السبت، 23 أكتوبر 2010

اشكالية العلاقة بين المثقف وعالم الدين

تحكم المثقف في عالمنا الاسلامي هواجس النهوض الحضاري، وهي هواجس أكبر من أن يحيط بها مثقف أو يتصدرها طالما أنه لم يع تراثه وعيا كاملا، فلا يتاح له ان يعيش حالة التوازن بين ماض يريد العزوف عنه ومستقبل يطمح اليه، ويتسبب ذلك عادة بالقطيعة مع التراث والتي تتبدى باشكال مختلفة، وهي قطيعة تترسخ معالمها من خلال ما يستوحيه من نظم وافدة لا تنتمي بحال الى هذا التراث. وفي المقابل يتسلح عالم الدين بما يفتقر اليه المثقف من نظم تراثية "شب عليها وشاب". ولكنه مع ذلك قد يقع في اسر هذه النظم بحيث يتعسر عليه ان يتجاوز ما يمكن تجاوزه فيها، ويعود السبب في ذلك الى الطرق التي من خلالها يهضم التراث والتي قد لا تفسح في المجال لمثل هذا التجاوز. ولا اقصد بهذا الاستهلال ان افصح عن لب المشكلة القائمة بين المثقف وعالم الدين بمقدار ما قصدت الى الافصاح عن المراد من المثقف هنا ولو بنحو الاشارة والاجمال ومن دون الدخول في التحديدات المملة، فانه ليس من المفارقات الكبرى ان يقوم عالم الدين بمهمة المثقف أو العكس، ولكن عالم الدين يغدو مثقفا، كما ان المثقف يكون مدفوعا بالحمية الدينية في تلك الحال. ومهما يكن فقد تطرقت فيما يلي الى بعض النواحي التي قد تسلط بعض الضوء على مجالات يظهر فيها الخلاف بين المثقف والعالم الديني بحسب ما تهيأ لي في هذه العجالة.
سطوة الاسس الفكرية
ان الانسان محكوم في رؤيته للواقع لشبكة من المؤثرات والمنظومات الفكرية التي درج عليها في اثناء تكوينه الذهني. ونظرا لتفاوت المنطلقات والاهداف التعليمية ما بين الحوزة والجامعة، فان الواقع سوف ينعكس في ذهنية المتلقي عموما على اساس من طبيعة هذه المؤثرات التي يخضع لها في فهمه للاشياء، وبالتالي يتبلور فهمه للاشياء بالكيفية التي تشكلت بها ذهنيته الثقافية. ولا فرق في ذلك بين المثقف وعالم الدين، واذا اخذنا بعين الاعتبار طبيعة الاختلاف الجوهري القائم ما بين الدراسات الحوزوية والجامعية بحسب المنطلقات والاهداف وحتى المعطيات المباشرة، فاننا سنفاجأ حين نجد ان المشكلة التي يعاني منها الطرفان واحدة، ولكن مع اختلاف في المنطلقات والاهداف وحدّة التباين في الرؤية ايضا. فالعلم لا يكون علما الا بمقدار ما يلامس الواقع. وبهذا الاعتبار، سوف تقف بين المثقف والعالم الديني من جهة، والواقع الذي ينتمي اليه كل منهما من جهة ثانية فاصلة، هذه الفاصلة يمكن ان نعبر عنها كما يلي :واقع لا ينتمي الى الاسس الفكرية "المستوردة والمعاصرة"، والمطلوب في هذه الحالة تغيير الواقع بما يتناسب مع تلك الاسس كشرط للانطلاق. وتلك هي مشكلة المثقف. وواقع ينتمي الى الاسس الفكرية "التراثية"، ولكن مع وجود مساحة فاصلة تستدعي تطوير الخطاب وتحيينه وتفعيله لمعاصرة الحدث. وتلك مشكلة عالم الدين.
التخصصية سلاح ذو حدين
العلوم الاسلامية متمحورة حول النص، ومن ميزات النص الديني انه شمولي، ونظرا لتعقيد الواقع فان ربط النص بالواقع يستدعي العمل على ايجاد التخصصية في مجال العلوم الدينية. وفي حين يفتقر الواقع التثقيفي الديني عموما الى هذه التخصصية، ويتسم العالم الديني بالشمولية على مستوى الطرح، نجد ان المثقف ينطلق في مجالات التنظير من جانب تخصصي.. وينجم عن ذلك واحدة من الاشكاليات التي تندرج في اطار سوء الفهم. فقد يختلف العالم الديني في وجهة نظره مع المثقف بالرغم من ان المضمون الذي يقدمانه قد يكون هو ذاته، والعكس صحيح ايضا. أو يتفاقم الخلاف حول قضايا لا مبرر للاختلاف حولها، والعكس هنا صحيح ايضا. وفي المقابل، فإن المشكلة قد تنعكس تماما فيما يبدو شبيها بتبادل الادوار، وذلك بسبب من طبيعة المنهج الذي تحتكم اليه الدراسة الحوزوية والجامعية، وبحسب بعض التعبيرات فإن الدارس الاكاديمي ينظر الى الاشياء "نظرة عصفورية"، بينما الدارس الحوزوي ينظر اليها "نظرة دودية"، فالاول ينظر الى العلاقات والروابط القائمة بين التيارات الفكرية بنظرة كلية شاملة في محاولة استجلاء معالمها الرئيسية وذلك من خلال مقارنة اوجه الاختلاف فيما بينها والحدود التي تفصل بعضها عن بعض، ولكن من دون الدخول في المعطيات المباشرة للظواهر المدروسة. بينما يغرق الثاني في المعطيات المباشرة، بحيث تكاد أن تغيب عنه المعالم الكلية الفاصلة بين هذه التيارات الفكرية غالبا، ولكنه يمتلك بذلك وعي الحقيقة في تفاصيلها وهمومها الآنية. وفرق كبير بين التحليق بعيدا عن الارض، وبين الاحتكاك الحميم بها. واذا صح شيء من هذه الفروق الاشكالية – وهي تعبر عن مأزق المثقف بالدرجة الاولى -، فان ملائمة ما بين الفكرين بحيث تنأى هذه الاشكالية جانبا، لا تكاد تتأتى الا من خلال ايجاد التخصصية على المستويين الاكاديمي والحوزوي من جهة، واحاطة كل من الطرفين بالمكونات الفكرية لدى الطرف الآخر فيما يشبه عملية التكامل الفكري بينهما من جهة ثانية على أن ذلك قد يساعد في التخفيف من حدة الإشكالية نوعا ما، دون ان يعني بالضرورة زوالها.
البعد الايديولوجي في تفسير الظاهرة
ينظر الى التفسير المادي النافي للتفسير الغيبي، على انه واحد من الابعاد الايديولوجية التي تدخل في نسيج البناء العلمي، بحيث تتشكل على اساسه الهوية العلمية. وهذا يكشف عن بعض وجوه التفاوت في المنطلقات الفكرية بين المثقف وعالم الدين. فحين ينطلق المثقف وعالم الدين لمعالجة قضية ما من قضايا الواقع المعيوش، مثل قضية "الاصابة بالعين" أو "الجن" مثلا، هنا سوف يعمد المثقف الى تحليل هذه الظاهرة على الاسس العلمية، واذا لم يجد لها تفسيرا ضمن النطاق الفيزيائي، أو النفسي التجريبي.. سوف يعمد الى رفض هذه الظاهرة. وهو في رفضه لها لا ينطلق من اسس علمية، فيكفي ان تنتفي القدرة العلمية على سبر اغوار الظاهرة حتى يتبرر بذلك نفيها عن الواقع المقبول لديه! بينما عالم الدين لا يتوقف عند الاثبات المادي المباشر لهذه الظاهرة طالما أن النص قد برر للاعتراف بها، وطالما ان العقل لا يرى استحالتها، وطالما أن العلم القطعي لم ينطق بكلمته بعد، وحتى في صورة افصاح العلم عن رأيه ازاء الظاهرة، فإن الكشف عن البعد المادي لا ينفي وجود البعد الغيبي أصلا. ومهما يكن فإن التعارض هنا – في المعطيات المادية – بين الدين والعلم لا يعدو ان يكون وهميا وغير حقيقي. وهذا يشبه الى حد كبير التعارض الموهوم في مجال العلوم الانسانية، حيث يتم اخراج القضية بصورة صراع ما بين الدين والعلم. وقد يسعى المثقف بدافع من الاعتداد العلمي، الى تقديم تصوراته بصفتها ناجزة ومكتملة، مع انه - وبمقتضى العلمية ذاتها - تميل التصورات العلمية الى ان تكون حيوية، وهذا لا يتأتى الا من خلال تقديم العلم نفسه على انه منهجية وطريقة في البحث لا اكثر.
الفصل بين الأحكام والموضوعات
قد يثير البعض قضية ان الفقيه يعمل على انتاج الحكم الشرعي للواقع من خلال خبراته الأصولية والفقهية، وأن المثقف ينتج الواقع الذي ينطبق عليه الحكم ويحدده، ويرى في هذا تكاملا معرفيا. وهو يسعى بهذا لاجراء نوع من المصالحة التبرعية، كالتي تكون بين الخصوم، بحيث لا تستند الى اساس سليم. فلا ينبغي تبسيط الامر بحجة الحصول على وفاق بين عالم الدين والمثقف، بحيث تتم المصالحة على اساس ما يشبه التعاقد التصافقي، ويتم تبادل الادوار على أساس تكافؤ حصصي. فان مثل هذا التكامل قد ينفع فيما لو كانت المشكلة نابعة من تجاوز كل من الاطراف لمجال اختصاصه والتعدي على مجال اختصاص الآخر. كما هو الحال في نمط تعامل كنيسة العصور الوسطى مع المثقفين. حيث لم تكن الكنيسة تملك رصيدا دينيا مباشرا يخولها الإمساك بالسلطات الزمنية، ومع ذلك فقد نالت نصيبها من السلطان على اساس التعاقد المصلحي الآني. اما في حالتنا نحن، حيث يكون للفقيه اختصاصه الكلي الشامل للاحكام والموضوعات، فإن توزيع الأدوار بالشكل المطروح سوف لن يعدو عن أن يكون أجحافا بحق أحد الاطراف ينعكس أثره سلبا على الواقع بعينه. فقد اعطى التصور الاسلامي للفقيه سلطة تشمل حتى مجالات التشخيص في الموضوعات الكلية.
الفصل بين التنظير والواقع
بنظر المثقف فان تجدد العلوم الدينية هو أمر ضروري لمماشاة الواقع المتغير، بينما يستوجب العالم الديني أن تتبدى العلوم الدينية في نطاق اكثر تماسكا وثباتا. ولأجل ذلك يصر العالم الديني على صياغة علومه الدينية على اساس من علوم الفلسفة والمنطق والرياضيات.. نظرا لما تحظى به هذه العلوم من تماسك. ويرى المثقف ان هذا التماسك يتأتى من كون هذه العلوم تعبر عن فكر مستقل – نسبيا أو كليا - عن الواقع، وبالتالي تتسم هذه العلوم بطابع الهيمنة على الواقع ومحاولة اخضاعه واحتوائه كليا أو جزئيا. ويعزو المثقف التخلف على مستوى الواقع الى هذا التماسك الذي جعل من الدين فكرا غريبا لا يستجيب لمتغيرات الواقع وتحولاته، ولا يشبع طموح الانسان المسلم أو يروي غليله في شيء.. وبالتالي ينبغي ان ترتبط العلوم الدينية بعجلة العلوم الانسانية من اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية.. وهي علوم تتسم بكونها اكثر التصاقا بالواقع من غيرها. وقد يبدو ان مهمة المثقف هنا تتحدد في اطار تفسير الواقع الديني بما يتلائم مع توصيف بنية هذا الواقع بمعزل عن الاهداف المعيارية واطلاق الاحكام. بينما تكمن مهمة العالم الديني في تغيير هذا الواقع بما يسمح له بالتكيف مع ما تصبو اليه النظرية، وذلك بصفته محيطا بأبعاد النظرية الدينية من جهة، ومبلغا رساليا من جهة ثانية. فالمثقف أشبه بالباحث الذي يصف الواقع ويسجل توصيات ذات طابع نقدي، أما زمام التكييف والتغيير فيقع على عاتق العالم الديني. واذا صح هذا الكلام، فان اشكالية العلاقة بين المثقف والعالم الديني تظهر الى السطح بمقدار ما يتجاوز احدهما مجال اختصاصه ليصدر الاحكام فيما هو من مجال الطرف الآخر.
هذه بعض المقاربات الاولية لرؤى لا تدّعي النهائية في فهمها بالضرورة، بمقدار ما تصبو لتكون مدعاة للحوار والنقاش بين اطراف لا ينبغي أن يجمع بينهم مجرد التعايش السلمي، كي لا نقع في بؤرة الاغتراب عن الواقع، ونصبح على هامش التاريخ والتراث والحضارة.

ha.ye.ba

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق