السبت، 23 أكتوبر 2010

النص القرآني في ضوء القراءة التاريخانية

نحن هنا إزاء معطى محدد: كيف نتعامل منهجيا مع النص الديني؟ وتنشأ المجازفة في هذا النوع من البحث حين نقارب النص القرآني وفق آليات منهجية تتسم بالتوتر والنسبية ولا تقر أي لون من ألوان الثبات. وهذا النمط من الدراسات لا تستسيغه الأطر التقليدية السائدة في فهم النص إذ ترى في مجمل الطروحات الحداثية على اختلاف أنظارها نوعا من تعمد سوء الفهم القائم على أساس من القطيعة مع التراث، وتنم عن سعي حثيث نحو إيجاد سلطة بديلة ترتكز في مرجعيتها إلى فهم النص «من خارجه». ويتم ذلك عادة في حقل اللسانيات الذي يشهد نشاطا خصبا على مستوى الدراسات المعاصرة، وهو نشاط تأويلي قائم على الرمزية ومهجوس بطابع الانزياح الدلالي الذي من شأنه أن يحرر القارئ من إسار حرفية النص بما يجعله على المحك في علاقته بالنص الديني، ذلك النص الذي ينبغي أن يتسم دوما بدرجة ما من الثبات والوضوح. وبالإضافة إلى اللسانيات تعتمد المناهج الغربية الحديثة في دراستها للقرآن الكريم بشكل أساس على المنهج التاريخاني.
النزعة التاريخية (التاريخانية)
التاريخانية ( Historirisme ) غير التاريخية ( Historite ). وقد عرفّت بأنها مذهبة التاريخ ضمن بوتقة مفهومية ترى أن التاريخ محكوم بقوانين موضوعية تسير به مسبقاً نحو غاية ثاوية فيه تحملها طبقة أو أمة أو عرق.. والمقصود بالتاريخانية هنا التاريخ كمبدأ وحيد للتفسير، تفسير كل الظواهر المرتبطة بالإنسان (حتى الديانات) عن طريق شروطها التاريخية، فالتاريخ يكفي نفسه بنفسه، ولا علاقة له بأي مبدأ آخر للتفسير، لأن التاريخانية تنفي كلّ المبادئ الأخرى كالغيب والوحي والرسالات.. والتاريخانية ليست مجرّد منهج بل هي مذهب يرى بأنّ كلّ حقيقة - مهما كانت النتيجة - للشروط التاريخية. وبحسب هذا المذهب فإننا لا نستطيع الحكم على الأفكار أو الحوادث أو المفاهيم والمعتقدات والأديان ونظم الجماعات، إلا بنسبتها للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه؛ إذ النظر إليها من ناحيتها الذاتية يوقعنا في التباسات اختزالية مقيتة... بينما نسبتها للوسط التاريخي ستضعها في إطار المعالجة والرؤية الموضوعية لخصائصها وتركيبها ومظهرها. لذا فلا مناص من ضرورة النسبة الحتمية للتاريخ؛ إذ سر كل شيء وروحه هو التاريخ، وسر الروح إنما يعرض نفسه في التاريخ حسب المسيحية؛ وعلى التاريخ في العلم والفن والدين والفلسفة والقانون حسب هيغل. ويفضّل محمد أركون استخدام مصطلح التاريخية على التاريخانية، باعتبار أن التاريخانية هي القول بأن كل شيء يتطور مع التاريخ، وانه ينبغي دراسة الأحداث من خلال ارتباطها بالظروف التاريخية، بينما تهدف التاريخية تحديدا إلى إقصاء الاستخدام اللاهوتي والإيديولوجي للتاريخ، والإفضاء بالتالي إلى مقولة التفسير التاريخي للقرآن باعتبار أن مضامينه موافِقة لظروف معيشة وأفق محمدP ومستمعيه الأوائل، لكنها لم تعد تتوافق مع ظروف معيشة وأفق قارئ اليوم الحضاري. أما نصر حامد أبو زيد، فيتفاوت المنهج التاريخي عنده ما بين تاريخية لا تعترف بصعيد خاص للظاهرة الدينية ولا تقرُّ به، وتتعامل معها كأية ظاهرة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية عادية، انطلاقًا من ذاتيتها المباشرة والزمكانية، وبين تاريخانية تأخذ بالاعتبار البعد التزامني، التطوري، للظاهرة الدينية، والأصعدة الخاصة للظاهرة (الميثولوجية، الميتافيزيقية، والجمالية)، باعتبار الدين ظاهرة ميتافيزيقية. وبعكس التاريخية (أو التاريخوية) التي تنطلق من فرضية وجود مسار موضوعي (وضعي) أو اتجاه عام، غائي، سببي، وعِلِّي، يقوم على قوانين تحكمه، ويمكن بناء الحكم على أساسها، فإن المنهج التاريخاني يرى أن الظاهرة الدينية تشتمل على «قيمة» متعالية، لا تخضع لقوانين المنطق الصوري ولمبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع. وإذا كانت النظرة التاريخوية تؤكِّد على بطلان المعقولية الدينية، دون التمييز ما بين الثيولوجي والميثولوجي، بين الدين والدينية، فإن النظرة التاريخانية تجد أن أشكال القدسي والرمزي محايِثة في أكثر أشكال الحداثة العقلانية. ومن نافل القول إن موضوعات الحياة وآداب المعاملة والحب والجنس والجمال والبيئة لها قيمة مقدسة. إن تبنّي أركون للتاريخية بما هي ميزة تتكفل جانب إقصاء الاستخدام اللاهوتي والإيديولوجي للتاريخ، يكشف عن الوجه الإيديولوجي الذي يغلّف النزعة التاريخية وجانب القلق في ادعائها العلمية والمنهجية، كما أن تمسّك أبو زيد بالتاريخانية وعيا منه بخصوصية الظاهرة الدينية واشتمالها على قيمة ميتافيزيقية متعالية فوق منطقية لا ينبغي أن يفهم منه إلغاء خطوط التقاطع في امتهان المنزع التاريخاني العتيد.
التاريخانية والنص القرآني
ثمة محاولات لإخضاع القرآن للقراءة التاريخية، ففي جهة الاستشراق، نجد أن المناهج التي اتبعها المستشرقون في دراسة القرآن، وخلال حوالي المئة والخمسين عاماً، تدّعي في أكثرها أنها تاريخية أو تاريخانية ونقدية، وما توصلت لأكثر مما توصل إليه تيودور نولدكه [1] الذي يقع كتابه «تاريخ القرآن» في أولها (صدرت صيغته الأولى عام 1859). وأن ما انتهى إليه برتزل وجفري أولاً، ثم بلاشير وبارت ثانياً أن الطريقة التاريخانية النقدية غير مثمرة، لأنها تتعامل مع القرآن كما تعاملت مع النصوص المخطوطة، والتي لها مخطوطات عدة تختلف نصاً وقِدماً ودقة، وأنها إنما تريد باستعمال اختلافات النسخ الوصول إلى نص محقق أقرب إلى ما كتبه «المؤلف» أو تركه. فهناك بالنسبة إلى هذه المدرسة نص أول للقرآن غطته أو حرّفته أو حررته نصوص ثوان وألْسنة، وهي تطمح لإعادته للطبعة الأولى أو للمخطوطة الأولى. وقد حكم نولدكه على هذه المحاولة بالخطل منذ البداية عندما قال إن النص القرآني يعود إلى القرن السابع الميلادي، وليس فيه أَوْ لَهُ أصولٌ وفروع، بل هو نص واحد «على غرابة ترتيبه وتركيبه». وما منع ذلك كلاً من أوتو برتزل وآرثر جفري من جمع اختلافات القراءات ومخطوطات القرآن الأقدم، وطوال عقود، إلى أن تخليا عن المشروع «التحقيقي» و«النقدي» بعد الحرب الثانية. وفي جهة الاستغراب: ثمة محاولات أيضا للخوض في هذا الاتجاه، نلحظ من دعاته وإن بنسب مختلفة ومتفاوتة: الطيب تيزيني في النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة. عابد الجابري في التراث والحداثة. هاشم صالح في القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني. علي حرب في نقد النص، ونقد الحقيقة. نصر حامد أبو زيد في الخطاب والتأويل، ومفهوم النص. أدونيس في الثابت والمتحول. محمد أحمد خلف الله في الفن القصصي في القرآن. محمد شحرور في الكتاب والقرآن قراءة معاصرة. صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني. حسن حنفي في دراسات إسلامية، ومفهوم النص. وقد اشتغل المفكر الجزائري محمد أركون منذ ثمانينيات القرن الماضي على وضع آليات قراءة النص الديني وفق منظور المنهج التاريخي موضع التنفيذ، وانخرط في فضاء فكري مختلف عن البيئة الثقافية الأصلية التي ينتمي إليها ويشتغل عليها، مما أتاح له وضعا أكثر موائمة وتحررا وانفلاتا من القيود والشروط التي تقتضيها طبيعة التفاعل مع المحيط الأصلي الذي يصب عليه فكره. وقد دعا أركون إلى ممارسة النقد التاريخي على النص القرآني بقوله: عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن. واتسم طرحه بالإخلاص العميق للنزوع العلماني الليبرالي من خلال انخراطه الكلي بالأسس المنهجية الغربية، التاريخية والتفكيكية، دونما مراعاة للخصوصيات المحيطة، وكذلك من خلال متابعته للنشاط الاستشراقي الذي ينبغي بنظره التعامل معه بوصفه قناة الوصل النقية التي لا ينبغي التشكيك بجدوائيتها العلمية من جهة أخرى. وشيئا من هذا، لم يتوفر لنصر حامد أبو زيد الذي وجد نفسه في ذات الطريق ولكن في ظرف مختلف كليا عن سابقه، فقد دعا أبو زيد للتحرر من سلطة النص والقراءة الحرفية، وإلى التأويل بمقتضى المنهج التاريخي في ضوء مبدأ التطور والتغير في الأزمنة والأحوال. وبسبب اعتناقه لهذه الفكرة في منتصف التسعينيات كان عليه أن يواجه حكما بالارتداد عن الدين، نتيجة تثويره الفكري ونمطيته المتوترة، فقد كان يصدر عن خلفية حداثية مهجوسة بمزاج إسلامي تثويري. ونظرا لتشعب الموضوع سوف نعمد إلى الاستشهاد بآراء محمد أركون كونها الأكثر أداءا والأوفى تمثيلا للخطاب العلماني الغربي على مستوى الدراسات القرآنية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تمثله هذه الآراء من مسار عام على مستوى تطبيقات النزعة التاريخية المنهجية دون الوقوف عند شخص قائلها.
تاريخية النص القرآني
يتعامل الخطاب العلماني مع النص القرآني بوصفه «نصا تاريخيا»، وهذا يعني:
1) إخضاع النص القرآني للقراءة النقدية عن طريق النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، ونحوها من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية.. فيفترِض الخطاب العلماني وجود مشكلة تعترض سبيل فهمنا للنص القرآني، وتتحدد هذه المشكلة في وجود فَرْق بين النص المقروء في زمن نزوله على النبي (ص)، وبين النص المكتوب بين دفتي المصحف، ويصرح أركون بأن المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائدا أيام النبي. إن التفكيك بين القرآن والظاهرة القرآنية، الشريعة والفقه، الدين وفهم الدين، المعنى والمغزى.. على أساس التمييز بين ما هو إيماني وما هو تاريخي من شأنه أن يمهد السبيل لإرساء الظاهرة الدينية على قاعدة التاريخ. وكما يقول أركون: أما التمييز بين القرآن الكريم والظاهرة القرآنية فأقصد به الفرق بين تغذية الروح الإسلامية بكلام الله تعالى، ودراسة النصوص القرآنية كما ندرس الظاهرة الفيزيائية أو البيولوجية أو الاجتماعية أو الأدبية، وبهذا يمكن لنا - بحسب الزعم - تجاوز العراقيل التي تحول دون فهمنا لآيات القرآن في الوقت المعاصر. وتتمثل العرقلة في أن القرآن يقوم - عن طريق العمليات الأسلوبية والبلاغية - بخلع التعالي على أحداث تاريخية واقعية حصلت في زمن النبـي (ص)، ولكنها حوّرت من قبل الخطاب القرآني لكي تتخذ دلالة كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية، وتصبح وكأنه لا علاقة لها بحدث محدد وقع في التاريخ المحسوس.. فالقرآن يمحو المعالم المحسوسة والإشارات التاريخية الدقيقة عن طريق أسلوب التسامي والتصعيد، أي تصعيد هذه الأحداث بالذات، وإسباغ الروحانية الدينية والكونية على مفردات ذات مضمون اجتماعي وسياسي وقانوني في الأصل. وهكذا ينجح القرآن في محو كل التفاصيل والدقائق التاريخية للحدث، ويصبح خطابا كونيا موجها للبشر في كل زمان ومكان، وهكذا يفقد صفته التاريخية فيبدو وكأنه خارج التاريخ أو يعلو عليه. هذه المحاولات من القرآن هي محاولات أيديولوجية، أي أن القرآن يفعل ذلك ويتعالى بالتاريخ لمقاصد وأغراض دنيوية. فقداسة القرآن هنا ليست أصلية وإنما دخيلة، وليست جوهرية وإنما سطحية، وليست حقيقية وإنما مصطنعة حصلت لأسباب سياسية وثقافية وتلاعبات فكرية، وأن هذه التلاعبات قد كشفها النقد وتبين زيفها فيما يخص التوراة والإنجيل، أما بالنسبة للقرآن فإن هذا لم يحصل بعد فلا يزال كتابا مقدسا يحتوي على مساحة كبيرة من اللامفكر فيه. ومن هنا يطمح الخطاب العلماني - كما يدعي - إلى نزع هالة القداسة عن الوحي بتعرية آليات الأسطرة والتعالي والتقديس التي يمارسها الخطاب القرآني، فننظر إلى القرآن ليس على أنه كلام آت من فوق، وإنما على أنه حدث واقعي تماما كوقائع الفيزياء والبيولوجيا، أو أن ندرسه بوصفه نصا فقط ونصا لغويا دون أي اعتبار لبعده الإلهي لأن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق على النص يعكّر كون النص منتجا ثقافيا، ويعكر الفهم العلمي له. ولأن النصوص الدينية ليست مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت فيها، والمصدر الإلهي لها لا يلغي كونها نصوصا لغوية مرتبطة بزمان ومكان، ولا يهمنا هذا المصدر الإلهي، وكل حديث فيه يجرنا إلى دائرة الخرافة والأسطورة. وعليه، فالفهم الصحيح للقرآن يتوقف على إزاحة هذا الغطاء الإيديولوجي المصطنع عن وجه النص القرآني، وقراءته على أنه نصّ تاريخي أدبي تطبق عليه المناهج الحديثة المختلفة في دراسة النصوص الأدبية والتاريخية، كمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومنهج التاريخ المقارن للأديان. ذلك أن النظر إلى القرآن نظرة نقدية تاريخية إنتربولوجية من شأنها أن تزعزع جميع الأبنية التقديسية والتنزيهية التي بناها العقل اللاهوتي التقليدي، وبالتالي تعمل على إفراغ الدين من محتواه الإيديولوجي وتحديد مساحته في إطار علماني ممنهج. وفي سبيل تحقيق الغايات المنشودة، يدعو الخطاب العلماني إلى التوسل بالدراسة التفكيكية للنصوص المقدسة، والى قراءتها على أنها نصوص تاريخية منفصلة عن مصدرها، أو ما يسمى في البنيوية بموت المؤلف. كما يتبنى هذا الخطاب في دراسته للقرآن الكريم الهيرمنيوطيقا التي تقوم في الدراسات الأدبية على التفرقة بين المعنى والمغزى، حيث إن المغزى قد يختلف لكن معناه ثابت، والمغزى يقوم على العلاقة بين النص والواقع، والواقع متجدد ومتغير. وهذا اللفظ يعني تأويل النصوص الدينية بأسلوب خيالي وبطريقة رمزية تبتعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول كشف المعاني الخفية وراء النصوص المقدسة. وإن التفريق بين معنى ومغزى النصوص، المعنى الذي يمثل الدلالة التاريخية للنصوص في سياق تكونها، والمغزى الذي هو محصلة قراءة عصر غير عصر النـزول، هذا التفريق المزعوم يقتضي الحكم على كتاب الله باعتباره (نصوصا) تاريخية، ويوضح ذلك أن مصطلح تاريخية النصوص المقدسة متأثر إلى حد كبير بإسقاط النظرية النسبية في الدراسات الأدبية والتاريخية المعاصرة على النص القرآني.
2) إخضاع النص القرآني للقراءة كنصّ بشري، أو كنصّ إلهي محكوم بسقف التاريخ والثقافة. اذ تدعو التاريخية إلى تفريغ جعبة النص الديني من مفاهيم العالمية والاطلاقية ونزع صفة الخلود والصلاحية لكل زمان ومكان عنه، وذلك بغية الالتفاف على حقيقة كونية القرآن من خلال إحالته إلى التاريخ والنظر إليه باعتباره نصا تاريخيا محكوما بشروط تاريخية وظرفية يزول بزوالها، وتعمل على ربط القرآن بسياقات تنـزله، وتفسير معانيه تفسيرا تداوليا قاصرا من خلال الخوض في مسألة أسباب النـزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني وغيرها من القضايا.. فالغاية من أرخنة الخطاب القرآني بحسب تعبير أركون هي العودة بالقرآن بشكل علمي إلى قاعدته البيئوية والعرقية ـ اللغوية والاجتماعية والسياسية ـ الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي، وهذا الجهد يجد مشروعيته في القول بأن القرآن الكريم خطاب تاريخي يتغير فهمه ومعناه مع تغير الزمان والمكان، وبناء على ذلك فما جاء فيه من عقائد وشرائع تتغير وتتبدل مع تبدل الزمان والمكان، وهذا التبدل لا يقصد منه هنا المرونة في الاجتهاد الفقهي المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان بمقدار ما يعنى به عدم صلاحية الحكم الشرعي لكل زمان ومكان، فهو وقتي، بمعنى أنه جاء لوقت قد مضى، ولم يعد يتلاءم مع الوضع الحالي، وبالتالي، يجب أن تتغير تفسيراته بما يناسب الوضع المستجد! وثمرة هذا الجهد تظهر فقط في استنباش (وليس استحضار) اللحظة التاريخية الأولى التي تتكشف عن المعنى المدفون تحت أنقاض المؤامرة الإيديولوجية القابعة في مخيال الباحث العلماني، ذلك أن قراءة النص القرآني كنصّ محكوم بسقف التاريخ والثقافة من شأنها أن تكشف لنا عن الخلفية السياسية والثقافية للتلاعبات الفكرية، وهذا النقد سوف يساهم في تعرية النص القرآني من زيف القداسة تماما كما حصل بشأن التوراة والإنجيل. إلا أن الذي حصل بالفعل عند تصفح بنيات التطبيق المنهجي التاريخاني التي ساهم بانجازها العلمانيون العرب، وبالتحديد أمثال محمد أركون، هو وقوعهم في فخ التقليد والمحاكاة التطبيقية الهزيلة لما أحدثته الدراسات الاستشراقية التاريخانية على مستوى التوراة والإنجيل، وسوف نحاول الوقوف فيما يلي على عملية الإسقاط الحرفي والتي تنم عن تجاهل مطبق للخصوصية القرآنية والتراثية حتى ليخال القارئ لهذا الحقل أنه بإزاء انبعاث استشراقي مندثر بامتياز. وسوف نسوق هنا لبعض المداليل المباشرة التي أفضت إليها الممارسة المنهجية التاريخانية والتي تفصح عن مستوى الخطاب العلماني في سلوكه البحثي للنص القرآني:
- الأسطرة ومشابهة التوراة والإنجيل: يربط أركون بين القرآن والتوراة بوصفه الخطاب الأسطوري فيقول: إن الحكايات التوراتية والخطاب القرآني هما نموذجان رائعان من نماذج التعبير الأسطوري. ويعقد صلة بين القرآن والأناجيل، فيقول: إن القرآن كالأناجيل ليس إلا مجازات تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكوِّن قانونا واضحا. فالقرآن الكريم برأيه يشكل نصا أسطوريا.
- تشريعية القرآن الكريم: إن القرآن – كما الأناجيل – ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري لا يمكن أن تكون قانونا واضحا. وإن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقى بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير مُحوَّرة عن مطامح ورؤى، وعواطف حقيقية، يمكن فقط للتحليل التاريخي السيسيولوجي (الاجتماعي) والبسيكولوجي (النفسي) اللغوي – أن يعيها ويكشفها. وفي هذا يشير أركون بإشارة واضحة إلى نفي كون القرآن الكريم مصدرا للتشريع، فالقرآن في نظره مجرد مجازات أدبية وحكايات أسطورية ليس لها صلة بالواقع .
- القصص القرآني: لم يذهب أركون بعيدا عن الموقف الاستشراقي من القصص القرآني في زعمهم نقلها عن التوراة والإنجيل، ويردد مزاعم من سبقه من المستشرقين، فيقول: ننتقل الآن إلى النقطة الثالثة من موضوعنا: وهي التداخلية النصانية بين القرآن والنصوص الأخرى التي سبقته، وهنا نريد أن نقوم بقراءة تاريخية أفقية للخطاب القرآني، وذلك ضمن منظور المدة الطويلة جدا، بحسب تعبير المصطلح الشهير للمؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل، وهذه المدة الطويلة جدا سوف تشمل ليس فقط التوراة والإنجيل، وهما المجموعتان النصيتان الكبيرتان اللتان تتمتعان بحضور كثيف في القرآن، أو في الخطاب القرآني، وإنما ينبغي أن تشمل كذلك الذاكرات الجماعية الدينية الثقافية للشرق الأوسط القديم، وبهذا الصدد يمكن القول إن سورة الكهف تشكل مثلا ساطعا على ظاهرة التداخلية النصانية الواسعة الموجودة أو الشغالة في الخطاب القرآني، فهناك ثلاث قصص هي: أهل الكهف، وأسطورة غلغاميش (يقصد به: الخضر) ورواية الإسكندر الأكبر (ويقصد: به ذي القرنين) وجميعها تحيلنا إلى المخيال الثقافي المشترك والأقدم لمنطقة الشرق الأوسط القديم. وفي سبيل قيام دراسة نقدية تمحص تلك الأخبار، يقول: ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس.
- الرمزية: تبنى أركون منطق التفسيرات الرمزية الباطنية التي هي امتداد لمذهب الرمزية لدى فرويد، وماركس، ونيتشه، والتي ترى أن الرمز حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به بل يجب إزالتها وصولا إلى المعنى المختبئ وراءها. وهو كثيرا ما يكرر مصطلح الرمزية في فهم النص، أو ما يسميه بالرمزية السيميائية (الدلالية) في فهم وتفسير النص. ويمجد أركون بالتفسيرات الباطنية فيقول: نجد بهذا الصدد أن القراءات الرمزية للصوفيين، والقراءات المجازية للغنوصيين الباطنيين هي أكثر خصوبة بالمعلومات والدروس تجسيد أو تحيين العجيب المدهش المحتمل وجوده في القرآن.
- جمع القرآن الكريم: بخصوص الموقف من جمع القرآن الكريم يذكر أركون الروايات الإسلامية حول كتابة القرآن الكريم في العهد النبوي وجمعه في عهد أبي بكر وعثمان، ثم يعقب بعدم تسليمه بهذه الروايات الإسلامية ويثني على الكتابات الاستشراقية الناقدة لصحة جمع القرآن أمثال كتابات المستشرق الألماني نولدكه، في كتابه تاريخ القرآن، وشوالي، وبيرغستراسير في كتابيهما جمع القرآن، وتاريخ النص القرآني، والمستشرق الألماني ربيجيس بلاشير.
- الغيب في القرآن الكريم: يعلق أركون على ما ورد في سورة التوبة من الأمر بجهاد المشركين وما أعدَّه الله من النعيم في الجنة للمجاهدين في سبيل الله بقوله: هكذا نجد أن كل الخطاب القرآني يوضع داخل التاريخية الأكثر اعتيادية ويومية، ولكن هذه التاريخية تحوَّر وتُحوَّل إلى نوع من تاريخ الخلاص الأخروي. ويقول: ولكن ظاهرة أن الخطاب القرآني قد استطاع بهذه الطريقة (ولا يزال) خلع القدسية والتعالي على التاريخ البشري الأكثر مادية ودنيوية والأكثر عادية وشيوعا ينبغي ألا تنسينا تلك الآتية والاعتباطية الجذرية للأحداث.. ليس الوجه الديني للتوبة إلا عبارة عن مجموع الصور أو التصورات التي تشكل مخيالا كونيا: أقصد الأنهار التي تجري، والمساكن الطيبة الموجودة في جنات، تستحيل في الزمان التجريـبي المحسوس الذي نعيشه.
إن سبر أغوار مفهوم «تاريخية النص» في الفكر الغربي، والذي يرجع تحديدا إلى ظهور الماركسية الجدلية من جهة، وظهور مفاهيم علم اجتماع المعرفة من جهة ثانية، يقود إلى أن الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدد وعيهم أو علاقة الفكر بالواقع. وهذا يعني أن المجتمع هو أساس كل الظواهر الدينية والمعرفة، وأن المجتمع يتأثر ويؤثر في معطيات تلك المعرفة، وإذا اختزل الدين إلى مجرد انبثاق اجتماعي وفق هذه المنهجية فإن الحقائق الغيبية لن تزيد عن كونها مجرد أساطير لا تدخل في نطاق الحقائق المشاهدة. فقد حملت النزعة التاريخية في طياتها بذور الفشل بفعل انكفائها على نفسها، واتخاذها طابعا حتميا أدى بها إلى الاصطدام بالعمق الإيماني الميتافيزيقي، وإن حدة الموضوع وخطورته كان واحدا من الأسباب التي دعت الباحثين في الدراسات القرآنية في الغرب في الثلاثين سنة الأخيرة إلى التنكرُّ لأحادية المنهج التاريخاني ومذهبه الفلسفي، فعمدوا إلى تلافي الخلل من خلال دمج منهجي- تكاملي بينه وبين المنهج الظواهري، بينما فضّل آخرون العزوف كليا عن المناهج التاريخانية النقدية إلى قراءات مختلفة، كالقراءة المؤامراتية، والقراءة البنيوية، والقراءة التفكيكية، والقراءة الأنثروبولوجية، والقراءة الأدبية والأسلوبية.[2]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أثار كتاب نولدكه «تاريخ القرآن» الذي نشر عام 2004م حماسة بعض الحداثويين العرب كونه يمثل الريادة في مجال القراءة التاريخانية للقرآن، وقد بلغ الحماس ببعض هؤلاء إلى القول بأن هذا الكتاب «يمثل الثورة الكوبرنيكية بالنسبة إلى الدراسات القرآنية».
[2] الاستناد في إعداد هذه المقالة إلى المصادر التالية:
- نقد الخطاب الديني الجذب والنبذ، التفكير والتكفير: جميل قاسم (مقالة)
- الدراسات الغربية المعاصرة عن القرآن الأفكار والمناهج والنتائج: رضوان السيد (مقالة)
- انتهاك المقدس وتمييع مفهوم الإعجاز القرآني: أحمد إدريس الطعان (مقالة)
- الأثر الاستشراقي في موقف محمد أركون من القرآن الكريم: محمد بن سعيد السرحاني (ندوة)
- إشكالية العلاقة بين المنهج والنص الديني: الشيخ شفيق جرادة (مقالة)
- مئة عام على قانون العلمانية: محمد جمال باروت (مقالة)
- مفهوم التعالي وتأليه العقل في الفكر الغربي: غسان على عثمان (مقالة)
 ha.ye.ba

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق