، وهو أن للإنسان صلة بقواه، وهي صلة عينية وتكوينية وواقعية. فقوة اليد في خدمتنا تكوينيا، وكل مادة خارجية هي وسيلة للإنسان ينتفع بها انتفاعه بيده، ومثلما أن يده هي ملكه، فإن المادة الخارجية تكون ملكه أيضا. ولا يختص هذا الاعتبار بالمواد الخارجية من جمادات ونباتات وحيوانات، فالانسان ينظر حتى الى الانسان الآخر بعين الاستخدام. وهذا الاعتبار (الاستخدام) عام وفطري برأي « السيد الطباطبائي »، وهذا يعني ان الانسان خلق بطبعه مستغلا. ويرى « السيد الطباطبائي » في « الميزان » عند تفسير الآية (كان الناس أمة واحدة) البقرة: 213 أن المسائل الاجتماعية والأخلاقية أصل ثانوي. وبينما يقول في « اصول الفلسفة » ان الاستخدام أمر فطري، والعدل الاجتماعي أمر فطري أيضا، إلا أنه يستند إلى فطرة معدلة. ومن جهة ثانية يصرح في « التفسير » بأن الانسان مدني بالتطبع، لا بالطبع، بينما يقول في « اصول الفلسفة » ان الانسان مدني بالطبع، لكن الطبع هنا غيره هناك. فهو لا يقبل ان يكون الانسان مجبولا على الاجتماع، وانما يرى اجتماعه نتيجة لتعادل وتزاحم غريزتين. فقولنا: (كل امرئ غايته الاولى استخدام غيره، وهذا احساس عام للناس جميعا)، نتيجته الحتمية هي الحرب وتنازع البقاء [8]. وعليه، فكل وجوب برأي « السيد الطباطبائي » ينشأ من أن الطبيعة لها أغراض في صميمها تسعى إليها، فالجماد والنبات والحيوان تنجز الأفعال غريزيا، والإنسان ينجز أفعاله ويريدها ويفكر فيها من أجل غاية لا ينالها إلا بإرادته. وهذه الغاية هي في الواقع غاية الطبيعة التي تتذرع بالفكر والارادة للوصول إليها. ومن هنا تمس الحاجة إلى الاعتباريات تلقائيا، والانسان يتحرك بجهازين هما « الطبيعة »، و« الفكر والارادة ». ويبتغي جهاز « الفكر والإرادة » الى تحقيق ما يصبو إليه جهاز « الطبيعة ». والإرادة لها مقدمات، وهي كما صورها القدماء: تصور الفعل الاختياري، ثم التصديق بفائدته، والرغبة فيه، ثم الجزم، والعزم، فتحصل الإرادة، وبعدئذ يحدث الفعل الاختياري. والشيء الأساسي عند « السيد الطباطبائي » هو الحكم الذي تنشئه النفس بوجوب الفعل، لا الحكم النظري بفائدته. فكل فعل اختياري يتضمن حكما إنشائيا اعتباريا، والحكمة النظرية تبحث في الوجودات، والحكمة العملية تبحث في الوجوبات، والفلاسفة يرون هذه الأخيرة أمورا اعتبارية غير قابلة للاستدلال. وقد صرح « السيد الطباطبائي » بأن هذه المسائل (الاعتبارية) ليست قابلة للبرهنة، فإن البرهان لا يرد في الأمور الاعتبارية لا من طريق قياسي ولا من طريق تجريبي. لأن مبادئ القياس يجب ان تكون من البديهيات، أو المحسوسات، أو الوجدانيات، أو المجربات في حين ان الحكمة العملية متعلقة بمفهوم الحسن والقبح، وهو منتزع مما يجب وما لا يجب، وما يجب وما لا يجب تابعان للمحبوب والمكروه، وليس المحبوب والمكروه واحدا عند الجميع، فالناس متفاوتون فيهما. وما يجب وما لا يجب هما وسيلة لبلوغ مقاصد متغيرة، وتغيرها يستدعي تغير الاحكام، فما يجب باق ما دام المقصد، فاذا تغير المقصد، تغير الوجوب قهرا. ولهذا قال: الادراكات الاعتبارية على خلاف الادراكات الحقيقية، فهي مؤقتة. وبهذا يكاد يقول بان الاخلاق لا يمكن ان تدوم. نعم، لقد قال: اصول الاعتبارات باقية، وهي في حدود خمسة او ستة. وعليه يتبين ان ما يجب وما لا يجب، وكذلك الحسن والقبح، أمور نسبية وذهنية تماما [9]. فالمعاني الاخلاقية ليست أمورا عينية بحيث تكون قابلة للتجربة والاستدلال المنطقي الخاصين بالامور العينية. ويصل « برتراند راسل » إلى النتيجة نفسها في فلسفة التحليل المنطقي، ويقول في كتابه « تاريخ الفلسفة » عند شرحه لنظرية « افلاطون » بشأن العدالة، واعتراض « تراسيماخوس » عليه بأن العدالة ليست سوى منافع الأقوياء: هذا الرأي يضعنا عند المسألة الاساسية للأخلاق والسياسة وهي: هل هناك معيار لتمييز الحسن من القبيح غير ما ذكر؟ فما لم يكن هناك معيارا فلا يمكن رفض الكثير من النتائج التي توصل اليها « تراسيماخوس ». وخلافا « لافلاطون » [10]، تلتقي وجهة نظر « راسل » مع وجهة نظر « الطباطبائي » في اعتبار الحسن والقبح من المفاهيم النسبية والتي ينظر اليها من زاوية علاقة الإنسان بالأشياء، فعندما تكون لنا غاية نريد بلوغها نقول: هذه وسيلة حسنة، وحسن هذه الوسيلة هو هذا الوجوب، لا صفة واقعية لتلك الوسيلة. وقولنا: الصدق حسن يعني لأنه حسن بالنسبة لأمر معين، لا لأنه حسن للجميع. وبالتحليل المنطقي توصل « راسل » إلى ان الحسن والقبح اعتباريان. وأنهما ليسا من الصفات الذاتية للأشياء، وإنما هما من الصفات الموصلة أو غير الموصلة بالنسبة لغاية معينة، فالصدق حسن لأنه يوصل إلى الغاية الكذائية، فيجب أن يقال. والكذب قبيح لأنه لا يوصل إليها فيجب ألا يقال. وهذا يعني انه ليس لدينا هنا سوى وجوب القول وعدمه، والحسن والقبح ينتزعان من هذا الوجوب وعدمه. وهذا عين القول بنسبية الأخلاق. وخلاصة رأي « راسل » أن مفهوم الحسن والقبح مبين للرابطة التي بين الباحث ومورد بحثه. فإذا كانت رابطة محبة عددنا الشيء حسنا، واذا كانت رابطة بغض عددناه سيئا، واذا لم تكن رابطة محبة ولا رابطة بغض لم يكن ذاك الشيء حسنا ولا سيئا. وفي الجواب على « راسل » يقول الشهيد مطهري انه يجب ان نحرز أولاً جذر (معيار) المحبة، فنعرف لماذا يحب الانسان هذا الشيء ولا يحب ذاك؟ ولا اشكال في ان الانسان يحب الشيء الذي يفيده ويصلح حياته، فالطبيعة تنزع نحو كمالها، ولذا تدفع الانسان بالارادة والاختيار، وتملؤه شوقا وميلا وتعلقا به. وهكذا تزوده بمفهوم ما يجب وما لا يجب، والحسن والقبح. ومثلما تنزع الطبيعة الى جهة كمال الفرد ومصلحته، تنزع كذلك الى كمال النوع ومصلحته. ولهذا تبعث الطبيعة الجميع على حب اشياء يتحقق بها كمال النوع. وهذه المحبوبات متشابهة دائمة كلية مطلقة، وهي معيار المحاسن والمساوئ. والعدالة والقيم الاخلاقية كلها من الامور التي تراها الطبيعة من مصالح النوع، فتثير في نفوس الجميع شوقا اليها بالاختيار. فتحصل في النفس سلسلة مما يجب ومما لا يجب بصورة احكام انشائية. والاصل الذي التفت اليه « راسل » من (انا احب) هو انه عنوان لفرد يفكر بمنافعه المادية والجسمية فقط. ولم يلتفت الى انه اصل لفرد يحس بكرامة اعلى من روحه، ويحب مصالح النوع. فنحن لدينا نوعان من الوجوبات: وجوبات فردية جزئية نواجهها يوميا، من قبيل يجب ان اتناول هذا الطعام، وان البس ذاك القميص. ووجوبات كلية مشتركة بين الناس جميعا، اي انه توجد بين الناس مصالح مشتركة.
بعض الوجوبات جزئية متغيرة، وبعضها كلية ثابتة
ومن هنا، يرى « السيد الطباطبائي » أن الاعتباريات (الوجوبات) على نوعين: ثابت ومتغير. فالعدل والظلم وأمثالهما مثال للاعتباريات الثابتة، والواجبات الفردية والجزئية مثال للاعتباريات المتغيرة، فالمحتاج إلى درس معين يقول: يجب أن أتلقى هذا الدرس، وغير المحتاج إليه يقول: يجب ألا أتلقى هذا الدرس. وهذه الوجوبات الفردية والجزئية لا ريب في نسبيتها وتغيرها من شخص إلى آخر. فعندما أقول: هذا الغذاء لذيذ لي، فإن فيه جانبا نظريا هو علمي بلذته، كما أن فيه جانبا عمليا هو وجوب تناوله. وهنا يطرح سؤال: هل هناك وجوبات يعمل الناس جميعا على أساسها عملا واحدا؟ بحيث تكون دائمية وكلية من قبيل: (فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8. ومن قبيل: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) الانبياء: 73؟ وعلى القول بوجود مثل هذه الوجوبات فيمكن لنا ان نتصور مسألة ثبات الاخلاق حينئذ، ولكن لا يعود التمييز بين الحكمتين النظرية والعملية، باختصاص الأولى بالوجودات والثانية بالوجوبات، كافيا. فان الصناعة تتضمن عدة وجوبات، إلا أنها لا تدخل في الحكمة العملية لأنها وجوبات جزئية. نعم، تدخل الوجوبات الاخلاقية في الحكمة العملية ؛ لأنها تكون لمقاصد كلية تنبع من الروح المجردة (كما سنرى)، وليس لمقاصد جزئية تنبع من الطبيعة المادية المحدودة للإنسان. فهذه الوجوبات الكلية مشتركة بين الجميع، توجد في أذهان الناس جميعا وليس لدى البعض دون البعض.. وي نمشعر بها الناس شعورا واحدا.
المعيار الذي تنشأ منه الوجوبات الكلية هو الأنا العلوية في الإنسان
والمبنى الذي ترتكز اليه هذه الوجوبات - بعد ان رفضنا قول المتكلمين بان الحسن والقبح صفتان عينيتان، ذاتيان في الاشياء؟ واستنتجنا انهما رابطة بين الانسان والشيء - يعود إلى أحد التوجيهات الثلاثة التالية:
أ - الغيرية والعمومية: التوجيه الاول هو ان الانسان كما يهدف لسد حاجاته الذاتية، يهدف ايضا لسد الحاجات النوعية، فله اهداف نوعية، وهي ان يحب الشيء ولكن ليس من اجل نفسه، وانما من اجل الآخرين. وبناءا على هذا التوجيه يكون العمل اعتياديا ومبتذلا اذا عاد على عامله، ويكون متعاليا وكريما اذا عاد على الآخرين. فالغيرية ملاك الرفعة، والذاتية ملاك الضعة. ومعيار الاخلاقية هو العمومية. لأنه ينبع من حب الخير للآخرين، وهذا اصل عام وكلي. فالصدق بما هو صدق ليس حسنا بل هو حسن لان فيه الخير العام، وخدمة الآخرين. وهذا يعني ان الاخلاق اجتماعية الطابع. وعلى وفق هذا التوجيه نصل الى اصل اخلاقي كلي خالد تتغير مصاديقه وهو ثابت. وعلى هذا التوجيه نرد جميع الاخلاق الى اصل واحد ثابت دائم هو خدمة الآخرين. والفرق كبير بين تغير الأصل وتغير مصاديقه. وهذا التوجيه يخالف رأي « السيد الطباطبائي » القائل بأن جهاز الانسان الحسي بطابق جهازه الطبيعي والتكويني، وان اصل الاستخدام في الانسان عام وضروري..
ب - الأنا الكلية: والتوجيه الثاني هو انه لا يمكن ان يكون ما يريده الانسان غير مرتبط بالانا، وكل ما التذ به لا بد ان يعود على نفسه هو، غاية الامر ان للانسان نفسين: فردية واجتماعية. فالانسان فرد، يحس (بأنا) واحدة، هي الفردية الشخصية. وكذلك المجتمع له شخصية، وشخصيته حقيقية لا اعتبارية، وتركيبه من الافراد ليس اعتباريا (وهي حقيقة ذكرها « دوركهايم » وآخرون، واستنبطها « السيد الطباطبائي » من القرآن الكريم). فالمجتمع له نوع خاص من التركيب، يختلف عن التركيب الطبيعي الذي تزول فيه مميزات العناصر. فكل افراده يتمتعون باستقلالهم وارادتهم، وكل منهم يحس بنوعين من الانا احداهما فردية، والاخرى جماعية. والعرفاء بدورهم يرون الأنا الواقعية هي الأنا الكلية، وان الانسان حين يقول (أنا)، ويتخيل نفسه منفصلا، فهو مشتبه. ويرجعون النفس الواقعية الى الحق تعالى، ولا يرون الانا الفردية الا تجليا لتلك النفس الواقعية، فكأن هناك روحا كلية في الواقع تتجلى في مختلف الأفراد، أي أن كل (أنا) ترجع ألى أنا واحدة. وقد توصل وليم جيمس الى هذا المطلب بنوع من التجارب النفسية، وأن ضمائر الافراد ترتبط في الباطن احدها بالآخر دون اطلاع غالبا، والارتباط الحاصل ناشيء من اتصالها بالمنبع الالهي. وعليه، فان الافراد يكتسبون بعد التركيب واقعا حضاريا هو واقع حقيقي، فيحس الانسان احيانا بان نفسه ليست فردية، وانما هي كلية، فيعمل حينئذ عملين: احدهما من أجل أنا الفردية، والآخر من اجل أنا الجماعية في نفسه. وعليه فهذا التوجيه للوجوبات الكلية يعود إلى الطبع الاجتماعي في الإنسان، فالإنسان مفطور على الاجتماع، وقد زرع في كيانه ميول وبواعث عديدة تهدف إلى سد حاجاته الاجتماعية كما هو الحال في سد حاجاته الفردية. ولولا هذا الميل الاجتماعي لديه لما نشأت الوجوبات الكلية. وهذا الحكم مرتبط « بالأنا الكلي » الذي يريد الوصول إلى مقصده، فيدفع الإنسان نحو الأفعال الأخلاقية التي هي أصول كلية ودائمة وعامة، ووجوبات ثابتة لا تتغير أو تتبدل. وفي هذا التوجيه نظريتان: استندت الاولى على وجود الانا، واتخذتها هدفا. فالانسان يعمل من اجل الانا عملا، ومن اجل غيرها عملا. واستندت النظرية الثانية على احساس الانسان بنوعين من الانا، فهو يحس بالانا الفردية، فيعمل من اجلها، ويحس بالانا الجماعية ويعمل من اجلها. فالانا الجماعية شيء كلي دائم، وكل ما انبعث منها اخلاقي، وما انبعث من غيرها ليس اخلاقيا. ويمكن ان تتغير مصاديق هذا الاصل مع انه كلي دائم.
ج - الانا العلوية: والتوجيه الثالث هو انه ليس بامكان الانسان ان يعمل دون ارتباط بذاته الخاصة، فللانسان نوعان من الانا: هما التحتية والعليا. فكل امرئ له درجتان هو في احداهما مثل جميع الحيوان، وفي الاخرى هو ذو واقع علوي. فحين نقول طبيعة الانسان انما نقصد واقعه لا مظهره المادي. وهذا الواقع الوجودي في درجة، وواقعه الحيواني في درجة، وواقعه الملكوتي الذي هو القسم الاصل في درجة اعلى من الدرجتين المذكورتين آنفا. وهو يحس بالانا العليا في نفسه، فحين تتنازعه الدوافع الحيوانية والانسانية يميز هذه من تلك بعقله، ويسعى بارادته الى تغليب الدوافع التي ينتصر لها العقل. وقد يوفق في هذا الكفاح وقد لا يوفق فيه، فاذا غلبته الشهوة انهزم فيه الانسان، واذا غلب الشهوة احس بالظفر في نفسه، في حين انه لم ينتصر عليه احد ولا انتصر على احد، وانما انتصر جانب من وجوده على جانب آخر منه، فعند غلبة العقل يحس بالنصر، وعند غلبة الشهوة يحس بالهزيمة، وهذا لأن الانا عنده عقلانية وارادية، والجنبة الحيوانية عنده هي السفلى، وهو بمنزلة مقدمة لواقعه الذي هو الجنبة السفلى التي هي نفسه وغيره في آن واحد. وعليه يكون توجيه الاصول الاخلاقية على النحو التالي: للانسان كمالات بحسب الانا الملكوتية، وهي كمالات واقعية لا انشائية، لان الانسان ليس جسما فقط، وانما هو جسم وروح. وكمال الانسان المعنوي والروحي عمل علوي قيم، والعمل الذي لا يتلاءم وعلو الروح عمل اعتيادي ويعد تافها. وعلى هذا النحو نقبل الحسن والقبح اللذين قال بهما « السيد الطباطبائي » و« راسل » وغيرهما. والبحث هنا: أيّ (انا) نحبها؟ العليا ام السفلى؟ فاذا كان المحبوب هو الانا العليا كان الحب اخلاقيا وذا قيمة، واحساس الانسان بالاخلاق ناشئ من هنا. والانسان يتعاطى مع الجنبة السامية من وجوده، والاعمال الرفيعة المرتبطة بها، على أنها حقيقية، وليست اعتبارية، لانه يرى تلك الجنبة في وجوده اكمل واقوى من غيرها. وكل الكمالات ترجع الى هذا الوجود، ولذا ارجعت خصال الصدق والصواب والاحسان والرحمة والخير وامثالها الى الأنا الأعلى في الانسان. وقد قال الحكماء: ان الحكمة العملية مربوطة بالفعل الاختياري من ناحية الفضل والكمال، ويرجعون الأمر في النهاية الى النفس، ويصرحون بأن لنفس الانسان كمالين: نظري وعملي. وان اكتساب حقائق العالم كمال نظري، ومكارم الاخلاق كمال عملي للنفس ينميها ويوازن بينها وبين الجسم، ويدعم ما لديها من كمال واقعي.
الأنا العلوية مشتركة بين جميع الناس، ولذا فالأخلاق ثابتة
واذا اخذنا بهذا الرأي، وصلنا الى اصل اسلامي كبير لم يذكره الحكماء، وهو ان الانسان يحس - بصورة غير واعية - بالسمو بحكم ما لديه من شرف وكرامة ذاتيين، وهما جنبة ملكوتية ونفحة الهية فيه. ويحس بان هذا العمل أو الملكة مناسبة للشرف او غير مناسبة، فاذا ناسبته وانسجمت معه، عدت خيرا وفضيلة، والا كانت رذيلة. وتوجيه ما يجب وما لا يجب والحسن والقبح هو ان الناس خلقوا متشابهين في الكمال، ولخلقهم متشابهين كان ما يحبون لونا واحدا، وهكذا نظراتهم، يعني انهم متشابهون في الكمال المعنوي على الرغم من اختلافهم في الاجسام والاماكن وتغيرهم في الحاجات البدنية، ولا بد ان تكون المحبوبات والطيبات والمساوي والمنكرات واحدة كلية دائمة. وبهذا تعلل الفضائل الاجتماعية وغيرها كالصبر والاستقامة. وعليه، فهذه الوجوبات الكلية تستمد جذورها من الشرف والكرامة الإنسانيين. ومن شأنها أن تسمو بروح الإنسان إلى المقاصد العليا إذا ما سخر لها فكره وارادته. فعندما يقول الإنسان أن الفعل الفلاني مما يجب فعله، فانه يقصد بذلك أن يبلغ ذلك السمو وإن لم يتنبه لهذا القصد في شعوره. وفي المقابل فإن الطبيعة المادية المحدودة في الإنسان تفرض عليه وجوبات جزئية تصبو إلى سد حاجاته المحدودة كالغذاء ونحوه، لكنها لا تعد أخلاقا. والتوجيهان الأولان يعللان الاخلاق الاجتماعية فقط كالايثار واعانة الغير، ولكنهما لا يعللان الصبر والاستقامة. خلافا للتوجيه الاخير الذي يعلل الاصول الاخلاقية كافة. وبقبولنا هذا الاصل المبين لجميع المحاسن والمساوي وانها ناشئة من ارتباط الشيء بكماله، فاننا نستكشف به ان هذه المحاسن والمساوي مشتركة كلية دائمة. وبالتالي تكون الاخلاق ثابتة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - ان الفعل الاخلاقي هو ذلك الفعل النابع من عاطفة تفوق الميول والرغبات الفردية، ويهدف الى ايصال الخير للآخرين. بينما الفعل العادي لا يكون خارجا عن اطار الذات وعن حدود الأنا. والاتجاه الذي يرى في المحبة اصلا اخلاقيا، كما في المسيحية، ينتمي الى هذه النظرية.
[2] - ان المعيار في كون الفعل اخلاقيا ليس هو العاطفة، وانما هو العقل والارادة. ولا بد ان تقوم العاطفة بنشاطها في ظل اوامر العقل والارادة واما اذا بقيت العاطفة مطلقة العنان فانها تقوم بافعال غير اخلاقية. وهذا هو اتجاه الفلاسفة الاسلاميين عموما.
[3] - انه يوجد في اعماق الانسان قوة غير العقل والعاطفة، وهي تلهم الانسان ما يجب عليه فعله او تركه في المجال الاخلاقي، وهذه القوة هي الضمير والوجدان، فالافعال الاخلاقية هي التي تتعلق بوجدان الانسان، والافعال العادية لا تكون متعلقة بالوجدان بل بالطبيعة كالاكل والشرب. من اصحاب هذا الاتجاه الفيلسوف الالماني « كانت ».
[4] - ان الاخلاق من مقولة الجمال، فإذا استطاع الانسان ان ينمي في نفسه حس الجمال بواسطة التربية، وتمكن بذلك من ادراك جمال مكارم الاخلاق، فانه سوف لن يقدم على الكذب والغيبة والخيانة وامثالهما من الافعال. وحتى لو فرضنا ان المولى تعالى أجاز ارتكاب هذه الافعال فإن الانسان يجتنبها لقبحها، فالانسان يلتذ بالاشياء الجميلة، كذكر الله، وينفر من الاشياء القبيحة. وينتمي المتكلمون – سيما العدلية منهم - الى هذا الاتجاه في باب الحسن والقبح العقليين، كما ينتمي « افلاطون » الى هذا الاتجاه ولكن الجميل عنده ليس هو الفعل، وانما هي الروح، والفعل الاخلاقي هو الفعل الجميل االذي يصدر عن تلك الروح.
[5] - على الرغم من التوسع الذي حظي به درس الشيخ ابن سينا للحكمتين النظرية والعملية في الإلهيات والمنطق من الشفاء، وفي كتاب المباحثات. إلا أن البحث فيهما – سيما في العقل العملي – ما زال يشوبه الإبهام، فهل أن العقل العملي هو قوة إدراك في النفس كالعقل النظري، أم أنه ليس من سنخ الإدراك؟ وبكلمة ثانية هل هو قوة عاملة في النفس فحسب - ويطلق عليها أنها عقل بالاشتراك اللفظي - أم أنها قوة عالمة أيضا؟ وهل هما قوتان في النفس أم قوة واحدة؟
[6] - هو مع غناه فقد أهمل فيه جانبا مهما وهو أنه لم ينطلق في بحثه من كلمات القدماء ليعرف جذر هذه المطالب في كلمات الشيخ وأمثاله. والسبب في ذلك هو أنه وصل إلى بحثه عن طريق أصول الفقه لا الفلسفة، واستلهم القسم الأول من بحثه من آراء الشيخ محمد حسين الاصفهاني في باب الاعتباريات.
[7] - امتلاك الغاية مرتبط بالطبيعة نفسها، بيد أنها قد تشعر بهذه الغاية تارة (كما في الحيوان)، ولا تشعر بها تارة اخرى.
[8] - كلامه يشبه كلام « الداروينية الحديثة » التي ترى ان الاصل في الانسان والحيوان هو تنازع البقاء، والذي عبّر عنه هو بالاستخدام. فالاصل في الانسان التنازع الذي ياتي التعاون بعده، فالانسان يتنازع ليبقى. وليس العدو نوعا واحدا دائما، فقد يتفق الناس على عدو مشترك، لاحساسهم انهم غير قادرين على مواجهته منفردين، وأن بقاءهم رهن بتآزرهم، فينشأ التعاون كما تنشأ المعاهدات التي تبرمها الدول فيما بينها دفعا لخطر مشترك. فهو في الحقيقة تعاون منبعث من التنازع، ولهذا تحدث الحرب بين الاصدقاء في الظاهر عندما يزول العدو المشترك. وبعد مدة يسيرة ينشأ الخلاف بين الفئة الغالبة وتحصل الحرب ثانية، وهكذا حتى اذا بقي اثنان احتربا ايضا، وكان البقاء للأصلح. وإذا بحثنا عن جذور المبادئ الاخلاقية للتعاون والتآلف والاتحاد وأمثالها، وجدناها ناشئة عن التنازع. ومعنى هذا انك اذا اردت ان تبقى ازاء العدو من طبيعة وغيرها، فسبيلك الصدق والاستقامة وأمثالهما. والجدير بالذكر ان اصل الاستخدام الذي رآه السيد الطباطبائي عاما للاحياء ليس مقبولا لدينا (الشهيد مطهري)، فمسألة الحسن والقبح العقليين وما يجب وما لا يجب، تختص بالانسان الذي ينجز اعماله الاختيارية بالارادة والفكر، اي الانسان الراشد، اما الطفل والحيوان وما لا مجال للعقل العملي اليه، فلا يمكن ان بشملهم عالم الاعتبار الذي هو خاص بالانسان العاقل، خلافا الطباطبائي.
[9] - ما قاله « راسل » واضرابه يعود الى قول « الطباطبائي » هذا، فقد قالوا بانه لا يمكن اتخاذ معيار للاخلاق، وان غاية قولنا (هذا الشيء حسن) هو ان القائل يحب ذلك الشيء، وحبه له لا يعني ان الجميع يحبونه، فالحسن عندي هو شيء آخر عند غيري، وما كان حسنا لدى الماضين هو غيره لدى اللاحقين به.
[10] - ناقش « راسل » وجهة النظر الأفلاطونية التي تنظر إلى الحكمتين النظرية والعملية بعين واحدة، فالخير عند « افلاطون » هو الحقيقة الأخلاقية التي يجب على الإنسان ان يعرفها، وهو حقيقة مستقلة عن النفس، لذلك لا فرق بين الأخلاق والحقيقة بنظر « افلاطون ».

ha.ye.ba

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق