السبت، 23 أكتوبر 2010

التأويلية الإسلامية وسؤال المعنى

[1]
يتم تناول النص من خلال ما يثيره من معان تنسبق منه إلى ذهن القارئ، ويتجلى المعنى وفق مستويات متفاوتة تساهم فيها المفردة اللغوية إلى جانب تركيب الجملة والسياق الكلي، فيكون للجملة بما لها من تركيب خاص دوراً مرجعياً في الإضاءة على المفردات اللغوية وتفسيرها، كما يكون للسياق العام مرجعيته في رسم تفاصيل الصورة الكلية للنص من خلال ضبط إيقاع الجمل وانتظامها بحيث يتشكل منها نسيج النص وروحه. وبهذا، يتجلى النص وفق سياقات وأساليب مختلفة بأشكال ومستويات متعددة، الأمر الذي يؤكد على ضرورة ملاحظة هذا التشابك الكلي كشرط للاستنطاق، واستقامة القراءة، بعيداً عن أحادية النظرة التي من شأنها توتير النص في مدلولاته المحتملة والحيلولة دون استنطاقه ومعننته. وقد تنشأ الصعوبة في القراءة من داخل بيئة النص، نظراً لاحتوائه على مادة غنية بالدلالات، تفترض مستوى من القراءة تسمح باستجلاء الزخم الكامن فيه، كما هو الحال بالنسبة للنص القرآني، إذ «كل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم، وكل عبارة وراءها عالم من الصور، والظلال، والمعاني، والإيحاءات، والقضايا، والقيم». وقد تنشأ الصعوبة من خارج النص حين يراد إسقاطه وتسييله وفق واقع ظرفي خاص أو توجه ذرائعي معين، ويفضي ذلك إلى تطويع النص وَلَي عنق الدلالة فيه بما يناسب وجهة النظر المحددة. هكذا بدا النص القرآني ملتبساً غائماً في كثير من المفاصل الأساسية للتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي في الإسلام، نقع على هذه الحقيقة في عبارة النبي (ص) للإمام علي(ع): «تقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل»، وفي تحذير الإمام علي (ع) لابن عباس من الانزلاق في معمعة التراشق الجدلي مع الخوارج: «لا تخاصمهم بالقرآن، فإنه حمّال أوجه، ولكن حاججهم بالسنة». وما ذلك إلا بسبب غنى النص وقابليته للاستثمار وفق الأفق الثقافي الخاص بالقارئ، فإن انفتاح هذه الإمكانية من شأنه أن يهيئ أرضية خصبة للتأويل ويلقي بظلاله على سؤال المعنى الملحّ كقضية محورية تتطلب علاجات منهجية جامعة تسمح برسم المعالم الكلية للنظرية القرآنية في التفسير، وتنأى جانباً بالروح الجدلية التي ساهمت في تأطير النص وفق آليات خاصة أفضت لاحقاً إلى تحجير حركة الفكر. وقد شهد سؤال المعنى أشدّ مراحله جدلاً واضطراباً بين المسلمين في موضوعة الصفات الخبرية، وهي الصفات التي ينحصر طريق إثباتها بالأدلة النقلية فحسب، سواء ما يتعلق منها بذات الله تعالى، كالوجه، واليدين، والعينين، والساق، وغير ذلك. قال تعالى: (خلقت بيديّ) ص: 75، أو ما يتعلق بأفعاله جلّ شأنه، كالاستواء، والنزول، والمجيء، ونحو ذلك. قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى) طه: 5.
النظريات الإثباتية
توزعت الآراء في الموقف من الصفات الخبرية بين مثبت للصفة والمعنى معاً وهو الاتجاه الحرفي، أو مثبت للصفة متصرف في المعنى وهو الاتجاه التأويلي الإجمالي، أو متصرف في كليهما معا وهو الاتجاه التأويلي التفصيلي. ونتناول في البحث هنا النظريات الإثباتية، سواء الحرفية منها أو التأويلية الإجمالية ومعالجاتها. فنعمد إلى رصد بنية النظرية عموماً من خلال تشريحها إلى عناصرها المكوّنة لها، والتي لا تتجاوز بحسب الملاحظة المبدئية الأربعة عناصر، وهي: إثبات الصفة أو نفيها، إثبات معنى الصفة وحقيقتها، والموقف من التجسيم والتشبيه، وعلاقة التفكيك والارتباط داخل بنية النظرية. ويتركز البحث حول العنصر الثاني تحديداً، وهو المقصود بسؤال المعنى، مع ملاحظة أهمية العنصر الرابع وهو مدى ارتباط وتلازم هذه العناصر فيما بينها داخل بنية النظرية الواحدة.
1 - نظرية التكييف
تقوم هذه النظرية على إبقاء الصفات الخبرية على ظاهرها بمعناها الحرفي دون تمييز صفات الخالق عن صفات المخلوق، وتفسّر مثل: «يد اللّه» و«عين اللّه» و«وجه اللّه» على أنها جوارح وأعضاء جسمانيّة، وتدعي أنّ لله سبحانه عينين ويدين مثلما للإنسان. وبهذا تقترف هذه النظرية جناية التشبيه والتجسيم مما هو باطل بصريح العقل والنقل. وتنسب هذه النظرية إلى «الظاهرية» و«الكرّامية» ويعرف أتباعها لأجل ذلك بالمشبّهة والمجسّمة. قال الشهرستاني: «أما مشبهة الحشوية فقد أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص». إذن، تدعو هذه النظرية إلى إثبات الصفة، وإثبات المعنى، وإثبات التجسيم: فهي تثبت اليد والوجه لله تعالى بالمعنى اللغوي المتبادر من المفردة، والذي هو الجارحة والآلة. وتصرّح نتيجة ذلك بالقول بالتجسيم. والتزام جانب الإثبات في كافة عناصر النظرية يجعلها تتوفّر على عنصر الانسجام والترابط الداخلي من الناحية المنطقية. وتنشأ الإشكالية هنا من عدم توافق النظرية فيما خلصت إليه من نتائج مع المضمون الإسلامي الثابت. فهي قضية كاذبة متناقضة بحسب النتيجة والمضمون؛ إذ أن القول بالتجسيم يتنافى ومقام الذات المقدسة، ويسقِط النظرية عن المقبولية، ولهذا لم تستطع هذه النظرية أن تشق طريقها إلى العقل الإسلامي الذي تعامل مع مقولة التجسيم كأصل متسالم على بطلانه عقلاً ونقلاً، وجعل منه معياراً في قبول الآراء ورفضها. وبالتدقيق في عناصر النظرية، نجد أن النص ينتمي إلى الوحي الإلهي بامتياز ويحظى بتوثيق من الدرجة الأولى، فيمتلك بذلك عنصر الثبات الأقصى، ولهذا فإن أي تصرّف في عناصر البنية يجب أن لا يطال ثبات النص. ومن جهة ثانية، إن لازم النظرية لا بد أن ينبثق عنها كضرورة حتمية بحسب المعنى اللغوي في تفسير المفردة، فإذا ثبت المعنى الإفرادي للنص الصريح في الجارحة بإجماع اللغويين، فهذا يحتّم الأخذ باللازم كنتيجة تلقائية لا تقبل التصرف أو التلاعب أو التحوير. وهذا يعني أن أي جهد توافقي يجب أن يتمحور حول العنصر الثاني من عناصر النظرية: إزالة ثبات المعنى. وفي هذا الجانب تحديدا يتركز جهد كل من نظرية «التفويض» ونظرية «نفي التكييف». إن هذا يجعلنا ندرك أهمية سؤال المعنى بالنسبة لهاتين النظريتين.
2 - نظرية التفويض
تقوم هذه النظرية على إجراء الصفات الخبرية على الله سبحانه وإثباتها له مع تفويض المراد منها إليه تعالى. فهذه النظرية تنفي التشبيه والتجسيم، وهي تتوقّف عن بيان المراد من هذه الصفات، ذلك أن اللّه تعالى أعلم بما أراد، ولا نعرف معنى الصفات، ولسنا مكلّفين بالكشف عن هذا المعنى فضلاً عن تأويله. وتترقى هذه النظرية إلى حد تحريم الخوض في الصفات الخبرية بدعوى أن الآيات المشتملة عليها هي من جملة الآيات المتشابهة التي نهى سبحانه عن ابتغاء تأويلها، وأمر عباده بالإيمان بها. قال سبحانه: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العالم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) آل عمران: 7. وتخلص بذلك إلى وجوب الإقلاع عن تفسير الصفات، وتفويض أمرها ومعانيها إلى الله سبحانه. ويتمثّل هذا الاتجاه بالجملة الشهيرة التي أطلقها مالك بن أنس في مقام تعرضه لمعنى الاستواء على العرش: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، وعلى هذا سلك أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي الظاهري وغيرهم من الفقهاء. قال الشهرستاني: «إن جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون إنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله: (الرحمن على العرش استوى)، ومثل قوله: (لما خلقت بيدي). ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له، وذلك قد أثبتناه». وقال الرازي: «هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شيء غير ظواهرها، كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها«. إذن، تقوم المعالجة في هذه النظرية على أساس إثبات الصفة حفظا للنص، وإسكات المعنى درءاً لمقولة التجسيم. وبهذا يتغلغل التفكيك داخل بنية هذه النظرية، فإن إسكات المعنى وإسقاط التجسيم لا ينسجم منطقياً مع إثبات الصفة، فهو تفكيك بين اللازم والملزوم، وبهذا يعوز النظرية عنصر الترابط والانسجام والتوافق داخل بنيتها. ومن هنا يتوجه سؤال المعنى عن التبرير المنطقي المسوغ لهذا التفكيك، فيتطلب إيجاد التوافق بين إثبات الصفة وإسكات المعنى من جهة، وإثبات الصفة وإسقاط اللازم من جهة أخرى. إن تبرير التفكيك بالاستناد إلى أن التفسير الصامت تفويضا أولى من التفسير الناطق تأويلاً، وأن التفويض أسلم من الإثبات، لن يدرأ غائلة التشبيه والتجسيم عن هذه النظرية، إذ السكوت عن الشيء إن لم يكن قبولاً بما له من ظاهر ولو استلزاماً، فهو وقوع تحت قيد مسائلة من نوع أشدّ: فيؤول إلى إدعاء أن الله تعالى خاطبنا بما لا نعقل، وهذا يعرّض النظرية لسهام العبثية - المنفية عنه تعالى بحكم العقل والنقل -، مضافاً إلى أن السكوت لا ينسجم مع الإعتقاد الذي يتسم بطبيعته بسمة الوضوح والبيان، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) إبراهيم: 74، فما هو «معروف» في عبارة مالك بن أنس المشهورة، لن يسعف هذه النظرية بعنصر الوضوح والبيان إلاّ أن يكون مدركا بنحوٍ يكون فيه «معروفاً» في الإطار القرآني والتقرير العقيدي. وما هو المعروف في إطار اللغة لا يرقى إلى مستوى المدلول القرآني والعقيدي ما لم يلحظ فيه سياق الآية ودوره في إسباغ المعنى.
3 - نظرية نفي التكييف
تقوم هذه النظرية على أساس إجراء الصفات الخبرية على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها ولكن «بلا تكييف»؛ جمعاً بين ظواهر النصوص ومقتضى التنزيه. فالله سبحانه له يد وله عين، ولكن يده وعينه ليست كأيدينا وأعيننا. وتنسب هذه النظرية إلى الشيخ الأشعري وبعض الفقهاء كأبي حنيفة والشافعي وابن كثير. قال الأشعري: «إن لله سبحانه وجهاً بلا كيف، كما قال: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، وإن له يدين بلا كيف، كما قال: (خلقته بيدي)«. إذن، تدعو هذه النظرية إلى معالجة من نوع مختلف عن سابقتها، تقوم على أساس إثبات الصفة، وإثبات (المعنى اللائق)، ونفي اللازم. ذلك أن إثبات الصفة يفترض إيجاد نوع من التجانس بينه وبين إثبات المعنى، كما أن نفي اللازم يفترض إيجاد نوع من التجانس بينه وبين إثبات المعنى. لذلك فإن إيجاد التناسب بين إثبات الصفة ونفي اللازم يستوجب تصرفاً في المعنى. وهذا التصرف يقوم على أساس الإقرار بوجود اليد بمقتضى حفظ النص، ونفي الكيفية عنها بمقتضى نفي اللازم. فتُحمل الصفة على المعنى اللغوي لليد مرفوعاً عنها الكيف. وبشيء من التدقيق نجد أن هذا النوع من التفسير يقوم على أساس التمييز بين مستويين من الدلالة: مستوى الدلالة اللغوية المعهودة (حفظاً للنص)، ومستوى الدلالة اللغوية مرفوعاً عنها الكيف (درءاً لما يلزم)، وما يبرر التمييز هنا، هو الحاجة إلى استحداث عنصر جديد إضافي يسهم في التجسير داخل بنية النظرية وردم الهوة ما بين الصفة واللازم. ولكن النظرية إذ تكشف عن إسهام العنصر الجديد في الوصل بين الصفة واللازم، تغفل في الوقت ذاته الثغرة الجديدة التي أحدثها إقحام هذا العنصر الجديد في بنية النظرية، كيف يتم الربط بين (المعنى الظاهر في الحقيقة اللغوية) والذي تم تحييده، و(المعنى اللائق) الذي تم ابتكاره، والحال أن المفاهيم متباينة بذاتها؟ في أفضل الأحوال، يمكن الإجابة بأن النظرية لا تستحدث معنى جديداً هنا، وإنما تقوم بإجراء تعديل طفيف عليه، فإن لفظ اليد مثلا يراد به نفس المعنى اللغوي الموضوع له، ويستعمل هنا بنفس معناه اللغوي مع حذف الشق المتعلق بالكيفية منه بداعي تنظيفه مما لا يليق بجلاله تعالى. وقد يتناسب هذا التحليل مع القول بأن الألفاظ موضوعة لروح المعاني، ولكنه لا ينسجم إطلاقا مع القول بأن الألفاظ موضوعة للمعاني بنفس كيفياتها؛ فإن انتفاء الكيفية يفضي إلى انتفاء الحقيقة. مع أن الذي يتكفله الوجدان العرفي هو أن هذه الصفات موضوعة للمعنى بنفس كيفيته، وذلك لتبادر الكيفية من اليد عند حملها على اللغة، ووضوح التكلف عند حمل اليد على المعنى المستحدث: «البلكفة» (بلا كيف)، فإننا لا نقع على أثر لهذا المعنى المبتكر في فهم القدماء لنصوص الكتاب والسنة، بل نجد البعض من أكابر القوم يذهب إلى القول بالتفويض كما تقدم. وعليه، فإن أي إجراء أو تصرّف في المعنى لا بد وأن يحدث تغييراً في حقيقته سيما وأن المفاهيم بما هي مفاهيم متباينة فيما بينها. ومهما يكن، يظل التفكيك ضارباً بجرانه في بنيان هذه النظرية: فما يفهم من الصفة غير مقصود، وما يقصد منها غير مفهوم، وإذا كان الله تعالى قد خاطبنا بما لا نعقل، فإن هذا يستلزم العبثية وينافي الحكمة. وإن القول بأن لله يداً حقيقية بلا كيف، هو قول يعتريه الغموض والإيهام، ويخالف نهج القرآن الكريم في رسم معالم العقيدة من خلال مخاطبة الفطرة والعقل السليم بلغة واضحة جلية لا يشوبها أدنى تعقيد وإبهام. وبذلك يفتقد سؤال المعنى التبرير المنطقي المسوغ لهذا التفكيك، فيتطلب إيجاد التوافق بين إثبات المعنى اللغوي المتبادر والمعنى اللائق المستحدث، الأمر الذي تتوقف عليه مشروعية النظرية ككل، وهو العنصر اللازم في إيجاد الترابط والانسجام داخل بنية هذه النظرية.
ابن تيمية بين التكييف ونفيه
يتمسك ابن تيمية بما ورد في النصوص من صفات وأفعال لا تتناسب بظاهرها ومقام الذات المقدسة، وينحو في الجواب عن سؤال المعنى باتجاه إفراغ اللفظ من أية دلالة حقيقية على مستوى الفهم، فإذا كان الله سبحانه يستقر على العرش استقراراً، وينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة، ولم يكن لنا أن نقترف جناية التشبيه لتعاليه سبحانه عن صفات المخلوقين، ولم يكن لنا أن نقترف جرم التأويل لاستلزامه مغبّة التعطيل، فلا بدّ حينئذ من إجراء الصفات على ظاهرها وإثباتها على حقيقتها، غاية الأمر إجرائها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، ولن يقدح في ذلك عدم تمكننا من الإلمام بكيفية المعنى اللائق به تعالى مطلقاً. وبهذا يظهر من ابن تيمية تبنيه نظرية «نفي التكييف» التي عمل على صياغتها وبثّها من جديد بعد أن كانت قد هجرت منذ القرن الرابع الهجري نتيجة تصدي ابن الجوزي للحنابلة آنذاك، ونفيه أن يكون مذهبهم هو بعينه مذهب السلف. ومهما يكن، فقد أعاد ابن تيمية إحياء هذه النظرية في القرن الثامن الهجري، ودعا إليها لكونها بين التعطيل والتشبيه، وأثارها بوصفها مذهب السلف الذين: «لا يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا.. ولم يقل أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه في كل مكان، ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنه داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها». وقرّر أنَّ «مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن من فوقية وتحتية، واستواء على العرش، ووجه، ويد، ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضاً من غير تأويل، وبالظاهر الحرفي. فهل هذا هو مذهب السلف حقاً؟.. وقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري، وادعوا أن ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، فكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة»؟!. إن مسوغ التفكيك الضارب بجذوره في متن نظرية نفي التكييف، ونظرية التفويض، يقوم على أساس درء محذور التجسيم اللازم من إثبات الصفة لله تعالى، ولذلك فإن أية مقاربة من شأنها المساس بهذا الارتكاز المحوري سوف تضع هاتين النظريتين على المحك. وبالرغم من تبني ابن تيمية لنظرية «نفي التكييف« بحسب الظاهر، إلا أن منطلقات ذلك التبني لم تكن ناشئة من نفس الفضاء العام الذي تحرك فيه العقل الإثباتي آنذاك، وهو درء محذور التجسيم كأصل متسالم يشكل نقطة ارتكاز في قيام هذه النظرية. ذلك ما توحي به عبارات ابن تيمية التي يشوبها الكثير من التأرجح ما بين التكييف وعدمه، فكثيراً ما بدا ابن تيمية مغرقاً في التشبيه إلى حد المغازلة الصريحة لأتباع نظرية «التكييف« المتطرفين في حرفيتهم، ولعل مرجع ذلك إلى تبنيه للمنطق الاستقرائي الذي وفّر لديه مادة لا بأس بها من النصوص التشبيهية بعد أن استقامت لديه دليليتها. ومن هنا يسوق ابن تيمية في بعض مؤلفاته مقاربة تقعيدية تبرر التشبيه والتجسيم، وهي مقاربة تقوم في جوهرها على أساس التمييز بين التمثيل والتشبيه: فالتمثيل هو تشابه بين شيئين من جميع الوجوه، وهذا هو المنفي في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)، بينما التشبيه يكون بين شيئين ببعض صفاتهما. وهو يرى أن التشبيه بين الخالق والمخلوق لا يقتضي التمثيل: فإن الله سبحانه أثبت التشبيه بينه وبين خلقه، فسمّى نفسه حيا: (الحي القيوم) البقرة: 255، وسمّى بعض عباده حياً بقوله: (يخرج الحي من الميت) الروم: 19، وسمّى نفسه سميعاً بصيراً: (إن الله كان سميعاً بصيراً) النساء: 58، وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً: (فجعلناه سميعاً بصيراً) الإنسان: 2، وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير. وحينئذ فإن إثبات صفات الله التي يقتضي إثباتها التجسيم لا حرج فيه، ولم يرد نفي التجسيم عنه سبحانه. واحتجاج البعض بقصة موسى والسامري حيث قال تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده عجلاً جسداً له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً) الأعراف: 148، لا يصح، فالله تعالى لم يذكر فيما عابه كونه ذا جسد، ولكنه ذكر فيما عابه به أنه لا يكلمهم، ولا يهديهم سبيلاً، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيباً ونقصاً لذكر ذلك، فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيب ونقص. ثم إن أدلة الكتاب والسنة على إثبات العلو والاستواء أكثر من أن تحصر، ودلالتها على ذلك جلية مفهومة، وحينئذ فيقال: إن كان إثبات هذا يستلزم أن الله جسم وجسد، لم يكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر من قصة العجل، لأن ليس فيها أن كونه جسدا هو النقص الذي عابه الله وجعله مانعا من إلهيته. وعليه، لم يرد في النصوص أن التجسيم عيب ونقص، بل دلّت النصوص على إثبات العلو والاستواء بوضوح، ولهذا أثبت ابن تيمية القول بالجهة والاستواء والانتقال والنزول. إن المحذور المتصوّر هنا، أي الوقوع في غائلة التشبيه والتجسيم، لا بد أن يحتكم إلى الرؤية العقيدية الناشئة من عملية التفسير نفسها، فإن ما يمكن أن يعدّ محذورا لدى البعض قد لا يعدّ كذلك بنظر البعض الآخر. ذلك أن أحادية المنهج في التفسير وفق هذا المنحى النقلي من شأنها أن تستبعد قطعيات العقل ومرتكزات العرف كلياً، وبذلك تنأى بغائلة الدور بعيدا عن هذا الوجه، وتسمح للبنى العقيدية أن تنبثق من جراء عمليات تفسير محض نصيّة، دون أن تكون محكومة مسبقاً بسقف تلك البنى. فيتضح أن قيام هذا الوجه من التفسير الحرفي رهن بتعطيل حركة العقل ومرتكزاته العرفية كليا في آلية التفسير، بحيث يغدو سؤال المعنى مشروعاً فقط خارج إطار استجلاء النص نفسه. وهذا الأمر يتم تناوله في سياق الحديث عن قيمة المنهج الأحادي في الإتباع، ويحتكم في نتائجه إلى مدى جدوائيته في استجلاء مضامين النص. وما يهم هنا، هو أن إثبات الصفة، وعدم المانع من إثبات اللازم، يحتّم حمل الصفة على المعنى اللغوي المتبادر من مفردة اليد والوجه ونحوهما بمقتضى الانسجام الداخلي الذي تتطلبه بنية النظرية، وهذا من شأنه أن يضع نظرية «نفي التكييف» القائمة على درء محذور التجسيم على المحك. لذلك فإن سؤال المعنى يغدو أشد تأزماً واضطراباً طالما لم يتوفر له عنصر الإثبات رغم زوال الموانع من طريقه: فهل يثبت ابن تيمية المعنى اللغوي للفظ اليد لانعدام المانع عنه، وبالتالي يقع في تناقض صريح مع المضمون الثابت في فضاء العقل الإسلامي! أم يتمسك بنظرية «نفي التكييف» ليتناقض بذلك مع الأساس الارتكازي لهذه النظرية بشكل لم يبلغه السلف أنفسهم؟! إن سؤال المعنى هنا يتطلب أكثر من أي وقت مضى التبرير المنطقي الذي يفسر إزاحة المعنى، سيما بعد إثبات الصفة، وإثبات عدم المانع من جريان اللازم.
والخلاصة: يظلّ سؤال المعنى مطروحاً بقوة بوجه الاتجاهات الإثباتية كافة طالما أن ما خلصت إليه بكل أطيافها إن هو إلا رؤى من شأنها أن تقودنا في النتيجة إلى الدائرة المفرغة من أي معنى؛ فالبعض وصف جسماً مركّباً منفعلاً متغيّراً وصرّح بأنّه جسم، والبعض الآخر وصف لفظاً وصمت عن المعنى، والبعض الثالث وصف معنى بلا كيف. ولا نجد من بين هذه الاتجاهات سوى اتجاه واحد يحظى بسمة الترابط والانسجام الداخلي، وهو اتجاه «التكييف» الذي أثبت الصفة ولوازمها من المعنى والتجسيم. وحيث إن هذا النوع من الترابط يؤدي إلى الوقوع في محذور التجسيم، بل هو صريح في ذلك، فقد تم استبداله برؤى نسقية غير منتظمة تدعو إلى التفكيك بين المقدمات ولوازمها الحتمية بذريعة التوفيق بين إثبات الصفة حفظاً للنص، ونفي التجسيم حفظاً للمعنى. وهذا التفكيك ما هو في المحصلة النهائية إلا نوع تأويل ليس إلا، غاية الأمر أنه تأويل إجمالي يهدف إلى درء التجسيم من خلال الإثبات والنفي في نفس الآن. إن عملية التأويل تتم وفق مستويين: مستوى التفكيك والفصل من جهة بداعي إزالة الملازمة، ومستوى البناء والوصل من جهة ثانية بداعي إيجاد الملائمة. وقد تكثفت جهود الاتجاهات الاثباتية المتمثلة في »نفي التكييف» و«التفويض» حول المستوى الأول من عملية التأويل، بينما تم تجاهل المستوى الثاني والاكتفاء بالإحالة إلى علم الله تعالى، ولهذا لم تؤتَ هذه الجهود ثمارها إلا لجهة تفريغ النص من معناه وجعله صامتاً. وقد يبرر لهذا النزوع تمسكه بالثابت الملموس في مقابل المتغيّر الحدسي، وحيث إنه لا يمكن الاحتفاظ بكلا العنصرين فلا بد من إسقاط أحدهما لحساب الآخر. وحيث إن النص ثابت متحصن بحرفيته متأدلج بنصوصيته، بخلاف المعنى فهو مأزوم في دلالته، لا مندوحة حينئذ من المصير إلى توتير المعنى وتبديده من الذهن، دون أن يصل الأمر إلى حد استبداله بمعنى آخر؛ فإن استبدال المعنى في قضايا الدين ما لم يكن مستنداً إلى دليل حرفي فإنه يشكل مجازفة خطيرة وتدخّلاً بشرياً سافراً في شؤون المقدّس، الأمر الذي من شأنه المساس بالنص وحرفه عن مسار قدسيته. وإلى هنا تكون العملية التأويلية للاتجاهات الإثباتية قد استنفذت طاقتها. إن الخروج عن الظهور الحرفي بصرف اللفظ عن دلالته في الكيف إلى الكيف المجهول، أو اللاكيف، ما هو في الحقيقة إلا وجه من وجوه صرف المعنى إلى غيره، فلا فرق في التأويل بين إيجاد المعنى أو صرفه إلا بمقدار ما يفتقد في بنياته الداخلية إلى التبرير المنطقي ويكون تأويلاً إجمالياً، ولن يختلف حينئذ جوهرياً عن الاتجاهات التأويلية الأخرى في جهة تبنيه مبدأ العملية التأويلية في الجملة إلا بمقدار طموح التأويلية التفصيلية لدرء التفكيك بالتزام الترابط في النفي، وليس في الإثبات: أي نفي الصفة، ونفي المعنى، ونفي التجسيم والتشبيه. فإن أتباع التأويل التفصيلي يرفضون إثبات اليد والوجه لله تعالى، وإثبات الصفات بمعنى الآلة والجارحة، وإثبات التجسيم جملة وتفصيلاً. وحيث إن هذه الرفوضات يمليها منطق الترابط والفرار من غائلة التجسيم والتفكيك، لذا، فإن التحدي الذي يواجه التأويليين التفصيليين هو نفسه التحدي الذي واجه التأويليين الإجماليين، وهو مدى قدرتهم على إثبات تأويلاتهم وفق الأسس العلمية المقبولة.

[2]
توزعت الآراء في الموقف من الصفات الخبرية بين مثبت للصفة والمعنى وهو الاتجاه الحرفي، أو مثبت للصفة متصرف في المعنى وهو الاتجاه التأويلي الإجمالي، أو متصرف في كليهما معاً وهو الاتجاه التأويلي التفصيلي. وقد تناولنا أعلاه النظريات الإثباتية بالبحث، وبيّنا أنها - فيما عدا الاتجاه الحرفي المتزمّت - تستند في جوهرها إلى نوع من التأويل الإجمالي، يقوم على التفكيك بين الشيء ولوازمه، والإحالة في المعنى، بداعي التوفيق بين إثبات الصفة حفظاً للنص، ونفي التجسيم حفظاً للمعنى. والتأويلية اتجاه في التفسير يقوم على النفي والإثبات معاً، وهي إذ تطمح إلى تجاوز هاتين العقبتين تنجز ذلك على مرحلتين: صرف اللفظ عن دلالته الأولية في جهة النفي، وترجيح كفة الدلالة الثانوية في جهة الإثبات. وكلاهما تصرف على خلاف الطبيعة الأولية للأشياء، ولأجل ذلك يفتقر التأويل إلى عنصر التطبيع، ويحرص على امتلاك مبررات وجوده التوافقي من داخله، وذلك وفق إجراءين: أولاً: اتخاذ الوضعية الطارئة كنمط في الوجود. لجهة استناده إلى المجاز ونحوه، فلا يتطرق إلى نطاق الوضع، وإنما يعمل في إطار الاستعمال، ويبقى بمثابة حالة طارئة لا غير. ولئن كان «الوضع» يهتم بجعل اللفظ على المعنى وتخصيصه به، فإن التأويل يستند في مشروعيته إلى هذه الخصوصية الوضعية التي تسود العلاقات اللغوية، ولا يسعى إلى تقويض قواعد اللعبة التي تحكم المسار اللغوي من خلال العبث بالألفاظ والمعاني وضم الأغيار إلى بعضها البعض جزافاً، إذ الوضع يهيئ الأرضية اللازمة لإجراء العملية التأويلية، دون أن تصل تلك العملية إلى حد المساس به. فالتأويل هو نقلة من الأصل الذي يشكل نقطة ارتكاز أولية تتماهى مع طبيعة الأشياء، إلى الفرع الذي يظهر دائماً في صورة الوضعية الطارئة. والتأويلية تستبيح اللفظ دون أن تخلف المعنى الأصلي عليه، إذ التأويل يأبى أن يتحول إلى أمر واقع مما من شأنه أن يفقده هويته التأويلية، لذلك لا يسعى إلى ترقية المعنى التأويلي إلى مقام الوضع، وإنما يستثمره في مقام الدلالة الاستعمالية فحسب. وهنا تحديداً ينشأ عنصر المراوغة فيه: فهو إذ يعبث بالأدوار يحرص على إبقاء الأشياء في مواقعها، فيحتفظ بالسيطرة والقدرة على التحكم في مسار الأمور في نفس الوقت الذي ينأى بنفسه عن الظهور في طور الواقع الرسمي. ثانياً: تتيح ثنائية النفي والإثبات لمفهومين أن يتعاقبا على لفظ واحد طولياً بسبب قيام علاقة ما بينهما، ومن خلال هذه العلاقة تتشكل العملية التأويلية في مرحلتيها: مرحلة النفي والفصل من جهة بداعي تفكيك الموائمة، ومرحلة الإثبات والوصل من جهة ثانية بداعي تحقيق الملائمة. وقد حصرت الاتجاهات الاثباتية ذات المنحى التأويلي جهودها في المستوى الأول من عملية التأويل، فيما أحالت المستوى الثاني إلى المجهول، الأمر الذي أفضى إلى إرباك المفهوم؛ إذ المفهوم الواحد بما هو مفهوم لا يحتمل ورود التجزئة عليه بالنفي والإثبات وإلا لاختلت هويته وكينونته الخاصة، ذلك أن العبث في المفهوم الواحد، بإثبات شق منه - وهو المتعلق بالجارحة مثلاً - ونفي شق آخر منه - وهو المتعلق بالكيف – من شأنه إلحاق الضرر بعنصر الثبات في الوحدة المفهومية، فإن المفهوم متقوم بتمام أجزاءه. وإذا كان الشيء الجديد هنا هو التأكيد على النفي دون أن يلامس ضفاف الإثبات حفظاً لهيبة النص من الإقحامات الدخيلة؛ بحجة أن الإثبات يستدعي المساس بالنص وحرفه عن مسار قدسيته. فلن يزيد الإثبات بشيء على النفي لجهة المساس بالمفهوم وعرقلة النص عن مهامه الدلالية، وبذلك لن يؤتي هذا الجهد ثماره إلا لجهة تفريغ النص من محتواه وجعله صامتاً. إن استناد النظريات الإثباتية إلى الثابت الملموس في مقابل المتغيّر الحدسي، بدعوى أن النص متحصن بحرفيته متأدلج بنصوصيته، بينما المعنى مأزوم في دلالته، لن يسهم سوى في تبديد المعنى من الذهن تحت عبء قدسية المطلق، ولكن ذلك لن يكون في صالح النص، ذلك النص الذي تتقوّم هويته ونصوصيته بكونه ذا معنى ودلالة! بل إن الجهد التأويلي الباحث عن المعنى هو في صميمه جهد باتجاه النص، وإسهام في حفظ نصوصيته قبل أن يكون أي شيء آخر. ولن يشكل التأويل تدخّلاً بشرياً في شؤون المقدّس طالما أن قواعد اللعبة التأويلية محفوظة في عرف اللغة العربية التي منها تَشكّلَ الخطاب القرآني. بل إن الإحالة إلى مجهول، وتخصيص المجاز بغير الكتاب، ونحوها من إقحامات على النص إن هي إلا مجازفة في طريقة التناول، لا تحظى في عرف اللغة القرآنية - والتي من أهم خصائصها: البيانية والهدفية - بأي رصيد يذكر. ومهما يكن، فلا فرق في التأويل بين إضفاء المعنى أو صرفه إلا بمقدار ما تفتقد النظرية في بنيتها الداخلية إلى النسق المنطقي ويكون تأويلاً إجمالياً، ولن تختلف حينئذٍ جوهرياً عن الاتجاهات التأويلية الأخرى في جهة تبنيها مبدأ العملية التأويلية في الجملة إلا بمقدار طموح التأويلية التفصيلية لدرء التفكيك بالتزام الترابط في النفي، وليس في الإثبات: أي نفي الصفة، ونفي المعنى، ونفي التجسيم والتشبيه. فإن أتباع التأويل التفصيلي يرفضون إثبات اليد والوجه لله تعالى، وإثبات الصفات بمعنى الآلة والجارحة، وإثبات التجسيم جملة وتفصيلاً. وحيث إن هذه الرفوضات يمليها منطق الترابط والفرار من غائلة التجسيم والتفكيك، لذا، فإن التحدي الذي يواجه التأويليين التفصيليين هو نفسه التحدي الذي واجه التأويليين الإجماليين، وهو مدى قدرتهم على إثبات تأويلاتهم وفق الأسس العلمية المقبولة.
النظريات التأويلية
يؤكد التأويليون على أنه كما أن تجاوز الحد في التنزيه يؤدي إلى التعطيل، فكذلك تجاوز الحد في التشبيه يفضي إلى التجسيم، فإن التمسك بظواهر المفردات التي تتحدث عن الصفات الخبرية يفضي إلى تشبيه الله بخلقه ونسبة التجسيم إليه تعالى لذا يجب حملها على خلاف ظاهرها. وإذا كان لا بدّ من الذهاب باللفظ إلى حيث مدلولاته الثانوية، وتفسير الصفات على خلاف ما يظهر منها بالظهور الأولي، تنزيها لله تعالى عن التشبيه والتجسيم وما يلزم منهما من الحلول والتحيّز والأعضاء والانفعال ونحو ذلك، ولأن الله تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها، فإن هذا يحتّم تأويل الصفات المسماة خبرية إلى معان تليق بجلاله تعالى انسجاماً مع ما قطع به العقل وثبت به التنزيل المحكم من أنّه تعالى شأنه (ليس كمثله شيء) الشورى: 11، فالمتشابه يردّ إلى هذا المحكم حينئذ. وفي المقابل ترفض الاتجاهات الحرفية المتمسكة بظاهر الصفات الخبرية إدراج نصوص الصفات هذه في دائرة المتشابه الذي لا يراد ظاهره، وتنعت التأويليين بأنهم من المعطلة والنفاة للصفات. إذن هذا الموقف الإشكالي يستدعي تصرفاً ما يجعل من الصفات شيئاً يليق بجلاله. وفي هذا يلتقي التأويليون كافة، سواء انتموا إلى المنحى الإجمالي أو التفصيلي. غير أن السبل والوسائل التي اتبعت لتحقيق هذه الغاية جاءت مختلفة ومتباينة مما يضعنا مباشرة أمام إشكالية المنهج. ويتمثل الموقف التأويلي التفصيلي في مجال الكلام في تيارات ثلاث رئيسة، هم المعتزلة وبعض الإمامية وبعض الأشاعرة.
التأويل الاعتزالي
تدور العقيدة لدى المعتزلة مدار اليقين لا الظن، وإذا كانت ظواهر النصوص من كتاب وسنة ظنية الدلالة، وكانت أدلة العقل الصحيح قطعية الدلالة، فلا بد عند التعارض من تقديم العقل على النقل، وجعله الأصل الأوّل، بل الأصل للكتاب وللسنّة. يقول القاضي عبد الجبار «فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول»، فالمحكمات تزيل ما اشتبه معناه من نصوص الصفات باعتبار أن المتشابه هو «ما خرج ظاهره عن أن يدل على المراد» . فإذا وقع التعارض بين العقل والنقل، يجب التصرف في النقل بما يلائم العقل ويتفق معه، وإلا قدّمت الأدلة العقلية على ظاهر النصوص، وأحسن الظن بالنصوص بأنها: مما يراد به الابتلاء، لا اعتقاد ما دلت عليه. فإذن، تتوقف العملية التأويلية هنا على العناصر التالية: الإيمان بقيمة العقل. أولوية اليقين على الظن. ظواهر النصوص ظنية الدلالة. الاعتقاد لا يثبت بخبر الآحاد. الإيمان بوجود المجاز في القرآن. إمكان وقوع التعارض بين العقل والنقل. أولوية العقل على النقل في صورة التعارض. وقد تحفظ المعتزلة في الاستدلال بظواهر الكتاب والسنّة في الاعتقاديات، لإفادتها الظن، ولا مكان للظن في العقائد. ومن جهة أخرى اقتصروا على المتواتر، إلاّ قليلاً، من الحديث، فساهم ذلك في تضييق دائرة النقل، والتوسعة في المنحى العقلي في الإثبات والنفي، وبذلك أخضعوا النصوص للتأويل كونه هو المفيد لليقين العقلي. وقد ساق المعتزلة الحجج العقلية واللغوية لتأويل صفة الوجه، والعين، واليد.. بصرفها عن ظواهرها إلى المعاني المجازية لها. ففسروا اليد مثلا بالنعمة والقدرة، معتمدين في تأويلها على قياس الغائب على الشاهد فيما يعرف بقياس المخالفة بين المطلق والمحدود من كلّ وجه. كما تناولوا صفات الأفعال التي يلزم من بقاءها على ظاهرها التجسيم والتشبيه لزوماً عقلياً، فأوّلوا صفة الاستواء والنزول والمجيء والإتيان بمعان تليق بشأن المولى تعالى، لأنه يلزم من بقائها على ظاهرها محدودية الله تعالى في المكان، وكونه جسما يقبل الأعراض، والعقل لا يجيز اتصاف الله تعالى بشيء من ذلك. فلا بد وأن يكون المراد من الاستواء على العرش معنى مجازي تمثيلي هو الاستيلاء وإظهار القدرة، إذ أن الاستواء بالمعنى الحرفي الذي هو الجلوس محال في حقه تعالى: (ليس كمثله شيء). وبهذا يتحتّم اعتماد المجاز حلاً لإشكالية التعارض الظاهري بين النصّ والعقل. وقد اتسع التأويل الاعتزالي ليشمل الصفات الثبوتية أيضاً، كالعالم، القادر، الحي، السميع، البصير، فليس هناك برأيهم صفات على الحقيقة، وإنّما هي كلمات ملفوظة أو مكتوبة ليس لها من معنى أكثر من الوصف. وقد نفوا أن يكون هناك ألفاظ وكلمات في الأزل، ولهذا لم يصف اللّه تعالى نفسه في الأزل. وإذا كان اللّه تعالى في الأزل بلا صفة ولا اسم، فإن كلامه تعالى يكون مخلوقاً له كسائر المخلوقات. وتمثّل هذا القول بالجهم بن صفوان، وتابعه واصل بن عطاء مؤسّس «المعتزلة». ولذلك اتهموا بتعطيل الصفات وعرفوا بالجهمية والمعطّلة.
التأويل الأشعري
يتمثل موقف الأشاعرة في أقرب أشكاله المنفتحة على المحيط من خلال الموقف التأويلي لدى كبار الأشعريين، وهو مجال يشوبه الكثير من التوجس في الموقف الرسمي الذي يرى استحالة أن يصف الله تعالى نفسه بما يلزم منه نقص فيه تعالى، وبالتالي، فإنّ كل ما وصف به الله تعالى نفسه فهو من الثناء على الذات بصفات الجلال والكمال، من ذلك ما وصف به سبحانه نفسه من نزول إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير، واستواء على العرش، ومجيء يوم القيامة.. فهذه الصفات لا بد أن تكون صفات كمال. إن صفة الاستواء مثلاً - والتي يظن المتأوّلون أنّها صفة نقص، وبالتالي ينسبون إلى الله تعالى أنه وصف نفسه بالنقص، ثم ينفونها عنه ويؤولونها - هي في الحقيقة صفة كمال وجلال، وما ذكرها سبحانه في موضع من كتابه إلا مقرونة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها. ولهذا، فإن المسلم إذا سمع صفة وصف الله بها نفسه، أول ما يجب عليه أن يعتقد أن تلك الصفة بالغة من الجلال والكمال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينها وبين صفات المخلوقين، فيؤمن بها على أساس التنزيه. إن كل وصف أسند إلى الله تعالى فظاهره المتبادر منه هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق، فإقراره على ظاهره هو الحق، والعاقل لا ينكر أن المتبادر للأذهان السليمة أن الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته. فلا يلزم من استوائه على عرشه كما قال أن يشبه شيئاً من المخلوقين في صفاتهم، بل استواؤه صفة من صفاته، وجميع صفاته منزهة عن مشابهة الخلق كما أن ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق. وهذا الجواب يطرد في الكل، فإن جميع الصفات من باب واحد بلا فرق بينها؛ والموصوف بها واحد، والصفات والذات من باب واحد، وكما أننا نثبت ذات الله تعالى إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية مكيفة، فكذلك نثبت لهذه الذات المقدسة صفات، إثبات إيمان ووجود، لا إثبات كيفية وتحديد. إن التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إنما يكون مقبولاً فيما إذا كان لدليل صحيح من كتاب أو سنة، إما إذا لم يكن لدليل، أو كان لشيء يعتقد أنه دليل وهو في نفس الأمر ليس بدليل، فهذا من التأويل الباطل الذي نهى عنه الكتاب العزيز. إن الخطأ الذي يرتكبه المتأوّل هو أنه إذا سمع صفة من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه، أول ما يسبق في ذهنه أن هذه الصفة تشبه صفة المخلوق (فيكون فيها مشبهاً)، فيدعوه ذلك إلى أن ينفي هذه الصفة عنه تعالى، إذ لا يليق به تعالى أن يتصف بصفات المخلوق (فيكون فيها معطلاً). وخلاصة هذا النهج المتحفّظ: إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله (ص) من غير تكييف، والإيمان بمعاني ألفاظ النصوص مع التنزيه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق، طلباً للسلامة من ورطتي التشبيه والتعطيل، وإن التأويل مذموم: إذ منه ما هو كفر كتأويلات الباطنية، ومنه ما هو بدعة وضلالة كتأويلات نفاة الصفات، ومنه ما يقع خطأ. هكذا، بدا موقف الأشاعرة متأرجحاً بين التمسك بحرفية الصفات الخبرية تارة، وهو ما نسب إلى متقدمي الأشاعرة كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني، أو التمسك بضرورة التأويل لكل ما أوهم التشبيه تارة أخرى، وهو ما يظهر من متأخري الأشاعرة كإمام الحرمين أبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي والرازي ومن تأخر عنهم. ومهما يكن، فقد استدلّ الأشعري والباقلاني في منهجية البحث حول الصفات الخبرية بالعقل إلى جانب الكتاب والسنّة. وتبنى الجويني والغزالي ومن جاء بعدهما من الأشاعرة تأويل الصفات الخبرية بقسميها، نظرا لعدم صحة الاحتجاج بدلالة النصوص الظنية إلاّ بعد اعتضادها بالدليل العقلي، والتقوا بذلك مع من سبقهم من المعتزلة على مستوى المنهج. وقد عمد الغزالي في تفسيره للصفات الخبرية إلى التفويض تارة والتأويل أخرى، مشدّداً على أن التأويل مذهب العلماء ولا يجوز للعوام الاشتغال به. على أنه ثمة ادعاء بأن ما صرّح به أبو الحسن الأشعري من التمسك بظاهر الصفات الخبرية في كتابه «الإبانة من أصول الديانة» إنما كان تقية لموافقة الاتجاه الحنبلي. وفي المقابل ينسب إلى الجويني في كتابه «العقيدة النظامية» والغزالي في كتابه «إلجام العوام» تراجعهما عن القول بتأويل الصفات لصالح الأخذ بدلالتها الظاهرية . وسواء كان هذا التأرجح متأثّراً في بعض مراحله بسيادة المذهب الأشعري كمذهب رسمي للدولة، الأمر الذي يعطي الأولوية للنقل على العقل، باعتبار أن النقل سلطة وانضباط والعقل معارضة وتمرد، والنقل يحتاج إلى مرجعية ذات سلطة تفسره والعقل يؤسس قواعده بشكل مستقل عن أي سلطة من خارجه. أو كان متأثراً بالضغوط التي مارسها الاتجاه الحنبلي - السلفي في بعض مفاصله، إلا أن الاتجاه الأشعري شهد رغم ذلك منعطفات فكرية هامة امتدت خلالها جسور التواصل ما بين العقل والنقل وإن بشكل محدود، وتبنى فيها الأشاعرة مقولة التأويل القائمة على أساس إنارة متشابه القرآن بردّه إلى المحكم: (منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران: 7، واهتموا بمعالجة التعارض الظاهري بين العقل والنقل، وإحكام المتشابه بردّه إلى المحكم، وذلك من خلال إدخال عامل المجاز على اللغة بمقتضى التناسب في الدلالة ما بين النقل والعقل. وإذا أمكن الاستدلال بالنقل، لكن التعويل على الأدلة العقلية . فإن ما دلائله يقينية يحكم بها العقل، وقد تأيدت بالنقل، فالاعتماد هنا على الأدلة العقلية، وأما النقلية فهي تؤيدها فحسب. وبهذا استند الأشاعرة في تأويل آيات الصفات إلى المجاز، وعلى هذا الأساس نفى ابن رشد التعارض الظاهري ما بين العقل والنقل، وكذلك ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن»، وابن المنير في ردوده على تفسير الزمخشري وغيرهم. ولئن حصل التقاء في المنهج، إلا أن ذلك لم يسمح باختراق الخطوط العقائدية الفاصلة بين الاتجاهات الفكرية المختلفة إلا نادراً جداً، فقد ساهم المنهج الواحد في توكيد الرؤى المتخالفة، كما ظهرت اجتهادات حول الضوابط التي يؤدي الخروج عنها إلى تزييغ التأويل نتيجة فتح بابه على مصراعيه، فيلقي الإمام الشوكاني مسؤولية هذا التزييغ على عاتق التيار الأصولي السني المتمثل بالجويني والغزالي والرازي، إذ «هم الذين وسعوا دائرة التأويل وطولوا ذيوله»، وهذا العجز في التوفيق بين العقل والنقل مرجعه إلى سوء تقدير التأويل كما يرى ابن رشد. ومع ذلك، فإن دائرة التأويل الأشعري ضاقت بما رحبت: إذ تمحور التأويل حول القضايا التي كانت مثار جدل مع المعتزلة، والتي تتعلق بالتوحيد والتنزيه والعدل وخلق الأفعال، واقتصر التأويل على القرآن دون الحديث: فقد أطلق الأشاعرة دائرة مثبتات العقيدة لتشمل أحاديث الآحاد، فجوّزوا على سبيل المثال رؤية الله جلّ شأنه يوم القيامة استناداً إلى بعض أحاديثهم التي بقيت بمنأى عن أي نشاط تأويلي.

ha.ye.ba

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق