السبت، 23 أكتوبر 2010

النص القرآني في ضوء القراءة التأويلية الحداثية

ثمة نظرة متحفظة إلى القراءات "المعاصرة" أو "الحداثية" للنص المقدس، ترى في المشروع الحداثي مجرد رابط اجتراري يربط ما بين النسخة الغربية الاصلية والمسخة العربية المقلدة , هذا الرابط يسعى الى توليد الخطاب الديني وفق معطيات الهرمينوطيقا والبنيوية والتفكيكية وكل ألوان النشاط اللساني والتأويلي الحديث التي نظّر لها أمثال بول ريكور ورولان بارت وجاك دريدا وميشال فوكو.. ولا تفرق هذه النظرة بين اتجاه وآخر في داخل المنظومة الحداثية، طالما أنه يجمعها جذر اساس يختبئ خلف الاختلافات الظاهرية القائمة فيما بينها. وقد استخدمت لفظة " هرمينوطيقا " في الدراسات اللاهـوتية للدلالة على المعايير التي يجب اتباعها لفهم النص الديني، ثم توسع مجال استخدامها بحيث صارت تعنى بالكشف عن وسائل وآليات الفهم التي تمكِّن من فهم النص. وما لبث أن تحول المفهوم إلى منهج مستقل، ونمط من أنماط القراءة للنصوص، ورؤية خاصة تستهدف تفسير وتأويل الوجود والانسان والحياة. وتعود دلالة الهرمينوطيقا في أصلها اللغوي (الإغريقي) إلى الفعل ترجم، وفسّر، وأبان، إلا أنها لم تستقر كمصطلح إلا حديثا، وعلينا منذ الآن أن نرفض الوظيفة الدلالية للغة؛ ذلك ان اللغة لم تعد وظيفتها قائمة في الكشف عن الأشياء، بل الأشياء تظهر نفسها من خلال اللغة، والقارئ يقوم باستدعائها عبر النص. وبهذا يغدو النص مجرد وسيط محايد بين المبدع والمتلقي، وتنبع حياديته من كونه ثابتا في شكله، الأمر الذي يجعل عملية الفهم ممكنة ويسمح بتلقيه من جيل إلى آخر. وتبقى الحقيقة التي يتضمنها النص غير ثابتة، وإنما تتغير تبعا لتغير فهم المتلقي وقبلياته وأفقه الخاص. والنص هنا، لا يعكس رؤية كاتبه، وليس له أن يفرض على المتلقي إرادة مبدعه، وإنما هو ملك لقارئه فحسب، يفعل به ما يشاء. ولهذا، على القارئ أن يقحم دوافعه الذاتية في القراءة، إذ تعتبر هذه الدوافع عوامل أصيلة في عملية الفهم؛ ذلك أن الفهم إبداع مستقل عن النص وإن كان يتم بالاستعانة بإيحاءات النص، ولا ينبثق مثل هذا الفهم إلى الوجود إلا بعد أن يحدّ القارئ من سلطة النص، ويكفه عن التدخل السافر في إنتاج الدلالة، ويتعامل معه بوصفه علامات ورموز جاهزة لتصرف القارئ واملاءاته. ومن هنا وجدت الهرمينوطيقا بغيتها في التفسير الرمزي للنص، وذلك: إما باعتبار الرمز وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه من معنى، بحيث يتم استجلاؤه وابراز الدلالة فيه من خلال قدرة العلامة على إيجاد صلات استدعائية بغيرها من العلامات، واحتوائها على قابلية تأويلية تربط بين الدلالات، وإمكانية تعبيرية تجمع بين المتفارقات. ولا تنفتح إمكانيات التأويل هذه إلا بعد إقالة الكاتب عن ممارسة أي دور فيه، وقصر النظر على بنية النص بما فيها إحالاته الصامتة. وإما باعتبار الرمز حقيقة مؤقتة يجب تجاوزها لبلوغ المعنى المختبئ وراءها، فالرمز هنا لا يشف عن المعنى بل يخفيه ويستبدله بمعنى زائف، ومهمة المفسر استعادة المعنى الصحيح وفضح المعنى الزائف. إلى هنا، فإن المعنى الذي يريده مؤلف النص يكون قد افتقد عنصر الثبات، واستبدِل "هرمينوطيقيا" بالفهم، وأخضع الفهم للتحول والتغير تبعا لما يريده قارئ النص وليس كاتبه. وقد جاءت القراءة التفكيكية تالية للقراءة البنيوية، فعمدت إلى دراسة النص دراسة تقليدية، متوخية في ذلك الانقضاض على نتائج ما توصلت إليه تلك الدراسة، وذلك من خلال إجراء قراءة معاكسة، مهمتها تقويض ما كان يصرح به النص فعلا. وهي تسوغ ذلك باعتبار أن التفكيك سوف يخولنا أن نتجاوز المعنى السطحي للوصول إلى معنى المعنى. وإذا كانت التفكيكية قد قطعت شوطا ما في تقويض الدراسة التقليدية، إلا انها لم تفلح في إيجاد القراءة البديلة، واقتصر انجازها على التقويض والهدم.
*    *    *
[1] القراءة بحسب هذا المنظور لا يمكن أن تكون بريئة؛ إذ كل قراءة تعتبر صحيحة إلى أن يتم استبدالها بقراءة جديدة، وبذلك تتحوّل القراءة الأولى إلى "إساءة قراءة"، وهكذا الأمر في القراءات اللاحقة. وعدم وجود قراءة بريئة لا يعني أن القراءة خاطئة، لأنه لا وجود أصلاً لقراءة صحيحة، بل ان كل قراءة هي عملية خروج عن المألوف، وإجراء تحوير مستمر للحقيقة. وإذا كان من الخطأ اعتبار وظيفة القراءة هي تفسير النص، فلا يتوقع القارئ من النص أن يزوده بأي معنى. وبهذا لا تخلو أية قراءة حداثية للقرآن الكريم من إساءة قراءة، باعتبار أن دلالة النص القرآني ليست ثابتة، وأن كل قراءة هي في ظرفها الخاص صحيحة، ولا توجد قراءة خاطئة على الدوام، وبهذا يكون النص القرآني مفتوحا على جميع الدلالات والاحتمالات، ويغدو علامات ورموزا حاوية بحسب القابلية لكل الاتجاهات والأغراض. وليس من شأن القرآن - بحسب هذه الرؤية - أن ينطق بالحقيقة دفعة واحدة، أو يفصح عن المعنى النهائي، وإنما يندمج في علاقة تأويلية مع الحقيقة، دون أن يحد من دينامية التأويل تعارض القراءة وتناقضها، أو استغلاق النص عن الفهم، بل إن ذلك يقلّل من إمكانية استنفاذ الطاقة التوليدية للنهج الحداثي، ويدعم اثراء النص بكل جديد. وعليه، ما دام الله فوق تصور البشر، والعلاقة معه تمرّ بتوسيط اللغة، وحيث إن اللغة نسبية وخاضعة للتأويل، فليس لأحد أن يُقرر المعنى الكلي للقرآن، أو يفرض تصورا نهائيا لله، سيما وأن أي قراءة للقرآن الكريم لا يمكن أن تكون بريئة وحيادية؛ لأنها في المحصلة النهائية تستند إلى أفق القارئ الثقافي والعصري، وتتستر وراءها دوما دوافع وغايات لا تتسم بالحيادية. ومن هنا ينفتح المجال - بعملية تأويلية - لإقصاء كل تصور عن الله يدعي النهائية، وإحلال تصورات تخضع لمشيئة القارئ وأفقه الثقافي الراهن محله.
[2] رفعت البنيوية شعار "موت المؤلف" بصفته مؤسسا للنص، وأنزلته إلى مجرّد ناسخ للغة، وقطعت بذلك كل الصلات الحيوية بين المؤلف والنص، ممهّدة بذلك لإعلان ولادة القارئ. فالمؤلف مجرّد وارث ومستخدم للغة، واللغة هي التي تتكلم وتبدع المعنى بالارتكاز إلى أفق القارئ الثقافي وظرفه الراهن. وبإخضاع النص للقارئ ينكشف لنا حتمية ارتهان التنزيل الإلهي للتأويل البشري بحيث يمكن القول بأن القرآن قد تأنسن؛ ذلك أن النص القرآني بمجرد أن يحتك بالعقل البشري يدخل في دائرة الفهم الانساني ويخضع للسيرورة التاريخية والاجتماعية المحكومة بسقف الخبرة الآنية والتجربة المرحلية والموقف النسبي الذي تمليه ظروف العصر. والمعضلة هنا تكمن في أننا لسنا مخولين بالحديث عن المعنى بوصفه عنصرا قرآنيا ثابتا قابلا للاستهلاك والتوظيف، وإنما يمكن أن نتحدث عن حقيقة النص المتمثلة حصرا بفهم القارئ وقراءته له، فنتحدث عن انتاج القارئ وابداعه الحاصل من خلال تراكم معرفي يضفي على النص أبعادا جديدة لم تكن منظورة من قبل، وهذا يعني أن حقيقة النص وروحه مختزنة في داخل الإنسان، وأن الانسان بوصفه قارئا للنص مكلف بحرثه واستبذار المعنى الحقيقي فيه بما يتناسب وروح العصر. بهذا تتمثل حقيقة النص في نطاق الشرح والفهم فحسب، أما شكل النص فيغدو بمثابة الجسد الذي لا معنى له، ولا حياة له بدون الروح. وبعبارة واحدة علينا أن ندرك أن "فهم النص" قد نسخ "النص" وأنهاه. دون أن نهمل من حساباتنا أن هذا الإنتاج مستمر ويخضع لقانون إساءة القراءة ويتجدد بتجدد الظروف بفعل التراكم المعرفي المستمر، ويتعدد بتعدد القراءات بفعل نمو التجربة الانسانية وتمرحلها الدائم.
[3] بعد "موت المؤلف" على يد البنيوية، أعلنت التفكيكية لاحقا "موت النص". وبذلك أصبح القـارئ بمفرده في الميدان، فهو الذي يسهم في إنتاج النص، ويضفي عليه المعاني والدلالات. والنص هو بمثابة حقل ثري بالدلالات المضمرة والمعاني الخفية. ومهمة القارئ هي في أن يجري على النص عمليات حفر وتنقيب ضمن سيرورة لا تعترف بحد نهائي يستقر عليه الفهم، وهذا ما يضفي المشروعية للتأويل باعتباره يعمل في مجال مفتوح غير قابل للاختزال. وحينئذ لن يكون هناك أي نص بمنأى عن التأويل، بما في ذلك النص القرآني نفسه والذي يحتوي على مخزون دلالي هائل وفضاء إيحائي حافل بامكانيات القراءة إلى جانب كونه نصا متشابها حمال أوجه. وتنبع مشروعية التأويل من الفراغ الذي أصيب به النص وأفقده ثقل المركز، وحوّله بذلك إلى إشارات ودوال تحتاج الى مرجعية تضفي عليها المعنى، ويمكن تشبيه النص حينئذ بالجنين الذي يبحث عن أب يتبناه، وهذا الأب يتمثل بما يدور في ذهن القارئ ويضطلع به من إعادة بناء وخلق للنص وملء لفراغاته، وتضمينه الدلالة تضمينا دائميا لا يقبل التحقق النهائي، فالمعنى في حالة إرجاء دائم، والرمز في حالة إحالة دائمة بحيث لا يستقر على مدلول ثابت. وما دام النص القرآني حافل بالدلالات المضمرة التي لا تقف عند حد، لذلك يجب اطلاق عنان التأويل لاستفراغ المعاني الكامنة في النص وإيصاله إلى مرحلة الصفر التي يتماهى فيها مع كل الاحتمالات الممكنة، وهي مرحلة: النص الذي لا يعني شيئا محددا، وفي نفس الوقت يمتلك قابلية أن يعني أي شيء.
[4] النص ليس كيانا مقفلا على نفسه، وإنما هو نتاج لسلسلة من العلاقات المتشابكة مع نصوص أخرى، ومخاض لـ كم هائل من الدلالات ذات المصادر المتباعدة، كـل نص هو صدى لنص آخر، واستجابة لثقافات متشعبة تخضع لجدل علائقي مستمر. وحيث إن القارئ له أفقه وتوقعاته، فلا يوجد نص وإنما يوجد تناص. وبهذا المعطى، يغدو النص القرآني بحسب هذا المنظور صدى لنصوص سابقة عليه أسهمت في تشكيله وابداعه. والنص يتخلله الصمت، ويتسم بقابلية الاستنطاق، فلا يوجد نص إلا والى جانبه شيء مسكوت عنه، وهذا الفراغ يمنح القارئ الحرية في تقويل النص ما لم يقله، ويمنح النص مجالا مفتوحا لاخصاب المعنى بصورة لانهائية. وهذا يعني أن القارئ مدعو إلى التحرر مما يقوله النص - بما في ذلك النص القرآني - والى إقصاء المرجعية القصدية للمؤلف كليا؛ إذ الفهم رهن بالتحرر من سلطة النص، ويتم ذلك بالكشف عن الغامض والخفي والمستبعد في النص، والافصاح عما لم يقله المؤلف مما هو مسكوت عنه فيه، ولهذا يحتاج النص إلى عين ناقدة ترى فيه ما لم يره المؤلف، بل وتجد فيه عكس ما صرح به ولو بالاستعانة بما يقوله النص نفسه.
[5] تنشأ الدلالة المعجمية بحسب السائد من تقييد اللغة بالمعنى، في حين يخالف المنهج الهرمينوطيقي هذا التوجه، ويذهب إلى أن الدلالة انما تنشأ من تحرير اللغة من المعنى وافراغها منه، فاللغة يسودها نظام من العلامات الحرة والإشارات العشوائية والرموز المتفلتة من أي قيد، وهذا الأمر هو الذي يسمح بنمو العلاقات داخل النص، ومن خلال اللعب الحر هذا يتم إيصال الدلالة إلى مرحلة لانهائية المعنى، وبعبارة مرادفة إلى اللامعنى. والرمز هنا يسعى إلى تجنب دوره القديم في الايماء الخفي الى ما هو أعمق وأبعد غورا، ويتمرد على الوضعية السائدة التي تجعل وجوده لغيره وليس لنفسه، وهو يتبرأ بذلك من قرينه المتمثل في المرموز إليه، ويتخلى عن دوره كدال يهتدي القارئ به، وهكذا ولمرة واحدة تُرِكت الساحة للقارئ لكي يملأ فراغات الرمز ويضفي عليه الدلالة التي يشاء. من هنا علينا ان نتعامل مع النص القرآني - بحسب المنظور هذا - بوصفه حقلا ملغوما بالرموز والاشارات التي تتيح للقارئ أن يضمنها بما يريد ويرغب، فالرمز لا يقول كل الاشياء، وما يقوله يظل قابلا للتعميم، حمال أوجه، يقبل الإيحاء وإنتاج المعنى إلى ما لانهاية. ويشبه أن يكون النص - بما فيه القرآني - قابلية محضة للاستنطاق؛ ذلك أن الرمز ليست مهمته التنبؤ بالمعنى المتحقق فعلا والموجود مسبقا في قصد المؤلف، وإنما مهمته هو الترقب للمعنى الذي سيولد لاحقا في ضمير القارئ.
*    *    *
هذه نبذة عن مجمل آليات الفهم التي استهلكها الفكر الغربي وأجهضها، ولا يزال الخطاب الحداثي العربي يجترها على أنها المنهجيات الحديثة اللازمة لفهم النص. وغالبا ما يتسلّل في قراءة النص القرآني قراءة حداثية من ثغرة "التأويل"، ذلك التأويل الذي لا تربطه صلة بمفهوم التأويل القرآني. وأما "التفسير" الذي يهدف للكشف عن مراد صاحب النص فلن يشبع غرور الحداثي طالما انه يتوسل من خلال المنهج المتبع لديه الى تجاوز النص وصاحبه جملة وتفصيلا. وتجدر الاشارة إلى أن هذه الخلاصة، قد تكشف عن نزعة متطرفة في الاتجاه الحداثي بحسب مصادره الاصلية، وهي مع ذلك تفصح عن نفسها في مجمل "المشاريع" الحداثية العربية التي استلهمت أسس الحداثة وبنيتها من هذا المشرب بالذات، وإن بدت لنا في ظاهرها ملطفة ومخففة عن النسخة الأم. وأخيرا، فإن القراءة الحداثية قد تبرر لأمثالي تقييم المنهج السائد فيها تقييما سلبيا وذلك انطلاقا من هذا المنظور الخاص. لكن هذا التقييم لن يزيد عن كونه - ومن نفس المنظور - قراءة خاصة لا تلزم الا قارئها. وبهذا قد تملك زمام التفلت من أي مأخذ بحقها يكون صادرا عن نفس قواعد اللعبة. الا انها - ومن منظور آخر - لن تعدو أن تكون في المحصلة النهائية ارجاعا لنزعة قديمة تأرجحت بحسب معطياتها بين مآلين: إما الوقوع في فخ "التصويب"، وإما الارتهان لمأزق النسبية والعبثية والعدمية.

 ha.ye.ba

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق