الأحد، 31 أكتوبر 2010

الأسس الميتافيزيقية في النظام الفلسفي الإسلامي

الميتافيزيقا هي علم «ما بعد الطبيعة» مما هو فوق الحس، أو «ما وراء الطبيعة» مما هو في مقابل الحس. بهذين المعنيين تم تداول المصطلح في الفلسفات القديمة والتي تعلي من الشأن العقلي على الحسي. أما في الفلسفات المتأخرة التي تعلي من الشأن الحسي على العقلي، تغدو الميتافيزيقا وصمة عار؛ كونها تسهم في ضمور «الحقيقة العلمية» وإبراز الحقيقة التأملية التي لا تقبل التحقق العلمي. بهذه الخلاصة المختزلة، والتمهيدية، والعاجلة يتضح مفهومنا عن الميتافيزيقا في هذه المقالة؛ فإن كل معطى ينتمي إلى الذات والعقل والروح والغيب.. وليس إلى الحس التجريبي، هو معطى ميتافيزيقي. وهنا سوف نستثني من هذا الحكم بعض الرؤى المتأخرة التي شكلت تواصلا ومعاودة للميتافيزيقا ولو باشكال مختلفة (هيجل، نيتشة، هيدجر..). وقبل الحديث عن الوضع الميتافيزيقي للوجود كما تجلى في البحث الفلسفي الاسلامي، يحسن بنا التعرض للأسس التي تظهر فيها الميتافيزيقا بوضوح، وذلك على مستوى الأصول المتسالم عليها، والغايات الفلسفية القصوى، وعلى مستوى موضوع الفلسفة نفسه، ذلك الموضوع القائم على تقدير الذات وتوكيدها.

- الأصول الموضوعة: لا بد من وجود نقطة بدء يتم البناء عليها؛ فإنّ الانطلاق من مرحلة الصفر يقود إلى الخواء؛ والنتيجة لن تزيد على مقدماتها. لذلك لا بد أن ينهض البناء الفلسفي على أساس ما. ومن أهم خصائص نقطة البدء هذه أنها تبدو كما لو أنها فوق النقاش، إذ أن العامل الذي لا يقع تحت المساءلة من شأنه أن يوفر لنا عنصر الثبات. هذا هو الملمح الأساس للميتافيزيقيا، وهذه هي نقطة ضعفها بالذات. والميتافيزقا بهذا المعنى غير موجودة إلا في عقولنا، بشرط ان تقرأ هذه الجملة بطريقة ايجابية؛ بمعنى أن الواقعية التي تظهر في أفق الوعي على شكل خصائص وصفات عارضة، يمكن أن تدرس فقط على ضوء مرجعيتها التي لا تقع تحت النقاش. من هنا، تظهر الميتافيزيقا على أنّها هي النظام الأصلي الذي تعمل على أساسه عقولنا، وتتشكّل منه البنية الخلفية والأصول والمسلمات الضامرة التي تنهض عليها كل البنى الثانوية في نظام الوعي، وهي إلى ذلك ضامرة في الوعي بسبب من الثقة وسكون النفس لها، الأمر الذي يتيح لها أن تتحكم في مسار تفكيرنا وفي اقتراحاتنا واستنتاجاتنا عن الواقع دون أن تقع بنفسها تحت المساءلة والنقاش. وهذا يعني أن البناء الفلسفي يتشكّل في جوهره من بناء شبه رياضي قائم على المسلمات التي تجد قبولا لدى الذات، ويبدو أن الميتافيزيقا بهذا المعنى ذات طابع غالبي في التداول الفلسفي، كما يبدو أنه ينبغي أن تكون كذلك في هذا الإطار؛ بل تقضي الضرورة المنطقية وجود مرجعية ولو على نحو الأصول الموضوعة المسلمة في إجراءات البحوث التجريبية ذاتها؛ فإنّ البحث العلمي لا يتقدم خطوة إلا على أساس فروض مسبقة معينة تسهم في تعليل الظاهرة والتنبؤ بمستقبلها. إن العلم التجريبي لا يملك إلا أن يمضي في طريقه دون أن يعي ذاته، أو أن يخطّ لنفسه منطقا في نطاق الوعي.

- الغايات المضمرة: تتميّز الميتافيزيقا نفسها بالخفاء، ولا تفصح عن ذاتها بالألفاظ والأقوال، وإنما تظهر كما لو أنها أشبه ما تكون بفلتات لسان، لذلك علينا أن نحدس الماورائيات التي تصبو إليها الفلسفات في مغازيها، كما نتعقبها في أصولها التي تصدر عنها. ولا تقدم الفلسفة نفسها كما لو أنها وصفة جاهزة، بل إن عمل الباحث الدؤوب يكمن في فلسفة النص، وتقديم فهم أعمق وأشمل له، وليس تأريخ الفكر، أو التشكيك في اسناد الآراء. وقد عبّر ابن سينا عن الغايات القصوى من مشروعه الفلسفي في كتابه الاشارات والتنبيهات حيث تحدث عن الغيب الذي لا يمكن بلوغه الا بضرب من الشهود، كما عبر عنه ملا صدرا في أكثر من موضع من كلامه وهو يبث حنينه للصيغة العرفانية التي ترى الوجود حصرا في الوجود المطلق من كل تعين. ولا ينحصر نشاط الفيلسوف في إطار توضيح رؤية عن الواقع، بل إن الفلسفة بالإضافة إلى طابعها النظري تتضمن أحكاما عملية، والفيلسوف يبدو أكثر حماسا عند إضفاء الطابع الايديولوجي على الواقع، وإسباغ أحكامه على صورة الوجوب والمنع، ولا يستطيع الفيلسوف أن يكون وفيا لآرائه دون أن تكون له تلك الخلفية الينبغية، وهو يسعى إلى التفسير من منطلق إيمانه بالتغيير، فالغاية هي العمل بعد العلم، ولهذا يفترض الفيلسوف مسبقا ابتناء تلك الينبغيات على الواقع، ونادرا ما يلتفت الى هيمنة تلك الينبغيات، سيما تلك التي تحظى برصيد يجعلها في الموقع الضابط، كما في مورد التصورات التي يزودنا بها الوحي. إن مضموراتنا تظهر بشكل هامس في آرائنا المعلنة، وغالبا ما نقبل الشيء الذي يتلاءم مع ما نريد، الا ان الجانب الذي ينبغي أن يكون هو المحك للدراسة الميتافيزيقية هو جانب الربط بين النظرية والتطبيق، وهو المحك الاساس لكل تنظير، فالوجود لا يملك أحكاما، ولا يمارس سلطة وتقييم، هو قابل فقط لأن ينكشف، وأن يعلن عن ذاته بطرق متعددة ومتفاوتة، هذا الإعلان يستدعي أحكاما متطابقة معه، وهذه الأحكام تظهر غالبا بشكل إعلانات في السياق الديني. من هنا تغدو الفلسفة مشروعا دينيا بحسب الغايات المنظورة لها، وكل فلسفة لا تخطط لذلك سوف تصطدم بالواقع وتفقد مبرراتها. والاعلان الأساس في الميتافيزيقا هي أن الوجود لا يتجلى في إطار المادة فحسب، بل تظهر صورته الحقيقية فقط حين يتجاوز الإطار المادي إلى إطار الغيب.

- موضوعات البحث: وفق التأسيس المنطقي، تنصرف العلوم والفنون الى تحديد موضوعات بحثها في إطار خاص، وتنشأ خصوصية هذا الاطار من ايمان ذوي تلك الاختصاصات بأن موضوعاتهم تعبر عن واقع جدير بالاهتمام ويستحق الدراسة. وسواء أكانت تلك الموضوعات تحظى بواقعية ما في نفسها ام لا، فلا شك في انها تتسم بالواقعية في ايمان اتباعها ووعيهم، وتعبر عن الوجه الآخر الذي يشكل المرجعية على مستوى النموذج والمثال والذي يظل دائما خارج نطاق المساءلة وفوق النقاش لديهم. وحينما يتخذ الطبيب من الجسم الحيواني موضوعا لدراسته، فإنّه ينصرف الى البحث في أحوال الجسم وخصائصه وعوارضه، وما ذلك إلاّ لإقراره بالجسم الحيواني بوصفه حقيقة لا تقبل النقاش. وحينما يبحث الفيلسوف في أحكام الماهيات وخصائصها من الجوهرية والعرضية.. فإنه يدرك في أعماق وعيه بما لا يقبل النقاش أن الوجود هو الموضوع الواقعي والنموذج الحقيقي وراء تلك الماهيات، ويتركز الجهد الميتافيزيقي حينئذ على استخراج الوجود وأحكامه من تحت ستار الماهيات. وحينما يبحث العارف في أحكام الوجود وخصائصه من المراتب والتنزلات والتعيّنات، فإنّه يدرك في أعماق وعيه بما لا يقبل النقاش أن الوجود الحقيقي والنموذجي هو الوجود المطلق عن جميع التعينات، ويتركّز الجهد الميتافيزيقي على تحديد طبيعة هذا الوجود من الوحدة والوجوب. أما الموضوعات نفسها فتبقى خارج دائرة المناقشة والسؤال بوصفها استبطانات ارتكازية قائمة في وعي الباحث. ان العلم يدرس الوجود كظاهرة، تتجلى في شكل محدد أو موضوع يخضع للفحص، والفلسفة تبحث في الوجود بعد تنحية الظواهر عن وجهه، وهو بهذا الاعتبار لا يقع موضوعا للبحث، وإنما حضورا في الذات. وفي حين تعلن الفلسفة عن مهمتها الحاضنة لموضوعات جميع العلوم، تمارس تلك العلوم عقوقا قاطعا ورفضا مطلقا من خلال انكار الموضوع الكلي للفلسفة.

- أولوية الذات العارفة: إن الاستناد إلى العنصر الذاتي في مقاربة الواقع هو علامة ميتافيزيقية فارقة، فالنفس عنصر فاعل وخلاق وضابط للواقع، وليست مجرد متلقٍ عن الخارج ومرآة تنعكس على صفحتها الصور المتغيرة والزائلة.
من هنا، تكمن المعرفة في اندفاع الذات نحو الواقع، وليس في كون الواقع متمثلا لدى الذات، ذلك أنّ تلكؤ الذات عن القيام بدورها إزاء تحولات الواقع النوعية يقود غالبا إلى انتكاسات معرفية تظهر بصورة السفسطة، وتضغط على الذات باتجاه تحديد مقولاتها وضبط منطقها مما يؤدي إلى انتعاش الفلسفة. إن المقولات تقوم على أساس عمومية المبادئ، كما أن المنطق يقوم على صورة الفكر وليس على مادة الواقع، والنسق المنطقي يحظى برضا النفس وركونها إليه. إذن، يقوم البناء الفلسفي على النسق المنطقي المرتكز إلى الذات، والذاتية، والتطابق الذاتي، وهذا ما يشكّل مدخلا لقضية التحقق الواقعي والتطابق مع أشياء هذا العالم. ويتجلى ذلك بوضوح في المبادئ التصديقية للفلسفة المتعالية والتي تنهض على أساسها المباحث الوجودية، فقد غلب الطابع الإستدلالي على تلك المبادئ رغم التأكيد على بداهة مطالبها المبحوثة، وأن تلك الأدلة إنما هي تنبيهات إلى ما هو المرتكز في النفس بحسب الوجدان والفطرة. إن الوجدان والفطرة كناية عن الرضا النفسي والقبول الداخلي، أي أنهما تعويل وإحالة مباشرة على الذات لا الواقع، على النسق الداخلي لا التطابق الخارجي، من هنا تقوم الضرورة الفلسفية على تكثيف الرؤية الذاتية والإيغال في النمطية الميتافيزيقية من خلال الدعوة إلى تجاوز الذات الماثلة إلى الذات المستجدة، فقد دعا الفلاسفة إلى استحداث فطرة أخرى، وتطويع النفس لها، وفاقا مع ما ينسب إلى أرسطو من أنه قال: «من أراد أن يشرع في علمنا هذا فليستجد فطرة أخرى».
وتتأكد الذاتية بوضوح في مجال المعارف الكشفية والحدسية، فالوجود هنا مجال لاختبار الذات وليس موضوعا للمعرفة. وقد خاض منظرو الفلسفة العلمية في جدوى شرط «الموضوعية» الذي يقوم على تنحية الذات وتدخلاتها، قبل أن يخلصوا إلى عدم إمكانية توفّر مثل هذا الشرط من الأساس. إن قدر العلم هو في أن يظل راهنا إلى الخدمات التي تقدمها الفلسفة، وقدر الفلسفة هو في أن تظل راهنة إلى الأسس الذاتية، ما يدفعنا للقول بأن الحديث عن الميتافيزيقا لا يمكن إلا أن يكون حديثا نسبيا؛ ذلك أنّ الميتافيزيقا باقية ومستمرة ودائمة طالما انها مقبولة ومنطقية ومرضية في أفق الذات.

الوضع الميتافيزيقي لمفهوم الوجود

إنّ أي حديث عن الوجود (بما هو وجود) يفترض في ذاته أن يكون الوجود متعاليا، وفي الوقت الذي يتنازل فيه الوجود عن تعاليه يفتقد هويته الفلسفية؛ لهذا فإنّ الوجود هو بصمة الميتافيزيقيا في عقولنا، وهو ضرورة حاكمة في النشاط الفلسفي على الدوام. وقد جاء التعبير عن تعالي الوجود في جميع مفاصل البحث الفلسفي جليا وواضحا، ومنذ أوائل المطالب المبحوثة نجده يتصاحب مع الإقرار بتأبّي الوجود عن الخضوع للمبادئ التصورية؛ كونه يحظى بالسمة الجوهرية؛ البساطة والبداهة، وهو ما يفرض أن يكون مجانبا لخصائص الماهية. إن مفهوم الوجود غني عن التعريف، وصورة الوجود تقوم في النفس بلا توسّط شيء، فهو مبدأ أوّل لكل شرح، كما يقول الشيخ الرئيس في كتابه النجاة. وأمّا ما يُذكر له من معرّفات فهي مجرّد مقاربات وبدائل لفظية، لا تلامس ضفاف المفهوم، فضلا عن أن تفيه حقّه. والسر في تعاليه عن التعريف هو أنّه لا يتجانس مع ما يمكن أن ينضبط في عقولنا بصورة ماهيات: إن مفهوم الوجود بسيط؛ لا يتركب من جنس وفصل، فلا ماهية له. إن الخصائص الذاتية للوجود متغايرة مع الخصائص الذاتية للماهية، فلا ينضبط بها. لا أظهر من الوجود، فلا يظهر بغيره. إذن، لا يمكن للماهية أن تعبّر عن الوجود، أو تمثل الجانب العلمي منه إلاّ بعد أن يتنازل الوجود عن تعاليه، وحينئذ لن يكون وجودا بالمعنى الفلسفي؛ ولأجل ذلك تعجز الماهية عن تمثل الوجود بحسب التصور، وعلينا أن نقر بأننا لا نملك في عقولنا اي صيغة معبّرة عن الوجود سوى ما ينعكس منه في الوعي الإرتكازي. ويبتني هذا على أنّ أي تصور في الذهن لا بد أن يستحضر الواقعيات عبر الماهية، ولا سبيل آخر لذلك سوى ما قد ينحدس في أنفسنا عنه. ولا يقتصر تعالي الوجود على مستوى التمثل الذهني، بل يتميّز كذلك بطابع ميتافيزيقي فريد على مستوى حقيقته الوجودية نفسها، إذ إن حقيقة الوجود – بحسب السبزواري - في غاية الخفاء. والسبزواري هنا، إذ يقرّر آراء سابقيه من الذين قالوا بإمكانية تصور الوجود بالبداهة، لا يستبعد الاتجاه الذي يرى استحالة تصور الوجود بالبداهة، بل يسعى إلى استيعابه؛ على أن يراد به استحالة تصور [حقيقة] الوجود لا [مفهومه]؛ فإن مفهوم الوجود وإن كان من أعرف الأشياء وأوضحها، إلاّ أن حقيقته [البسيطة النورية التي حيثية ذاتها حيثية الإباء عن العدم، ومُنشئية الآثار، والتي ذلك المفهوم البديهي عنوانه] في غاية الخفاء. فالمفهوم من الوجود وإن كان بديهيا في التصور إلا أنه لا يقبل الانضباط في سياق المنطق، وأمّا حقيقته وذاته فلا تقع تحت التصور أصلا. ويقوم منطق الخفاء هذا على تعالي الحقيقة العينية على الحقيقة الذهنية؛ فالحقيقة العينية تتميز بكونها منشأ للأثر، فيما تفتقد الحقيقة الذهنية لذلك الأثر، ولهذا لو حصلت الحقيقة العينية في الذهن فيلزم التفكيك بين الشيء ولوازمه؛ فإن لم يترتّب عليها الأثر؛ فلن تكون حاصلة في الذهن بما هي عينية، وإن ترتّب عليها الأثر فليست هي في الذهن كما هو واضح. إنّ ما يبرر لحصول المعرفة بالشيء هو حفظ ماهيته مع تبدّل وجوده العيني إلى الوجود الذهني، وحيث إن حقيقة الوجود لا ماهية لها، فلا معنى لأن تكون محفوظة بعد التبدّل في الذهن. ورغم أنّ السبزواري قد قرن بحثه في الوجود بالبداهة، إلاّ أنّه قدّم الوجود من زاوية مغرقة في الخفاء، فهو - كأسلافه – نظّر للوجود من ناحيتيه المفهومية والوجودية، وأقرّ بأنّ مفهومه لا يقبل الرضوخ للمنطق، وأنّ حقيقته في غاية الخفاء. إلاّ أنّ تبرير الخفاء هذا بما تقدّم يقوم على أساس إثبات الوجود الذهني، وقد اتخذه السبزواري هنا على نحو الأصل الموضوعي. كما أنّ تمايز العين عن الذهن إنّما يكون بحسب الأثر، وهذا إنما يقع في إطار المعرفة العقلية تحديدا، وفي إطار تجاوز الفلسفة الماهوية إلى فلسفة الوجود، وتجاوز البحث عن الماهية إلى البحث عن العلاقات ومفاعيلها، فإن الفلسفة الأولى هي الفلسفة الباحثة عن الوجود بوصفه اصطلاحا فلسفيا ثانويا، يتناول الحكم على الموجود، ويحكي عن علاقاته وتأثيراته، وبكلمة واحدة يقع البحث هنا عن مبادئ الوجود وعلله، وهي موضوعات تتجاوز الاطار الماهوي للحقيقة، وتميط اللثام عن أكثر جوانب الحقيقة فعالية في عالم الوجود. ومع ذلك، فإن هذا السياق العقلي يهدف إلى تأكيد حقيقة هي أن الوجود لا يرقى إلى مستوى المعرفة إلاّ في مقام الحضور لا الحصول. إذن، يبدو لنا أن الوجود - في الفلسفة الاسلامية - غير قابل للقراءة، فهو لا يتمثل لنا بحقيقته؛ لاستحالة انقلاب العيني إلى الذهني، كما لا يقع تحت التصور المنطقي؛ لاستحالة رسم الوجود بعوارض الماهيات، ويبقى أن الوجود مرتكز في وجداننا، وقابع في تصورنا البدهي البسيط، وقابل للتمثل فقط عن طريق الشهود الحدسي. ونظرا لابهام الوجود وغيبوبته، كان على الفلسفة أن تعبر عن القلق الذي ينتابه في تمثله الذهني، وقد استحوذ ذلك على مباحث كليات الوجود التي استهل بها الدرس الفلسفي والتي اتخذت حيزا تأسيسيا لمجمل النشاط الفلسفي. كما دفع هذا الابهام باتجاه ظهور بدائل أكثر قابلية للتمثل والجلاء بعد تلقيحها بنوع من التأثير والفعالية، وعلى امتداد فلسفات المشاء الموروثة والمبتكرة فرضت الماهية نفسها كظاهرة معبّرة في الواقع الفلسفي وقابلة للدراسة وفق السياق المنطقي، كما أخذت العدميات الكلامية والعرفانية باحتلال مواقعها في النظام الفلسفي، وتمثل ذلك في مقولات من قبيل مقولة «الثبوت» التي تتجاوز الوجود إلى بعض أقسام العدم، ومقولة «الأعيان الثابتة» التي تسبق الوجود في التعيّن. كل هذا كان يعبّر عن قلق الوجود كونه لا يمثل ظاهرة، ولا يقع موضوعا للدراسة، ولا يقبل القراءة كنص. وأي محاولة كهذه سوف تفقد من دينامية الوجود وهويته، وهذا ما يفسر لنا تولّد فلسفة الوجود تحديدا من رحم العرفان والشهود، وفي ذلك توكيد لعنصر الذاتية في التصفح العياني لجسد الوجود، فهو في تعاليه وبطونه ذهنا يأبى إلا أن يمتلك كل عناصر الظهور والجلاء الواقعي والعياني، لهذا تضطرب الوجودانية في تصوراتنا المعمقة المشوبة بالعدميات والأساطير الماهوية. وهذا ما استدعى ذلك الانشغال في إزاحة الماهيات، والانهماك في تنحية العدميات عن طريق الوجود، كل ذلك نجده مستوفيا في مباحث كليات الوجود الفلسفي؛ فالوجود لا يحتاج إلى التفسير والفحص، بل لا يمكن إخضاعه للمساءلة، وكل ما يمكن لنا فعله هو تنحية الأغيار عن وجه الوجود، وليس علينا بعد ذلك سوى مراقبته وهو يفصح لنا عن ذاته بذاته. وخلافا للفلسفة الغربية والتي تعمل على توطين الوجود في البيئة الإنسانية، تنشأ مشكلة الوجود في الفلسفة المتعالية من جراء مواجهة العدميات الكبرى، ولا ينحصر إطارها النظري بعدمية معينة يتحدد – وفقها - سقف القلق الوجودي في اعتراك زمني مع العدم الذي يفصح عنه في الموت، وإنما تتركز المشكلة بالوجود ذاته وفي كيفية تمثله ونحو تعبيره عن نفسه. وكذلك الأمر في التراث الكلامي والفلسفي التقليدي، إذ يبدو الوجود من حولنا بصفة الحدوث والامكان، وبهذا الاعتبار صحّ أن يجعل منه موضوعا للدراسة وأن يكون قابلا للقراءة والمساءلة، وبذلك تمحور البحث المشائي في كيفية عروض الوجود على العالم، واشرأبت الأعناق شيئا فشيئا للبحث في المبادئ والعلل وتفسير الوجود، ويبدو أن مشروعا كهذا سوف يُحكم بالاخفاق كونه يفترض أن للوجود وضعا يكون فيه قابلا للتفسير. وفي اتجاه مغاير تماما، بحث ملا صدرا في الوجود بما هو وجود، ذلك الوجود الذي يساوق الوجوب والوحدة والصرافة. ومن خلاله سعى لأن يصدر أحكامه على الوجود الحادث والممكن، وإذ ليس هناك سوى الوجود، فلا معنى للسؤال عن كيفية عروض الوجود على العالم، وبذلك تغيرت وجهة البحث الفلسفي، وتمركز السؤال حول كيفية ثبوت العالم، وليس عروضه.

ولا يحجم الذهن عن افتراض «الوجود البديل» الذي ينازع «الوجود الاصيل» على الأصالة، ذلك أنّ كل ظاهرة إنما تتجلّى في الذهن بصورتين: من جانب هي ماهية تستقل في الذهن، كونها تحكي عن الطبيعة في كليّتها، وتقع في الجواب عن سؤال: ما هو؟. ومن جانب آخر هناك وجود بلا أدنى شك. لقد مضى زمن طويل على تغييب الوجود تحت ستار الماهيات، ويبدو أنه قد حان الأوان للموازنة بينهما، وإخراج الواقعي والحقيقي من تحت شعاع الميتافيزيقا. وقد اعتمد لأجل ذلك السعي التالي: الشيء هو شيء واحد، لا أنه شيئان [متباينان]. الماهية تتحقق بالوجود، لا بغيره. الصادر الأول بسيط، غير مركب. هذه المبررات الداخلية والخارجية تدعو بقوة إلى ضرورة الحفاظ على عنصر الانسجام والتناغم في الكون، من خلال القول بأنّ الواقعية واحدة، وواحدة فقط. والمرتكز في كل هذا هو وجداننا، فما هو قابع في أعماق أنفسنا بنحو جبلي إنما يميل تلقائيا إلى الوحدة والانسجام. ولأجل ذلك، ينحصر القول في واحد من اتجاهين: الأول: أن الأصل هو الماهية، وهو المنسوب إلى شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي؛ إذ الوجود لو كان أصيلا لاستلزم وجودا متسلسلا بلا نهاية، وكل ما يلزم من تأصله تكرره كذلك، فليس بأصيل. وقد غفل شيخ الاشراق عن الحقيقة الذاتية للوجود، ولهذا نُعت مذهبه بالعليل، ودليله بالزيف. والثاني: أن الأصل هو الوجود، وهو المنسوب إلى أهل التحقيق من المشائين، والمذهب المنصور بنظر السبزواري. وفي هذا – كما لا يخفى - إحالة للأصالة على الوجود الذي يتسم بالغياب المنطقي، والخفاء المعرفي، ولا يملك سوى الإدعاء البدهي. وقد ساق السبزواري أدلة على أصالة الوجود تبتني في صميمها على المنحى الميتافيزيقي: فالوجود منبع كل شرف، ولا شرف ولا خير في المفهوم الاعتباري!. وفي ذلك تضمين مسبق لا يخفى. وتقوم سائر الأسس على ضرورة تنحية اللوازم الباطلة الناشئة من القول بأصالة الماهية، من قبيل: لزوم عدم الفرق بين الوجودين الخارجي والذهني، لزوم التشكيك في الماهية، لزوم عدم انتظام الأنواع، لزوم التكثر في حدود الموجودات وفي الذات الالهية ذاتا وصفة وفعلا، حيادية الماهية في نفسها في معادلة الوجود والعدم. لقد طرحت أصالة الوجود بمعنى أنّ لمفهوم الوجود مصداق وفرد بالذات. أي أنه هناك أفراد حقيقية لمفهوم الوجود الانتزاعي. وقد ذهب صدر المتألهين إلى أنّ الفائض عن الحق، والصادر عن المبدأ هو الوجودات الخاصّة، وأكّد أنّ هناك أفرادا حقيقية لمفهوم الوجود الانتزاعي. قال: « لمّا كانت حقيقة كل شيء هي خصوصية وجوده التي يثبت له، فالوجود أولى من ذلك الشيء - بل من كل شيء - بأن يكون ذا حقيقة، كما أنّ البياض أولى بكونه أبيض ممّا ليس ببياض ويعرض له البياض. فالوجود بذاته موجود، وسائر الأشياء غير الوجود ليست بذاتها موجودة ». إذن، موجودية الوجود تقوم على مبدأ الهوية. وهو مبدأ سوف يخضع للنقاش على الدوام. فقد تناوله الشيخ السهروردي بالنقد على اساس قاعدته المشهورة: «كل ما يلزم من تحققه تكرره إلى ما لا نهاية فهو اعتباري». وأجيب عليه بأن الوجود موجود بذاته، لا بوجود آخر إضافي، فلا بد من الإيمان بوحدة مبدأ الوجود من حيث الهوية. وشيئا فشيئا، سوف يتم إرساء مفهوم الهوية على أساس الاختلاف لا التطابق (هيجل، هيدجر). إن وجودية الوجود لن تزيد عن ماهوية الماهية وبياضية البياض، أي أن الأشياء تثبت لذاتها بذاتها بالحمل الاولي الماهوي، والوجود الذي تثبت له الموجودية هنا ليس هو حقيقة الوجود العينية، فان حقيقة الوجود متشخّصة بنفس (ذاتها) لا بمفهومها الانتزاعي. فيصح التساؤل عن انه هل حقيقة الوجود هذه هي مصداق بالذات للوجود الانتزاعي ام لا؟. ذلك أن الموجودية التي تثبت لنفس هذا الوجود بالحمل الاولي هي الموجودية بمفهومها الانتزاعي لا بوجودها الأفرادي الذي هو منشا الأثر. ومع ذلك، اعتبر مفهوم الوجود الانتزاعي ومنذ البدء (وقبل إثبات الأصالة للوجود)، مفهوما بديهيا بمعنى التحقق ومنشأ الأثر(!). ويبقى أن الحمل الذاتي الماهوي هو حمل ببركة الوجود؛ فإنّ حمل الحد على المحدود - كحمل الحيوان والناطق على الإنسان - لا بد أن يرجع إلى أمر غير ذات الماهية، فظهور نور الوجود، وسريان الوجود الجامع للأجزاء الذهنية للماهية يتم في الذهن. أمّا ظهور وسريان الوجود الجامع للأجزاء الخارجية للماهية فيتم في الخارج. من هنا، فصدق الحد على المحدود في الذاتيات، وصدق المفاهيم العرضية في العرضيات، وصدق الانتزاعيات على الماهيات يدل على أصالة الوجود واعتبارية الماهية بدليل صحة الحمل وضرورته. إذن، الوجود موجود بذاته. ويطالعنا العلم الوضعي بمفهومه التحليلي بأن مفردات من قبيل الوجود الذهني، الماهية، الأنواع، الحدود.. تعتبر رموزا وعلامات ميتافيزيقية بامتياز؛ وهي أحكام تطلق على الطبيعة الكلية والتي لا واقع لها سوى الاسم، ولذلك هي ألفاظ فارغة من المضمون، ولا مكان لها في جعبة العلم التحقيقي. وقد تبنى ملا صدرا مقولة الأنواع الماهوية كسالفيه، إلا أنه لم يجعل منها حدودا مقفلة ونهائية، بل أسبغ عليها وضعا علائقيا بحيث تقع في طريق بلورة الوجود بشكله الأكمل للموجود وهو يخترق جدار الوجود كادحا إلى ربه. قال: «إن الهوية الجوهرية مما يشتد ويتحرك في جوهريته حركة متصلة على نعت الوحدة الاتصالية، والواحد بالاتصال واحد بالوجود والتشخص. وقول المشائين أن كل مرتبة وحد من الأشد والأضعف نوع آخر، وإن كان حقا، لكن بشرط أن لا يكون ذلك الحد حدا بالفعل، لكن من الحدود المفروضة في الاشتداد..». إن الوجود لا يمكن أن يوضع في إطار خاص، فإن كل وجود هو بعينه واجد لإطاره، وموجد له. وفيما انشغل الفلاسفة في ضبط مقولات هذا العالم وفحص كلياته، في محاولة العثور على ماهياته وحقائقه، الأمر الذي شكل عائقا دون بلوغ أحكام الوجود الراجعة إلى حقيقته. نجد ملا صدرا وقد نظم حبكة العالم العلوي، وأسبغ عليه صيغته الوجودية المثلى، يتفرّغ بعد ذلك لتنظيم عالم الإمكان والذي رأى في ماهياته كما لو أنها دمى عابثة على مسرح الوجود، ولا ينبغي أن تنخدع الحواس بحركة تلك الدمى، والتي لا تقبل التفسير إلاّ على أساس الجوهر الذي يتحكم في مسارها رغم غيابه عن مجال الحس. فقد نظر صدرا إلى المشهد الكلي من أعلى، وفسّر نظام العالم على أساس رجوع معلولاته إلى حاق العلة، وارتكاز أعراضه إلى صميم الجوهر، ذلك الجوهر المندفق بفعل الحركة التكاملية السيالة، والذي لا يترك لنا مجالا لالتقاط الأنفاس بفعل اشتباك الفصول، هو فقط ما يخولنا للكشف عن المشهد الكلي للعالم.. وبكلمة مكثفة، لم يعد هذا العالم متصفا بالوجود، بل صار الوجود متعينا – في بعض وجوهه ومظاهره - بصفة هذا العالم. إن احكام الوجود تنسب اليه على نحو القضية البسيطة التحليلية، لا المركبة. لهذا لا معنى للوجود الرابط في القضايا الفلسفية، فالوجود بذاته لا يكون الا مطلقا عن كل تقييد وتحديد. والرؤية الكاملة عن الوجود المطلق نجدها لدى العرفاء تحديدا؛ ذلك أن الموجودات المقيّدة منسوبة إلى الوجود المطلق؛ وهي بوصفها مقيدة لا تمتلك صفة الوجود على الحقيقة‌، لأنّها عبارة عن إضافة هي نسبة المطلق إلى المقيّد. وهذه الإضافة وتلك النسبة لا تحقّق لهما في الخارج‌. والوجود المطلق هو نفس الوجود المقيّد، ولكن بوجه آخر. والمقيّد هو نفس المطلق مع قيد الإضافة‌. ولا وجود إلاّ للوجود المطلق‌، وذلك أنّه لو أسقطتْ الإضافات والنسب عن جميع الموجودات لم يظهر في دائرة التحقق سوى الوجود علی صرافة وحدته ومحوضة إطلاقه‌، فيتضح أنّ الوجود المقيّد إنّما هو موجود بوجود المطلق ومعدوم بعدمه‌. ولهذا قالوا: التوحيد إسقاط الإضافات. وكما تطلّب الأمر من الفلاسفة السابقين إنجاز رؤية واضحة حول كيفية ربط الحدوث والإمكان بالوجود المطلق، ملا صدرا أيضا سوف يجد نفسه معنيا بانجاز رؤية عن كيفية ارتباط الوجوب والوحدة بالفروع، فإن الوجود بصورته المتعالية التي طالعنا بها، لن تسمح له بتنظيم رؤيته الكونية إلاّ على أساس من اضمحلاله، وذلك باستناده إلى إضافة إشراقية تختصر واقع العالم بعين الربط، ولا شيء غير ذلك. وهذا الربط هو المحك لأي دراسة ميتافيزيقية تقوم على سؤال محوري: هل بقي صدرا منجذبا لعالمه العلوي المساوق للوجوب والوحدة، ومنذهلا عما سواه، كما بقي سابقوه أسرى عوالمهم الإمكانية!.

ha.ye.ba

السبت، 30 أكتوبر 2010

الحقيقة الميتافيزيقية بين حس الطبيعة وحدس الوجود

يبدو أنه من التعسف أن نقارب السؤال عن ماهية الميتافيزيقا في ظرف ملتبس لا يخلو تماما من الممارسة الميتافيزيقية، فمنذ البدء نجد الإشكالية ماثلة وتفترض تحديد خياراتنا على صورة اشتراط مسبق لأية امكانية في التعريف. ذلك أن المفهوم نفسه ينتمي الى بيئة تأملية ويرفض أن يتحدد في موضوعات مؤطرة مسبقا. كما يبدو من العبث أن نذهب مباشرة لتحديد المدلول اللغوي كما لو أنه يشكل إضاءة أولية للمقصد، مع ما تخلل ذلك من غموض في الترجمة والتعبير. وإذا كان يتعين علينا أن نقارب الميتافيزيقا كظاهرة، وأن نضع في الحسبان كل ما قيل أو يمكن أن يقال عنها، فهنا فقط يمكننا الحديث عن دلالة الميتافيزيقا بطريقة موائمة، بأن نحدس ذلك النسق الذي يوحد بين تلك الظواهر المختلفة والأقوال المتعددة عنها، ذلك أن هذه الدلالة تصطبغ في تطورها التاريخي بألوان من الاتجاهات والرؤى المتنوعة، وتخضع للتغيير تبعا لما يقع في قصد واهتمام كل مدرسة، إلاّ أن ذلك يبقى صحيحا فقط في إطار المواضعة، ولا يشكل مدخلا حقيقيا للتعريف إلاّ بمقدار ما تتجلى الميتافيزيقا نفسها على مسرح التاريخ وفي نطاق الوعي والوجود. من المعلوم أن المصطلح أطلق في الأصل على كتابات أرسطو التي نشرها أندرونيقوس الرودسي في القرن الأول قبل الميلاد، وتحديدا على المباحث التي تأتي بعد الطبيعيات في سياق الشرح والتصنيف، فقد تنبه أرسطو الى تعلق المباحث الفلسفية بقسم خاص من الوجود، وهو الوجود الذي لا يتخصص بخصوصية ما، ومذاك تحدد أحد أهم مجالات البحث الفلسفي في الوجود بما هو وجود ذلك الذي لا يقع في مجال الخبرة المباشرة للإنسان، لذلك تبحث الميتافيزيقا في الـ «مابعد» والـ «ماوراء»، وليست البعدية هنا بعدية مجاوزة الى ماوراء عالم المحسوسات بالضرورة، بل هي البحث عن جوهر الوجود الشامل. ومع أن البحث في الطبيعي متقدم على البحث في الميتافيزيقي تقدم المحسوس على المعقول في الإيضاح والشرح، إلاّ أن أرسطو يولي أهمية فائقة للميتافيزيقيا، ويقدّمها على غيرها من العلوم من حيث الرتبة. وقد تبحث الميتافيزيقا باعتبار آخر عن الحقائق المجردة والثابتة فيما وراء الطبيعة، وليس في ذلك تجاوز إقصاء بالضرورة طالما أنها تقوم في إيمان أتباعها على أن الحقيقة متجلية بتمامها في ذلك الماوراء. وقد تم تداول المصطلح في الجانب الاسلامي في كلا الاعتبارين، وأشير به إلى الإلهيات بالمعنى الأعم؛ حيث يتم البحث عن الأمور المستغنية عن المادة مفهوما ومصداقا[1]، وإلى الالهيات بالمعنى الأخص؛ وهي الأبحاث التي تدور حول الله وصفاته وأفعاله. فالميتافيزيقا اسلاميا، تقع فوق الطبيعة حين تبحث عن أمور غير مشروطة بالمادة (بلا شرط من المادة). وقد تقع مقابل الطبيعة؛ وذلك حين تبحث عن أمور مجردة عن المادة (بشرط لا من المادة). ويطلق على كلا القسمين اسم الالهيات بنحو الاشتراك اللفظي. ويطلق على مجموعهما اسم الفلسفة الاولى والتي موضوعها هو مطلق الوجود، لا الوجود المطلق[2]. وعليه تقع الرؤية الميتافيزيقية الباحثة في أحوال المجردات في مقابل الرؤية المادية. فيما تقع الرؤية الميتافيزيقية الباحثة في أحوال الوجود بما هو وجود في مقابل الرؤى العلمية المختلفة بوصفها بحثا في صنف خاص من الموضوعات. أما ارتباط الطبيعي بالميتافيزيقي، فلم يتجاوز في الفلسفة الاسلامية سياق الشرح بحكم الضرورة التعليمية، أو سياق الترسيم للهندسة الكونية التي تحيل في البدء والعود إلى المرجعية الالهية. وسواء اعتبرت الميتافيزيقا كمبحث في الوجود العام، أو في حدود القضايا المجردة، فقد ساد الوئام إلى حد كبير بين مقولات الفلسفة ومقولات الدين على مدى عصور طويلة، ذلك أن كل منهما يستند إلى مقولة الإيمان؛ فالبحث في الفلسفة الأولى هو العلم الأرقى، ولأنه كذلك؛ كان لا بد من السعي لأجل التوفيق بين الدين والفلسفة، العقل والنقل. ويرتد المفهوم بذلك إلى البحث عن العلل الأولى ومبادئ الوجود. ولن ينغّص صفو هذا التقارب وجود بعض الإعتراضات الشاجبة؛ فإن سهام النقد (الغزالي، ابن تيمية..) لن تطال الأرضية الصلبة لجوهر الايمان الذي يقوم عليه كل من الدين والميتافيزيقا. وقد اقتصر الانشغال الميتافيزيقي في القرون الوسطى، ولدى الفلاسفة اللاهوتيين، على موضوعات دينية بحتة من قبيل: الله، الروح، الخلود.. ونحوها ممّا يشكّل أبحاث «الحكمة» بنظر القديس أوغسطين. والميتافيزيقا هنا تقع في مقابل الطبيعة، وليس فوقها، وتبحث عن الحقيقة فيما وراء الأشياء. ولا ينبغي أن يفهم هذا التجاوز كما لو أنه انحسار للاعتبار الشمولي السابق، بمقدار ما هو حديث عن الحقيقة نفسها ولكن في السياق اللاهوتي الفلسفي. وقد ظل هذا الإيمان ثابتا إلى بدايات عصر النهضة الأوروبية، وتحديدا مع ديكارت ومجاوزته للشمولية الكونية المؤسسة على صعيد الوجود، إلى الشمولية المعرفية المؤسسة على صعيد النفس البشرية، تلك المعرفة التي ينبغي أن تبنى عليها معرفة الله، والطبيعيات، والرياضيات.. وهي المعرفة الكاملة التي تكشف لنا تجرد نفوسنا، وتفسر لنا القيم الإنسانية.. فالميتافيزيقا هنا بمثابة الجذور في شجرة العلوم، تلك الشجرة التي تشكل الفيزياء جذعها، والمنطق والأخلاق والميكانيكا فروعها. والميتافيزيقا هنا قائمة في العلم بالنفس الانسانية، وفي النظام الهندسي للمعرفة، وهي معرفة كاملة كونها تمثل الجذور التي تنبثق عنها سائر المعارف الأخرى. ونجد سؤال الميتافيزيقا مطروحا بقوة في عصر كانط. وسوف تتحوّل الميتافيزيقا مع نقوده العقلية، إلى مشروع نقدي يتجاوز البحث عن الوجود، ويتخذ منحى تأسيسيا في الكشف عن مناطق نفوذ العقل وحدود عمله. وتتمثل الميتافيزيقا الكانطية في التصورات التي تتولد من داخل العقل بفعل النقد، وليس من الخارج، فهي قبليات سابقة على التجربة، وهي مع ذلك شرط في أي معرفة تجريبية. ومع هيجل والمثالية الالمانية تستعيد الميتافيزيقا مدلولها التقليدي لتبحث فيما «وراء الطبيعة»، وهي تتمثل الواقع الماورائي نفسه في المطلق، وأحيانا على شكل قوانين مستفادة من الواقع وقابلة للتعميم على المجالات الاجتماعية والتاريخية كافة. ومع هيدجر تعود الميتافيزيقا إلى الفلسفة لتبحث عن الموجود في الوجود، عن الإنسان وهو يخضع للمساءلة الميتافيزيقية دوما في مواجهة قضاياه الكبرى، الوجود والموت والزمن.. ويبدو أنه لم يتبلور المصطلح كرؤية في النطاق الفلسفي إلا على أثر الاحتكاك بالعلم بمفهومه الوضعي، وسياقاته المنطقية والتحليلية. فقد اعتبر الوجود بما هو وجود غير ذي معنى؛ لعدم إمكان التحقق منه بالوسائل التجريبية. إن الوجود بما هو وجود ليس شيئا من أشياء هذا العالم بحيث يناله الحس، بل هو استنتاج عقلي وضرورة نسقية، وأقصى ما يملك الباحث فيه هو أن يقبل به في نفسه، ويرتضيه في دخيلته، دون أن يكون قابلا للبرهنة أو الاثبات بالطرق التجريبية. ولم يقتصر النقد على شيئية الوجود، وإنما امتد إلى النظام المنطقي الذي انبثق عنه. إذن، ومع تبلور الفلسفة العلمية بكافة أشكالها وتداعياتها، يتخذ النقد وجهة مختلفة تدعو إلى مجاوزة مفهوم الميتافيزيقا نهائيا، ذلك المفهوم القائم على الايمان بالحقيقة المطلقة، فإن الحقيقة كما هي في ذاتها، والتي تتشكل منها الهوية الميتافيزيقية لن تعود شيئا علميا، أو شيئا ذا معنى إذا ما قيست إلى الخبرة المباشرة ومبدأ التحقق العلمي. وحيث إن الميتافيزيقا متناقضة مع العلم التجريبي، لهذا لن يمكن الجمع بينهما أبدا. ومع كارل بوبر سوف يكف الهاجس العلمي عن الانهماك في دحض الميتافيزيقا، وسوف يتعرض مبدأ التحقق إلى النقض؛ ذلك أن هذا المبدأ غير قابل للتحقق، ولذلك تجاوزه بوبر إلى مبدأ التكذيب. ويبدو أن فعل التجاوز اليوم منهمك بالافلات من قبضة هيجل التي تكبل فكر اللاحقين، ويتمثل ذلك من خلال طموح واعد إلى مجاوزة الميتافيزيقا نفسها عبر التقنية الوادعة!. إن الفلسفة لا تقدم أي معرفة جديدة، هي فقط نشاط نقدي يسائل المعارف الأخرى ويفحصها، وهي تبحث في الواقع وفي ما يتجاوزه, وتضفي المعنى على الوجود الإنساني وعلى التاريخ. وتأبى الميتافيزيقا بوصفها ذات طالع شمولي عن قبول التجاوز، ذلك أن التجاوز والأفول هي من خصائص الخبرة المحدودة للنظريات العلمية، والفلسفات الماهوية، فإن كافة العلوم تصاغ عبر منطق يؤسس لها، باستثناء الميتافيزيقا فهي تضع منطقها بنفسها. إن فلسفة الوجود تعطي التعبير الكامل عن الميتافيزيقا، وذلك بوصفها جهدا عقلانيا يتوخى إبراز الوجود أو إلماحه, وتجاوز كل ما يمكن أن يحول دون ذلك. إن فعل التجاوز الذي مارسته الميتافيزيقا على امتداد تاريخ الفكر، من كونها بحثا في الوجود العام، إلى البحث عن قضايا تتعلق بالله والحرية والأخلاق والروح، والخلود .. أو اعتبارها بحثا في جذور المعرفة الإنسانية، وقبليات العقل النقدي، أو تماهيا مع الأخلاقي، والفني.. هو في مجمله فعل اغتراب يعمل في دائرة الوعي اللامحسوس واللامباشر، أو هو فعل خداع وتضليل هادف في نفس الآن، فالميتافيزيقا تحكم قبضتها بقوة على عنق التاريخ والوعي البشريين، وحين تأخذ بالانسحاب والأفول فإنها تفعل ذلك لاعتبارات أقوى، لا أقلها المزيد من إحكام السيطرة وتثبيت الهوية، وفي سبيل ذلك تختبئ وراء الاشياء المعلنة والمباشرة. ويبقى هذا النشاط ضرورة قائمة كشرط لانتاج المعرفة الحقيقية التي تشبع نهم الوجود في كليته.
الميتافيزيقا كنمط في المعرفة
ينصب جهد الميتافيزيقا في الفلسفات القديمة عموما على إدراك الواقع الحقيقي من خلال تنحية الواقع العابر، ذلك الواقع الذي نعلم به من خلال ما يرتسم منه في مداركنا، أو عن طريق ما نحدسه في ذواتنا، قبل أن يقوم العقل بإطلاق أحكامه عليه، لذلك يتخذ البحث في الميتافيزيقي منحى معرفيا، وتتنوع الطرق والوسائل الموصلة إليه، بحيث نلحظ هذا التنوّع مقارنة مع الطرق المعهودة في الفلسفات القديمة وعلى مختلف مسارات التاريخ الفلسفي الموروث. والحقيقة هي الحق والصدق، مقابل الباطل والكذب. ويعتبر سؤال الحقيقة وملاك الصدق والكذب في القضايا أحد الأسئلة الاساسية في الفلسفة، والحقيقة هنا هي في تطابق الفكر مع الواقع، وتوافق الإدراك والمدرَك، الذهن والعين. إن وجود الخطأ يكشف عن عدم مطابقة الفكر للواقع، وتصحيح الفكر يكون بمقايسته إلى الواقع، وبالأصح مع عدم تناقضه معه. والحقائق التي يهدف الفيلسوف الى معرفتها وتخليصها من الوهم والاعتبار هي المعلومات التي تتطابق مع الموجودات الواقعية، والحقيقة لا تكون كذلك إلا لأنها إحالة معيارية تجد مرجعيتها في ذلك التطابق مع الواقع حصرا. ويعتبر تفسير الحقيقة وفق نظرية التطابق هذه من العلامات الفارقة للفلسفة الميتافيزيقية. وقد واجه هذا التفسير اعتراضات شتى، وطرحت بدائل ذات معايير محددة لا تنهض على أساس واقعي، كالقول بأن الحقيقة ما يفيد فائدة (الذرائعية)، أو ما تتفق عليه الاذهان في زمان واحد (الإجماع)، أو هي مجموع الحقائق الجزئية التي أعيد بناءها وفقا لمنطق اللغة (السيمونطيقية).. إلاّ أن الحقيقة لا تخضع للاعتبار والمواضعة، ذلك أنها تتسم بالواقعية، وأي تحوير في ذلك سوف يوقعنا في وحل السفسطة حسب تعبير مطهري[3]. ولهذا لا بد من توكيد هذه النظرية، وإقرار الحقيقة نهائيا وفق معيار المطابقة. وعلى الفلسفات أن تنصرف إلى استجلاء طبيعة هذا الواقع المُحال عليه لا غير. ومنذ وقت مبكر من تاريخ الفلسفة المعلن، تركّز البحث عن الحقيقة في جوهر الأشياء الثابتة والتي تقع في مجال الإدراك العقلي، مقابل الأعراض المتغيرة والمتحولة والزائلة والتي تقع في مجال الإدراك الحسي، فالحقيقة هي الشيء الثابت قطعا ويقينا، في مقابل المتغير والزائف والمتحول.. ولا بد من تجاوز المحسوسات إلى المعقولات كشرط في إنتاج المعرفة الحقيقية. إن الإعلاء من شأن العقلي على الحسي هو علامة فارقة لانطلاق المشروع الفلسفي. فالمعرفة الحقيقية هي تلك التي تنبعث من المدركات العقلية. والعقل هو الوسيلة المأمونة لمعرفة حقائق الأشياء كونه يشكّل أساسا مشتركا بين جميع الناس، بخلاف المعرفة الحسية التي لا تملك القدرة على استجلاء الحقائق، ولا تقوم على أساس مشترك بين الناس. وقد تمثلت الحقيقة عند أفلاطون كنموذج مثالي مفارق، وما العالم الحسي سوى انعكاساته وظلاله. إن إدراك حقائق الأشياء المجرّدة عن المادة يرتكز إلى المعرفة الحقيقية القائمة على اليقين، أما موضوع المعرفة الحسية (ظواهر الأشياء والأمور النفسانية) فلا تصلح أن تكون سبيلا للمعرفة الحقيقية؛ لأنها تنقل لنا الصيرورة الدائمة والتغيّر المستمر. فيما شدّد أرسطو على التمييز بين وظيفة العقل ووظيفة الحواس، وذلك على أساس أن الحواس تتأثر بالصور الحسية في علاقاتها الزمانية والمكانية، بينما يتأثر العقل بالصور العقلية المجرّدة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، ومع ذلك، لم يرتضِ أرسطو أن يكون أحدهما مجرّد انعكاس للآخر، بل الحقيقة عنده متمثلة كاملة في هذا العالم، وهي تدرك فقط من خلال العقل؛ ذلك أن الطبيعة النوعية والجوهرية للشيء لا تقع في مجال الحواس. إن ثنائية النظر هذه وفق أفلاطون وأرسطو سوف تظل عنصرا ثابتا في مجمل النشاط الفلسفي الاسلامي. ففي الاتجاه الأرسطي، نجد الكندي يميز الادراك العقلي بوصفه تصديقا عن الادراك الحسي بوصفه تصورا، ويجعل موضوع الادراك العقلي هو الأشياء الكليّة من أجناس وأنواع؛ فإنّ كل ما هو معنى نوعي وما فوقه ليس متمثّلا للنفس بل هو مصدّق أو محقّق بفضل المبادئ والأوليات العقلية الضرورية، كالتناقض، والذاتية، والتساوي.. أمّا موضوع الادراك الحسي فهو الجزئيّات أو الأشخاص الهيولانية المتمثلة في النفس، وهي تتغيّر وتفسد دائما، وتتعرّض لأنواع الحركات والزيادة والنقصان[4]. وتتركّب المعرفة الحسية عند الفارابي من فعل بدني يقتضي اتصال الإنسان المباشر بالأشياء والمحسوسات، وفعل نفساني هو نفس الإحساس. ولا بد من الجمع بين اكتساب المعرفة من خلال الحس الظاهر، والحس الباطن، وإيصالها إلى المعرفة العقلية. والحس عند ابن سينا هو أول درجات الفهم الإنساني، ويختصّ بما هو موجود خارجي، جزئي، محسوس بصورته ومادته. فيما يختص العقل بالمعاني الكلية المجردة عن المادة، ومهمة العقل تجريد الصورة عن المادة، ثم جمع الأشياء المختلفة في نسق واحد، وهو يؤلف من كل مجموعة من الأجناس والفصول معنى واحد[5]. والسمة الغالبة على مجمل النشاط الفلسفي هنا، هو أن جوهر الأشياء هو ما يقع في مجال الإدراك العقلي، ولا بد في سبيل حيازة هذا النوع من المعرفة من تجاوز كل ما هو عرضي متغير وزائل مما يقع في مجال الإدراك الحسي. وقد غلب استعمال الحقيقة بهذا المعنى في التداول الفلسفي القديم وصولا إلى المشائية الاسلامية. وفي الاتجاه الأفلاطوني، نجد في فكر التابعين مراجعات مكثفة لما قرّره أفلاطون من أن البحث عن الحقيقة لا يعدو إيقاظ النفس وإثارة ما يوجد فيها بالطبع، ذلك أن معرفتنا بالأشياء هي في الحقيقة استذكار للمثل، كما أن الجهل نسيان لها: «العلم تذكر والجهل نسيان»[6]. ولا بد من متابعة الحكمة الروحية التي نطق بها الحكماء الأقدمون، وتكفل بشرحها الفلاسفة المتأخرون؛ اذ مهمة الفلسفة هنا هي في شرح الحقيقة وتبيينها. ويعدّ القرن الثالث الميلادي عصر الشرّاح، وأفلوطين نفسه كان من هؤلاء الشرّاح، فهو يقول في التاسوعات: «نظرياتنا ليس فيها جديد، وليست من اليوم، فقد أعلنها (الفلاسفة القدماء) قبل وقت طويل، ولكن دون أن يتبسطوا فيها، ولسنا نحن إلا شرّاح هذه المذاهب القديمة»[7]. وفي متابعته لهذا المنحى يرى أفلوطين أن العالم المحسوس هو ظل وانعكاس للعالم العقلي الحقيقي، وهو يعتبر أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة الروحية التي تحصل لبعض الأشخاص الذين يتميّزون بنفاذ بصيرتهم، فتشملهم العناية والإشراف الإلهي، فيرتفعون بسبب هذه المعرفة إلى العالم الأعلى، وطريق هذه المعرفة هو الوجدان والحدس المباشر في إدراكه للحقيقة المطلقة (الواحد)[8]. ويشير الفارابي إلى أن للروح قوى أخرى لا تتصل بفعل العقل النظري؛ لأنها من السّر وليست من العلن، ولا تبدو وتتبيّن إلا بتخلّص الفرد من جانبه الظاهري، أي من الغضب والشهوة، للتحقّق بمعرفة لدنية عليا[9]. أما ابن سينا فيرى أن مثل هذه المعرفة لا تحصل إلا لأصحاب النفوس الطاهرة والقلوب الصافية التي تتلقى عن الله دون واسطة من حس أو عقل، فتشرق عليهم الأنوار القدسية، فيسعدوا بها سعادة أبدية. والذي يعين على ذلك هو التفكر في الله دون سواه، وعشقه عشقا منزها، ولا يمكن هذا العشق بأداة غير القلب. والكمال الحقيقي – عند السهروردي - إنما يحصل بالعلم الحقيقي الثابت بحسب ثبات معلومه. والعلوم الحقيقية تنقسم إلى قسمين: ذوقية كشفية، وبحثية نظرية. والعلوم الذوقية هي عبارة عن معاينة للمعاني والمجردات، وذلك على سبيل المكافحة لا بفكر ونظم دليل قياسي، أو نصب تعريف حدّي أو رسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية متفاوتة تسلب النفس عن البدن وتتبيّن معلّقة، تشاهد مجرّدها، ويشاهد ما فوقها مع العناية الإلهية[10]. كما كان للغزالي إسهام واضح على مستوى تنقيح المعرفة اليقينية والتي تحصل على أساس الكشف، فاليقين عنده هو حالة لا يبقى معها مجال للشك بحيث يتعين على العقل أن يعرف الحقيقة، وهذا اليقين يفيده البرهان الحقيقي، ولكن مستنده هو النور الإلهي الذي أتيح للغزالي من خلال الكشف والمشاهدة. وقد استلهم صدرا الشيرازي التراث الإشراقي من خلال مناقشة حكمة الإشراق، وصوفية الغزالي، وعرفان ابن عربي، وأثولوجيا أفلوطين.. ما جعله على مفترق الطرق إزاء النزعات المختلفة آنذاك. فالحقيقة - في مدلولها الإشراقي عند المسلمين - لا تبنى على العلم العقلي فحسب، وإنما يكون لها معنى في نطاق العلم الحضوري بالوجود، فتتمثل في حضور الوجود وتجلياته في ذواتنا، أو إشراق أشعة الحقيقة المطلقة على النفس من وراء مظاهر هذا العالم. وهذا المعنى هو المتداول في حقل العرفان والتصوف والفكر الاشراقي عموما. وسوف تتمثّل هذه السياقات الأفلاطونية والأرسطوية في الفلسفات المدرسية (الأسكولائية)، على اثر احتدام الخلاف في معالجة مشكلات من قبيل: العلاقة بين الله تعالى وبين العالم، وبين الحقيقة اللاهوتية المتمثلة في الايمان الديني والحقيقة الفلسفية. وقد أدى هذا الاختلاف إلى قيام رؤى فلسفية متعددة، كالمدرسة الفرنسيسكانية التي تبنت آراء أوغسطين، ونزعت نحو الصوفية الباطنية، وأن إدراك المظاهر الخارجية يلتمس عن طريق الحدس والذوق والالهام، لا عن طريق النظر العقلي (بونافنتورا)، والمدرسة الدومينيكانية التي أخذت بفلسفة أرسطو، وأن المعرفة مصدرها الحس، وأن دور العقل يأتي لاحقا في إقامة الأدلة على المبادئ العقلية. (ألبرت الأكبر، توما الأكويني). مضافا إلى مدارس أخرى تكاد أن تكون موازية لها، من قبيل المدرسة الرشدية اللاتينية، ومدرسة أكسفورد (روجر بيكون). من جهة أخرى، أدى اختلاف النظر في طبيعة المفاهيم العامة (الكليات)، وعلاقة الخاص بالكلي العام.. إلى ظهور النزعة الاسمية التي ترى أن «الكليات لا وجود لها في الواقع ولا في الذهن، وانما هي مجرد ألفاظ أو أسماء تدل على عدد غير محدد من الأشياء». وقد مهد ذلك لظهور النزعة الاسمية العلمية والتي ترى «أن النظريات والقوانين العلمية ليست إلا صيغا يتواضع عليها» (إدوارد لوروا: 1870-1954)[11]. وملخص القول، أن المواقف الكبرى التي تمخض عنها ذلك العصر تشكلّت وفق اتجاهات ثلاث: اتجاه «العقليون الخلص»، حيث جرى التأكيد على انفصال الفلسفة عن الدين كليا. واتجاه «العلميون»، الذين أنكروا إمكانية قيام فلسفة دينية. واتجاه «الاسكولائيون الجدد»، وهم بين معارضين للنشاط العقلي كليا، وبين موافقين للنشاط العقلي ولكن في حدود معينة. ونجد في الصف الأخير توما الاكويني[12]. لقد استحوذت عناصر من قبيل المتابعة والتوافق والتكامل على الروح الشرقية المتفلسفة عموما، فيما شكلت القطيعة وروح النقد والتجاوز العناصر البارزة في روحية الفكر الغربي عموما. نجد ذلك بوضوح في الشروع في نقد العقلانية التأملية التي كانت سائدة والتي تقوم على أساس الايمان العقلي في توجهات القدماء، وسوف يظل المنحى العقلي ماثلا في النشاط الفلسفي مع ديكارت الذي ينظر إليه هنا كما لو أنه علامة فارقة. إن عقلانية ديكارت لا تبنى على الواقع كما هو الحال مع السابقين، والحقيقة عنده ليست وجودا مفارقا يتم استحضاره من خلال تحفيز تقوم به الإدراكات الجزئية المساعدة على التذكّر. كما لا تكون وجودا محايثا يتم استحضاره بتجريد الادراكات الجزئية في الذهن.. إن عقلانية ديكارت تبنى على معرفة الذات بالدرجة الأولى، وهو سوف يقوم بمسح الطاولة من جميع محتوياتها، وإعادة بناء العالم انطلاقا من الشك الشامل الذي لا مفر منه، ذلك الشك الذي لن يستثني منه سوى أمر واحد لن يمكنه أن يشك فيه، هو فعل الشك نفسه. إن الشك لون من ألوان التفكير، لذلك لا بد من وجود المفكر: «أنا أفكر إذن أنا موجود». وعلى هذه الأرضية الصلبة (الكوجيتو) يثبت ديكارت الحقائق الأخرى عبر أفكار النفس الفطرية، ومن جملة تلك الأفكار التي تتسم بالوضوح: الإمتداد، ولهذا يعدّ الجسم عنده فكرة فطرية، وللجسم خواص أولية من قبيل الوزن والشكل والحركة، وهي آثار واقعية له. أما اللون والطعم والرائحة والصوت ونحوها من الخواص الثانوية، فهي تابعة لكيفية تركيب أجهزتنا الحسية، وهي انفعالات نفسية لا واقع لها. إن التصورات الحاصلة عن طريق الحواس، كاللون والطعم هي تصورات عارضة. وقد يحصل من تركيبها تصورات أخرى كالفرس ذي الأجنحة، وهذه تصورات جعلية. وأما التصورات التي أودعها الله في طبيعة عقولنا، كتصور مفهوم الله، النفس، الامتداد، العدد، الشكل، الحركة، الزمان.. فهي تصورات فطرية. إذن، النشاط الفلسفي عند ديكارت عقلاني في مجمله، وما علينا لبلوغ الحقيقة سوى تلافي الخطأ، ولذلك وضع ديكارت قواعد المنهج للتحرز عن كل ما يعوق المعرفة اليقينية، ذلك المنهج الذي لو اتبع من شأنه أن يحد من مكر الشيطان الذي يضع في طريق الحقيقة عوائق الحس والخيال والذاكرة. وإذا كانت الوسيلة إلى المعرفة هي الشك. إذن، الذات هي أساس الوجود والمعرفة. ولأنّ الحقيقة عنده صفة ذاتية للفكرة، فما يتطابق مع الفكر فهو بالضرورة متطابق مع الواقع؛ فإن الله الذي خلق فكرنا هو نفسه خالق الواقع بحيث يضمن التوافق بينهما[13]. إن معيار الحقيقة بنظر ديكارت لا يكمن في موافقة الفكر للواقع بل في التوافق مع الذات، لا يقبع خارج الذات بل داخلها. فالحقيقة هي صفة ذاتية للفكرة، والأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل صدقها، وما ليس بحقيقي فهو كاذب؛ ولكن ليس لأجل عدم تطابقه مع الواقع، بل لأجل عدم تطابقه مع قوانين الفكر نفسها. لقد لاحظ ديكارت، وبعده كانط، أن الحكم بالمطابقة للواقع أو عدم المطابقة يرتد في النهاية إلى الفكر نفسه. إن الحقيقة وفقا لمعيار التطابق، توجب علينا مقارنة الموضوع بمعرفتنا، وهو ما يتطلب حصول المعرفة بالموضوع قبل إجراء أية مقارنة بين الموضوع ومعرفتنا عنه – كما يلاحظ كانط على نظرية التطابق -، ومعنى ذلك أنه يتعين علينا أن نتحقق من معرفتنا ما دامت لا تنطوي في ذاتها على الشرط الكافي لقيام الحقيقة. وطالما أن الموضوع يوجد في العالم الخارجي [الموضوعي] وأن المعرفة توجد في العالم الداخلي [الذاتي] فإنه لن يكون بمقدورنا سوى أن نقرر ما إذا كانت معرفتنا بالموضوع تتفق مع معرفتنا بالموضوع (تحصيل الحاصل)!!. وتقوم المعرفة عند كانط على دعامتين، إحداهما مادة المعرفة التي نحصل عليها من الأشياء الخارجية بواسطة الحس، وهي معرفة متأخرة عن التجربة. والأخرى صورة المعرفة التي هي من لوازم العقل، وهي معرفة متقدمة على التجربة. وتتضمن صورة المعرفة على الحساسة والفاهمة. ولكل معرفة تجريبية قيد زماني ومكاني، ولكن الزمان والمكان لا يعرفان من طريق الحس والتجربة، وإنما هما من صور الحساسية (معرفة قبلية). ومنهما يأتي موضوع العلوم الرياضية، موضوع علم الهندسة هو الامتداد من المكان، وموضوع علم الحساب هو العدد من الزمان!. والمقولات عنده اثنا عشر مقولة هي من صور الفاهمة. والمفاهيم الذهنية القبلية هي: المكان، الزمان، الوحدة والكثرة، التمامية، الاثبات والنفي، الحد، الجوهر، العلة، التبادل، الامكان، الوجود، الضرورة، النفس، العالم، الله. إن العلية هنا من لوازم الذهن وليست من أوصاف الأشياء[14]. وإذا كنا ندرك الواقع على أساس «إن الشيء يبدو لنا أنه كذا» وليس «إنه كذا في ذاته»، فلا ضمان لوجود الحقيقة بصورة مستقلة وموضوعية ونهائية في مداركنا. إن الواقع بنظر كانط يرتد في مداركنا إلى واقع ذاتي على أبعد تقدير. وإن إمكانية تنحية الخطأ عن وجه الحقيقة لن تبقى متاحة للعقل وهو يجادل الوهم.. وإن شر المعرفة لازم فعلي لا تجدي معه نفعا أية قواعد منهجية أو حدوس معرفية، والخطيئة الأصلية التي تسكن العقل هي خطيئة الميتافيزيقا، والعقل إذ يجادل ويتناقض لا يقوم بذلك بفعل عوامل وقوى خارجية. إن التناقض من صميم العقل ذاته[15].
من الواقعية العقلية إلى الواقعية الحسية
خضع تفسير الحقيقة على أساس نظرية التطابق لنقاش حاد ونقد عميق من قبل معظم تيارات الفكر الوضعي على اختلاف اتجاهاته؛ وذلك لاعتبارات شتى، تعود في جوهرها إلى الإقحامات التي تفرضها الذات، والتي ينبغي العمل على إقصاءها من مجال الوعي. وسوف تؤدي ذاتية الفكر - كما نجدها لدى ديكارت وكانط - إلى حدوث فجوة كبيرة حول إمكانية الحديث عن الحقيقة الموضوعية المستقلة عن الواقع الذاتي لها، ويحق للمرء حينئذ أن يتساءل: هل القضية تعكس الواقع الموضوعي القائم بذاته بصورة مستقلة عن ميولنا الذاتية، أم أنها تعكس ذاتية الفرد أكثر مما تعكس الواقع الموضوعي؟ ومن جهة أخرى، فقد أعطى كل من ديكارت وكانط مكانة للحس تتجاوز دور الاعداد والتحفيز، وعلى الرغم من الاحتفاظ بما للعقل من مكانة متقدمة إلا أن هذه الوضعية الجديدة سوف تجعله أكثر عرضة للانكشاف والمساءلة، فقد أثير الاستفهام حول مشروعية ما ينتجه العقل من معارف بشكل مستقل عن الحس؛ وتناول ذلك النقد المعارف الفطرية والمعارف القبلية على السواء، وما إذا كان ينبغي الاقتصار في نشاط العقل على مجرد تجريد وتعميم الادراكات الحسية لاغير.. وقد استتبع البحث عن ذلك كيفية نشوء المفاهيم وصدقها على الأشياء، وبالتالي التشكيك بقيمة المفاهيم الكلية، وذلك على أساس أنها مجرد ألفاظ ورموز يشير بها الذهن إلى أفراد الواقع بناء على اعتبار الناس لها واتفاقهم عليها. وبعبارة مختصرة، سوف يتم تفريغ مفهوم الكلي من مضمونه الجوهري وإقصاء طبيعته النوعية بشكل نهائي. إن هذا يضعنا وجها لوجه مع أولوية الحس على العقل، وبالتحديد مع وليم الأكامي الذي نادى بأصالة الحس أواخر القرون الوسطى، وشكّل بذلك ترجمة صارمة لما يؤثر عن أبيقور اليوناني من قوله: لا يوجد شيء في العقل الا اذا كان قد وجد في الحس قبل ذلك. إن منشأ جميع معارفنا هو الحس كما يقول جون لوك؛ وإن الانسان يحصل على التصورات البسيطة عن طريق التجارب الظاهرية والباطنية؛ فيدرك الكيفيات الأولية للجسم كالامتداد والحركة، والكيفيات الثانوية كاللون والرائحة والطعم عن طريق الحس الظاهري. كما يدرك أفعال النفس وقواها كتصور الحافظة والارادة عن طريق الحس الباطني. وأما تصور اللذة والالم والوجود والوحدة والعدد فهي تحصل عن طريق تعاون الحس الظاهري والباطني. وبعد ذلك تأتي التصورات الأكثر تعقيدا كتصور الجوهر والنسبة والعلية والغائية. هكذا ومن المقارنة بين شيئين توجد الاضافات المختلفة كالكبر والصغر والابوة والبنوة.. وهو سوف يعتبرها – لاحقا - قسيما للتصورات المركبة لا قسما منها. إن العلية والمعلولية هي من الاضافات التي تحصل نتيجة المقارنة بين حادثتين متعاقبتين بشكل منتظم. ولا يكفي الحس الظاهري والباطني لوجود التصورات المركبة، بل إن القوة الفاهمة أيضا تؤثر في وجودها، وبمساعدة هذه القوة نفهم أن الكيفيات التي تقبل التغيير تحتاج الى شيء ينسب إليها هذا التغيير وهو الجوهر، وكذا نفهم أن التعاقب المنتظم لظاهرتين لا يمكن أن يكون بدون رابطة العلية[16]. وفي حين يعتقد جون لوك بانتزاع المفاهيم الكلية من الموارد الجزئية عن طريق حذف جهات الافتراق بينها، يذهب باركلي إلى أن الموجود هو الصورة الجزئية التي يمكن جعلها علامة للجزئيات الأخرى لتشابهها. إذن، الألفاظ الكلية إنما هي أسماء تستعمل في مسميات متعددة، وبذلك يستعيد باركلي مذهبا قديما عرف بالنزعة الإسمية، لا يقر لمفهوم الكلي بصفته مدركا ذهنيا، بل يقصر الإدراك على الجزئي والشخصي والذي يجعل علامة على عدة أشياء متشابهة. هذا الحكم سوف يتم استثماره لاحقا ويجرى تعميمه على جميع مسائل الفلسفة الأولى. إن لفظ الوجود بنظر باركلي مساو للمدرِك والمدرَك، وليس له مفهوم مستقل عن الإدراك. وهو ينكر مفهوم الجوهر بعنوان أنه أمر واحد، فالجوهر ليس شيئا سوى مجموعة من الأعراض المختلفة. وليس فقط الكيفيات الثانوية توجد في ظرف الإدراك، بل حتى الكيفيات الأولية من قبيل الامتداد والحركة توجد فقط في أذهاننا. وينحصر طريق المعرفة برأي باركلي في التجربة الحسية، والإدراك الحسي لا يتعلق إلا بالأعراض، ووجود هذه الأعراض غير متحقق إلا في حدود أذهاننا، ولا نملك سبيلا يثبت لنا جوهرا خارج أذهاننا بحيث يصلح لأن يكون موضوعا لهذه الأعراض. هكذا يحصر باركلي الواقع بوجود المدرِك والمدرَك، ولا وجود لشيء وراء الصور الذهنية!. إن علة ظهور التصورات والإدراكات - التي هي وحدها الأشياء الحقيقية - إنما هي إرادة الله[17]. وقد استفاد هيوم من كلام لوك حول منشأ تصور العلية؛ وأننا لا نحس في مورد العلة والمعلول بشيء سوى التعاقب المتكرر بين ظاهرتين، ولا يمكن إثبات أكثر من هذا في تصورنا للعلية، وما الضرورة التي نؤمن بها في العلاقة بين العلة والمعلول إلا ضرورة نفسية تحصل نتيجة لعادة الذهن في إدراك الظواهر المتعاقبة. وكما أن الجوهر الجسماني ليس شيئا سوى مجموعة من الأعراض الجسمانية، كذلك أيضا الجوهر النفساني ليس شيئا سوى مجموعة من الأعراض النفسانية. إذن، ينكر هيوم الجوهر النفساني، ويفسر أصل العلية بتعاقب الظواهر، ويفسر الضرورة الموجودة في الأصل بعادتنا الذهنية، إن وجود أي شيء قابل للشك من وجهة نظر فلسفية ما عدا الظواهر الذهنية[18]. ومنذ وقت مبكر، بشر هيوم بقيام «الفلسفة العلمية» على أنقاض الفلسفة التأملية الخالصة، ويعتبر القرن التاسع عشر هو المجال الزمني لظهور فلسفات تنعت نفسها بالصفة العلمية من قبيل الفلسفة الوضعية لكونت، والتي أرست العلوم التحققية على ستة: الرياضيات، علم الفلك، الفيزياء، الكيمياء، علم الاحياء، علم الإجتماع. إن مهمة الفلسفة هنا هي التأليف بين نتائج العلوم المذكورة وتنظيمها، فتصف ما هو كائن بقدر ما تتيحه لها نتائج تلك العلوم. والمادية الديالكتيكية لماركس، الذي يرى ضرورة الفلسفة لوجود قوانين شاملة، وهي تحصل من تعميم قوانين العلوم التجريبية وليس من طريق التأمل الميتافيزيقي. والفلسفة التحليلية التي تفرغت لعمليات التحليل المنطقي لمنتوجات الفكر البشري، لتدلل على انها ليست مشكلات بقدر ما هي استخدامات غير سليمة لألفاظ اللغة. والفلسفة الظواهرية (فنومنولوجيا) لهوسرل الذي رفض أن تكون الفلسفة تابعة للعلم، باعتبارها هي علم الماهيات الثابتة التي لا تختلف في كل زمان ومكان، وهي الشرط القبلي لسائر العلوم. إن الفلسفة بوضعيتها الجديدة تقوم في أفضل الحالات على تحليل اللغة، وإيجاد فرضيات تسهم في حل مسائل العلم. فيما تشكل التجربة أو الخبرة المباشرة المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة عن كل ما عداها مما لا معنى له.
معيارية الحقيقة التجريبية
يمكننا إذن، أن نضع أيدينا على أساسيات التحوّل نحو أصالة الحس، دون الخوض في تفصيلات الوضع اللاحق وذيوله المتشعبة. فقد تركت الواقعية الحسية أثرا واضحا على المسار الوضعي للفلسفة بعامة والمنطقي بخاصة، وترتب على ذلك انحسار الطابع الشمولي لنظرية التطابق لتقتصر على الواقع الفيزيائي بوصفه الحقيقة النهائية. وما ينبغي ملاحظته هنا، هو ما تضفيه أصالة الحس على مفهوم الميتافيزيقا من التباس بحيث تحصره في إطار الموقف النقيض، والنابذ، وتخرجه بذلك عن طابعه الكلي، والشمولي. والحال أن المزاولة الميتافيزيقية وإن أعطت للعقل اهتماما خاصا في مجال المعرفة إلا أنها لم تقصر ذلك عليه كوسيلة حصرية وفي مقابل الحس. من جهة أخرى، إن التساؤل الأساس الذي أثير بفعل هذا التحول الجديد، والذي يتعلق بخيارات العقل والحس، وأسبقية أو أولوية أحدهما من الآخر، من شأنه أن يضيف التباسا آخر إلى المفهوم، ذلك أن أحدهما لا يشكل بديلا مكافئا للآخر على مستوى نوعية المعرفة المنتجة؛ فلا شيء يحتم علينا أن نتبع مثل هذا الاصطفاف في مجال الاختيار بين أمرين هما من قبيل الحس أو العقل، ولا ضرورة تحتم علينا اتباع مثل هذا النظام الثنائي بالذات. إن تاريخ الفلسفة العلمية يشهد على ذلك العزوف الارتدادي الذي تخلله مسار تلك المعرفة، وأن الحقيقة غير قابلة لأن تتجلى حصرا بواسطة العلم، كونه لا يملك أن يستقل نهائيا عن الفلسفة في تثبيت مقولاته؛ ذلك أن الإدراكات الحسية، والأحكام الصادرة عنها، قد تختلف من شخص لآخر، كما قد تختلف باختلاف أحوال الشخص المدرِك نفسه، أو باختلاف موقع الشيء المدرَك ووضعيته وسائر احداثياته.. فقد يستطيع الحس أن يرينا الجبل، إلا أن صورة الجبل لن تزيد في حجمها عن حجم العين، ولن ترينا مدى قربه أو بعده ما لم تتم الاستعانة في ذلك بحكم من العقل. كما أن الصيرورة الحاكمة على هذا العالم من ناحية وجودية، وما تدعمه معطيات الفيزياء الحديثة القائمة على أساس مبدأ اللاتعين، واللايقين المطلق من ناحية معرفية، كل ذلك يحول دون إمكانية الحديث عن وجود معياري في الواقع الفيزيائي، بوصفه موضوعا يتمتع بالثبات!. إن الوقوف عند المعيارية الحسية سوف يفترض ضمنا تحليل مسألة تكامل المعارف والعلوم، وظهور نظريات علمية جديدة على حساب ضمور نظريات أخرى، على أساس أن تلك النظريات تتوفر معا على الصدقية، ولا أقل كل منها في ظرفه الخاص!. إن أقل ما يمكن قوله في مثل القضايا التجريبية هو أنها تمثل شيئا في الواقع فحسب، أما محاكاتها لعين الواقع فلا يوجد ضمان عليه!. وأخيرا، إننا لا نملك مفاتيح الواقع بصورة قطعية بحيث نستطيع القول بأن القضية تعكس الواقع كما هو بالفعل وبطريقة موضوعية تامة!. إن الحقيقة – بحسب الإدعاء هنا - تبنى على نتائج العلوم التجريبية، وعلى القوانين الكلية الحاصلة من استقراء الموارد الجزئية التي تثبتها التجربة العلمية، وهذه القوانين العلمية قابلة للتعميم لكل الوجود، بحيث تضم كل أجزاء الطبيعة والمجتمع والتاريخ والفكر الانساني. وهذا القانون الشامل يمكّننا من التنبؤ بالحوادث الاجتماعية والتاريخية المستقبلية. وتقوم هذه الدعوى على أساسين ميتافيزيقيين بامتياز، أحدهما التعميم الذي يسمح بانطباق قوانين الطبيعة على المجتمع والتاريخ، ومن الواضح أن التعميم كإجراء يتجاوز النشاط الحسي إلى حكم العقل. والآخر ما يتضمنه هذا النشاط من استبطان للحقيقة ينهض على الإيمان بتماثل أشياء هذا العالم في قوانينها الكلية. وتكمن المعضلة هنا، في اعتراض الميتافيزيقا لواقع التحولات في عصر العلم، باعتبارها شرا لا بد منه، فإن الفرضية والتنبوء العلمي هما حدوس وخيالات علمية تتخلل الاطار التجريبي كشروط حتمية، ولهذا تظل الحلول المستقبلية خاضعة لهذا الارتهان الميتافيزيقي، فلا يمكن للتجربة تنقية العلم من الميتافيزيقا بالكامل، ذلك أن القصور التجريبي يستدعي فرضا ميتافيزيقيا يدعم النظرية حين لا تجد ما تبرر به فكرتها، فقد كان نيوتن ميتافيزيقيا حين استعان بمقولة أرسطو عن الأثير الذي يملأ الكون ليردم به الثغرة (اللامجربة) التي اعترت تفسيره لبعض نظرياته الفيزيائية، كما كان داروين كذلك حين أدخل الحلقة المفقودة في نظريته البيولوجية. وعليه، تظل الرؤى المختلفة خاضعة في أسسها وإجراءاتها البحثية إلى الأفق العقلي الميتافيزقي، ونستطيع حينئذ القول أن الميتافيزيقا غير موجودة إلا في عقولنا، بشرط أن لا تقرأ هذه الجملة بطريقة سلبية؛ وذلك في إطار التوظيف الايديولوجي الذي يراد لها؛ كما لو أنّ كل ما ليس ماثلا في الاشياء فهو ينتمي الى عالم الخداع؛ ويتوجب علينا لأجل ذلك تنحيته وعزله. إن الانتقادات التي سجلت في هذا الجانب، سوف تدفع إلى إجراء تعديلات مهمة في النظام المعرفي لحساب العقل، وسوف تتركز سهام الوضعيين في أن الميتافيزيقا قد ضلت طريقها من خلال إيغالها في النمط التأملي، الأمر الذي يستوجب إعادة تصويب مسارها من خلال ممارسة نقدية تتيح لها وضعية جديدة تتأهل بها لأن تكون قابلة للصفة العلمية. وشيئا فشيئا، سوف تتكشف مقولة الايمان الميتافيزيقي في عمق الوضعيات العلمية؛ وذلك عبر الفروض والحدوس والتنبؤات، مرورا بالرؤى التأملية الخالصة، وصولا إلى الخلفية الصوفية التي تقبع في إيمان كل باحث؛ هذا ما يطالعنا به الميتافيزيقيون الجدد، فليس صحيحا أن الميتافيزيقا ترتكب خطيئة مميتة عندما تقوم بتوكيد موضوعاتها، فإن التوكيد هو سمة التجاوز في البحث عن الحقيقة لدى الجميع وبلا استثناء. وتكمن المفارقة في أن المنافحين عن الفلسفات الوضعية يصدرون أحكامهم على موضوعات الفلسفة من منطلق المنهج العلمي نفسه!. بل، يبدو أن المنهجية العلمية قد اعتراها طموح جامح نحو إخضاع كافة ضروب المعرفة الإنسانية للأسس الصارمة في المنهج التجريبي، وإلى إيجاد التماثل من خلال إلغاء الخصوصيات والحدود الفاصلة ما بين المناهج المختلفة وتطويعها باتجاه خاص، وفي سبيل ذلك، سوف تنشط الفلسفة العلمية في التأسيس للمنهج التجريبي والذي يتطلبه السعي العلمي الحثيث. وبهذا المقدار، لن يستدعي الأمر مشكلة تذكر، سيما مع فرض التفاوت بين موضوعتي الفلسفة والعلم؛ فإن الواجهة الفلسفية تستدعي الانضباط والتماسك في نطاق الرؤية، فيما يتماشى العلم - بوصفه علما - مع سيرورات الواقع. وإنما تبرز الاشكالية بشكلها الصدامي كنتيجة لاقتران السمة العلمية بالفلسفة؛ وما ينتج عن ذلك من القول بضرورة تجاوز الميتافيزيقا وبصورة حادة، كشرط لمجاراة النسبية الواقعية. ما يفسر لنا العدائية السافرة التي تكنها الوضعية للنهج الميتافيزيقي القائم على خصوصية التعالي عن الحس في المعرفة والوجود، ذلك أن الفلسفة لا تؤدي وظيفتها الاساسية إلاّ حين تستند إلى العقل في فحص الوجود وتفسيره. وهي لا تكترث للدواعي «العلمية» الى تجاوزها، بل تحافظ على وضعيتها الفريدة وتمايزها الاستثنائي بأن تبقى على مسافة ثابتة من الواقع، ما يجعلها تمارس سلوكا يتسم بالفوقية والتباهي، كونها مصدر التماسك الذي يسبر تحولات الواقع، ويسبغ عليه المعنى والهوية والقيمة. ما تقدم، يؤكد على أن الاختلاف ما بين الفلسفة والعلم إنما يقوم في جوهره على التوظيف في النتائج، أكثر مما يقوم على الأسس والمبادئ الأولية. وأن الميتافيزيقا ليست فرعا مختصا في الفلسفة، بمقدار ما هي نمط في الوجود يمتد بتشعباته في كافة الفروع المعرفية. ومن الخطأ تصنيف الفلاسفة إلى معتنين بالشأن الميتافيزيقي وعازفين عنه، وإنما تنوعت آراء الفلاسفة حولها وفق اتجاهين: اتجاه يؤمن بالثبات الذي يسبق العالم المتحول، ويضبط إيقاعه، ويضفي عليه المعنى. واتجاه آخر يؤمن بالثبات الذي ينبع من عالم متنوع متحول سيّال. وفي حين يدعو أصحاب الاتجاه الثاني إلى التخفيف من غلواء المنطق في عقولنا، وليس تجفيفه. وإعطاء دفق أكبر للنشاط الحسي الحي، والتوجّه نحو استيلاد الميتافيزيقا من رحم الواقع، ومحاكاة الوحدة من داخل الاختلاف والتناقض، والعثور على الكلي في متن الجزئيات، ومقاربة الميتافيزيقا نفسها من خلال الواقع، وذلك قبل أن تسبق الميتافيزيقا العتيدة إليه، وتحد من حركته، وتجعله ساكنا، يبدو أن أتباع الميتافيزيقا العتيدة لن يتنازلوا بسهولة؛ وينشأ حرصهم من كونهم قد خبروا نوايا الوضعيين وحنكة دعواهم، فهم بمجرد أن يشرعوا في تفاصيل عملهم حتى يكيلوا التهم لجميع أشكال الميتافيزيقا، وينحون باللائمة عليها في كل شيء، ولكنهم في النهاية لن يتقدموا خطوة إلا على قاعدتها، ولن تتسم مزاولتهم العلمية بالابداع إلا حين يتطرفون في ميتافيزيقيتهم.
السياق المنطقي للواقعية من الإسمية إلى الماهوية
[1] إن جوهر النقد الغربي للميتافيزيقا سوف يتركّز على موضوع إقصاء الذات، وتنحية القبليات، وتكميم اللغة، بحيث تنكفئ القضية عن أن تتمثل الحقيقة في طابعها النوعي والكلي، ويرتد دورها إلى مجرد توصيف للظواهر الخارجية القابلة للتحقق التجريبي. ويعبّر عن هذا النوع من القضايا بحسب المنطق التقليدي بالقضية الخارجية أو الشخصية البحتة، وهي التي تعين في الاستقراء وتقنين الواقع الحقيقي. إن تفسير الحقيقة من خلال نظرية التطابق قد يصدق على القضايا الخارجية التي يكون لمحمولها واقع مستقل، ولكنه لن يصدق حتما على القضايا الحقيقية؛ إذ لا واقع مستقل في الخارج لما تخبر عنه هذه القضية؛ فهي قضية تحليلية بمعنى أنها لا تضيف شيئا جديدا إلى معرفتنا، ولا تحيل إلى الواقع مباشرة؛ ذلك أن الحكم فيها ينصب على الطبيعة الكلية للموضوع، وتكون ماهية الموضوع هي المناط في الحكم، فلا نظر مباشر في هذا النوع من القضايا الى الأفراد. إن موضوع الحكم هو نفس الطبيعة، والمحمول منتزع من تحليل الطبيعة، وهو لازم لها، فليس للمحمول واقع مستقل عن واقع الموضوع، ولهذا لا يضيف المحمول شيئا جديدا لمعرفتنا، بدليل أن الحكم قد يشمل الأفراد المقدّرة الوجود والتي لا واقع فعلي لها. إذن، القضية الخارجية هي القضية التي تنبئنا عن الواقع الفعلي بشكل حصري، وتضيف شيئا جديدا إلى معارفنا. ولهذا تشترط الاتجاهات الوضعية والتحليلية إقصاء القضية الحقيقية من المنطق كشرط لإمكانية أي حديث عن قيام الحقيقة. فيما تولي هذه الاتجاهات القضية الخارجية اهتماما خاصا من جهة إحتوائها على مضمون واقعي للمحمول يغاير واقع الموضوع فيها، بحيث يحمل أحدهما على الآخر حمل انضمام وتركيب. إن الحكم في القضية الخارجية منصب على الأفراد في الخارج مباشرة، وليس من دور للكلي سوى الإشارة إلى الأفراد بلفظ واحد، فلا يزيد عن كونه تعبيرا جامعا للأفراد، وتتأتى جامعيته من جهة إبهامه لا من جهة تعيينه، وتكون فائدته الحصرية في أنه يغنينا عن تكرار اللفظ. وهنا فقط يمكن أن تصدق القضية الخارجية بأن تطابق الواقع الخارجي العيني والموجود بالفعل. وهذه هي القضية التركيبية والتي من شأنها أن تضيف إلى معلوماتنا شيئا جديدا. وفق هذا السياق، سوف تندرج القضايا الميتافيزيقية في جملة القضايا الفارغة من أي معنى، ذلك أنه قد يجب أن يكون العدد اثنين زوجا كي تكون القضية صادقة، ولا يجوز أن يكون هذا العدد فردا وإلا تكون القضية كاذبة. أما أن يقال بأن العدد اثنين أبيض! فهذه القضية فارغة من المعنى. ولم تعد تصنف القضايا في إطار من الصدق والكذب فحسب، بل وجدت إلى جانبها قضايا لا تقبل مثل هذا النقاش. و«إذا أردنا أن نقصر كلامنا على ما يكون له معنى وجب اطراح الفلسفة التأملية وما يدور مدارها من صنوف التفكير بحيث لا يبقى لدينا في دائرة العلم إلا العلوم الطبيعية والرياضية»[19]؛ وتحيل العلوم الطبيعية إلى العلاقات الحسية بين الوقائع، فيما تحيل العلوم الرياضية إلى الإتساق الداخلي بين الأفكار. وهنا يكمن جوهر التمييز بين القضايا التركيبية والقضايا التحليلية. إن هذه الاشكالية وإن طرحت في سياق القضايا ذات الواقع التجريبي، إلا أنه أريد بها إرجاع واقع القضايا الحقيقية إلى مجرد قضايا خارجية شخصية بصرف النظر عن مزاعم ذوي تلك الاتجاهات المناهضة. إن القضايا في القياسات حقيقية، وفي الاستقراءات خارجية. وإن إرجاع القضايا الحقيقية الى الخارجية، هو في الحقيقة إرجاع للقياس بكليته الى الاستقراء وإبطال للقضية المنطقية. وهذا الوضع يتأتى فقط من اختزال الحقيقة بالواقع الفيزيائي، واختزال معرفتها في البعد الحسي التجريبي.
[2] يحيل الفيلسوف كل من الاستقراء والتمثيل إلى قياس ضمني، وفي ذلك إرجاع للتجربة إلى القياس العقلي، وإرجاع للجزئي الذي يقع في مجال العلم إلى الكلي الذي يقع في مجال العقل. والكلي هنا هو الكلي الطبيعي الذي يتميّز في أن جامعيته للأفراد الكثيرة تتأتى من جهة امتلاكه للصفة الذاتية والطابع النوعي، الأمر الذي يقضي بصدقه على أفراد الطبيعة صدقا لانهائيا لتماهيه معها. بخلاف ما لو أرجعنا التعميم الذي للكلي إلى جهة إبهام اللفظ؛ فإن في ذلك الإجراء تفريغ للكلي عن مضمونه النوعي، وإقرار بإمكان صدقه على أي شيء صدقا اعتباريا، وتحديد للصدق في إطار لا يتجاوز المواضعة وبصورة جزافية. إن الفيلسوف يظل مشدودا إلى الواقعية والهدفية في نظرته إلى الوجود، ولذلك يعمل على توكيد الكلي بصرف النظر عن حيثياته، وهو يؤكد على الطبيعة كماهية مهملة لا توجد في الخارج إلا بوصف الجزئية، ولا توجد في الذهن إلا بوصف الكلية. إنّ المفهوم متشخص من حيث إنه موجود، وهو كلي من حيث إنه مفهوم، ولا ينبغي الخلط بين الحيثيتين وبين الإقرار بالطبيعة في ذاتها. وسوف تطرح الاشكالية بصورة تتناسب مع هذا الواقع؛ إذ يُفترض في القضية الموجبة ضرورة وجود الموضوع وتحققه في الواقع الخارجي أو الواقع الذهني. ويمكن تنويع الحكم بحسب الوقائع الخارجية وفق اتجاهين: فقد ينصب الحكم على الأفراد من جهة تحققها الفعلي في الوجود الخارجي، وتكون القضية هنا خارجية بامتياز. وقد ينصب الحكم على الطبيعة الماهوية نفسها، وتكون القضية حينئذ حقيقية، وهذه هي القضية التي تنهض على أساسها الميتافيزيقا؛ وبحسب النظر الفلسفي، لا مجال للشك في وجود القضية الحقيقية وانطباقها النوعي على ما تصدق عليه. إن الكلي الطبيعي بالنظر المشائي يقوم على أساس التجريد، وأن الذهن يقوم بتجريد صور الأشياء المنعكسة في الحس، فيجرد ما به الإمتياز ويحتفظ بما به الإشتراك، وبذلك يتحقق الكلي الطبيعي. إن تصوير المراحل العلمية وفق تراتبية وجودية سوف يعطي منحىً ارتقائيا لهذه النظرية، يقوم على تفسير الإدراك الحسي بانعكاس صور الأشياء انعكاسا يتناسب مع مرتبة الحس. وتفسير الإدراك الخيالي بانعكاس الصور الحسية بما يتناسب مع مرتبة الخيال. وتفسير المفهوم الكلي بانعكاس الصور الخيالية بما يتناسب ومرتبة العقل. فالصور العلمية لا تتشكل نتيجة تجريد، وإنما على أساس تخلّق صور الأشياء بما يناسب كل مرتبة من مراتب العلم في وجود الانسان. وملخص الإدعاء، أن هذه النظرية تقوم على دعامة واقعية، وإلاّ لأمكن صدق أي شيء على أي شيء. وفي هذا ارجاع للفكرة الأرسطية التي تقر لعالم المحسوسات بقدر من الواقعية بحيث يتاح للعقل أن ينفذ – ومن خلال الأعراض والظواهر - إلى ماهيات الأشياء وطبائعها عن طريق التجريد والتعميم؛ فالحقيقة هنا هي معطى عقلي، لا حسي. وأما تفسير الكلي بأنه مجرد لفظ ورمز للموجودات، فإنه يستوجب – كما تقدم - المحدودية في الانطباق على الأشياء، والحال أن الكلي يشمل أفراده بنحو لانهائي؛ ما يكشف عن أن نظره هو الى الطبيعة الماهوية وليس الى الأفراد الخارجية، وفرق كبير بين مجرد الاشتراك في اللفظ، والاشتراك المعنوي. إن الخلل الفكري الذي تم الكشف عنه في سياق الخبرة الحسية، وتحديدا مع التجريبية الانكليزية وتفكيكها لنظام العلية، إنما يكمن في الفصل المنهجي ما بين المنحى الحسي والمنحى العقلي، وكان يفترض وفق السياق ذاته أن يتبدّى ذلك عن دور خلاق للعقل في التعبير عن الواقع، لا أن يسهم في تعرية الواقع عن الضرورات الحاكمة ما بين ظواهر الوجود. إن الواقع الفلسفي لا يتحدد وفق الإطار الفيزيائي المباشر، بل يتسع ليشمل طبائع الأشياء وماهياتها. وتعبّر القضايا الحقيقية عن طبيعة الشيء الماهوية، وإن كان ما يتلقاه الحس لا يتجاوز ظاهر تلك الطبيعة. وعلى هذا، فإن اللزوم - الذي يكتنف القضية الحقيقية والذي نجده بين طبيعة النار وإحراقها مثلا، ويتم التعبير عنه وفق مبدأ العلية -، لا يجعل من هذه القضية مجرد قضية تحليلية، بل إن هذا اللزوم – لكونه واقعيا، حقيقيا، نفس أمريا -، يدعم القضية الحقيقية بوصفها قضية تركيبية[20]، بحيث تنطبق على الواقع الخارجي ولو بنحو اللزوم والعموم.
السياق المنطقي للواقعية من الماهوية إلى الفلسفية
[1] ترتكز نظرية التجريد الماهوي - كمعطى عقلي - إلى الأعراض الحسية بالدرجة الأولى، وإذا كانت المعرفة الحسية معرفة سطحية لا تبلغ قاع المعنى، ولا تميز بين ما هو ذاتي في الشيء أو عابر. إذن، على أي أساس يحصل التجريد؟ لنفترض أن الشيء يتصف بصفة ما على الدوام، إلاّ أنه يظل دواما للصفة بحسب إدراكنا لها، لا دواما لها في ذاتها، فالحس لا يكشف عن وجه الضرورة في توقف المعلول على العلة. وهذا الدوام في التوقف هو نتاج حكم العقل القاضي بأن دوام الاتصاف يكشف عن أن الصفة من شؤون الذات. وإذا كان يتوجب علينا أن نتحرى الأمور من تلك الزاوية التي تظهر فيها النار بدون أي تدخّل منا، وأن نراقب المشهد فقط من خارج، لنرى بحسنا المحايد والذي لا يملك أن يقحم أي تفسير متطفل على الحدث: ما الذي يحصل من تقارن النار بشيء آخر؟ وإذا استطعنا أن نقتصر على وصف الظاهرة فحسب، - وهو أمر لا يعين على فهم الظاهرة بنظر كانط -، فسوف لن نرى سوى ظاهرتين متعاقبتين، لاغير. وبعد أن نتدخل في الظاهرة سوف نضيف إليها بعدا جديدا، هو مفهومنا عن العلية، وهو القول بأن النار (بطبعها) تحرق. إذن مفهوم العلية هو نتاج فكرنا وتفسيرنا وإضافتنا الجديدة على الواقع. إننا نملي على الواقع طبيعته وماهيته. إذن، إن تدخّلنا في تفسير الظاهرة لن يكون حياديا ونزيها إزاء الحقيقة. وعلينا أن ننزع القيود التي نكبل بها الحقيقة من خارجها إذا ما أردنا أن نتحلى بصفة النزاهة؛ فلا لزوم ولا علية في نفس الحقيقة. وبهذا جرى استبعاد قبليات العقل الكانطية، مع الأخذ بتمييزه الاساسي الذي اعتبر سمة بارزة هنا: لن يكون لقولنا «النار بطبعها محرقة» أي محتوى حقيقي. فقط علينا أن نقول «النار تبدو لنا محرقة». إنها صفة لواقع خارجي نراه، وليست وصفا لحقيقة كما هي في ذاتها. وحينئذ لن يكون للقضية الحقيقية أي مضمون واقعي. إن القضايا الميتافيزيقية هي قضايا تفترضها تلك العلاقات اللزومية التي يمليها عقلنا ويسبغ عليها الواقعية، وبتعبير آخر، إن هذا الواقع تمليه الأشياء بحسب طبائعها، لا الأشياء في جزئياتها وأفرادها، ومع انهيار تلك الأسس المفترضة عقليا، سوف لن يعود لتلك القضايا أي أساس واقعي. إن انهيار أسس الاستدلال في المنطق التقليدي مرده إلى تخلخل المفهوم الماهوي؛ إذ يقوم الاستدلال الاستنباطي - وفقا للمنطق الصوري - على أساس مبدأ التلازم بين الموجودات والظواهر والناشيء عن ارتباط الحد الأصغر بالحد الأكبر بعلاقات واقعية نوعية قائمة بين الأشياء، هذه الملازمات إما أن تقع بين العلة والمعلول، أو بين معلولي علة ثالثة، أو بين أمرين متلازمين في الوجود. ومع إنكار الطبيعة، فلا تعود ثمة علاقات لزومية واقعية بين الاشياء، وبالتالي يفقد الاستدلال ركيزته التي يقوم عليها. وينتج عن إنكار الطبيعة انهيار مبدأ العلية؛ ذلك أن نظام العلية في عالم المادة مبني على وجود الطبيعة الفاعلة في الأجسام، تلك التي يعبر عنها بالصور النوعية للأشياء، والتي هي معطى عقلي لا غير، وأن إنكار أصل العلية الذي يعوّل عليه في القياس المنطقي، من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الميتافيزيقا بالشكل الذي نعهده في الفلسفات الوضعية والتحليلية. إن الاقتصار على المعرفة الحسية وسياقها التفكيكي من شأنه أن يجعل معارفنا الماهوية تتهاوى، ولم يكن تفسير هيوم لأصل العلية بتعاقب الظواهر، وللضرورة الموجودة في الأصل بعادتنا الذهنية، تفسيرا خاطئا في حدود العلاقة المنطقية التي يمليها الحس، بل جاء ذلك من جهة تفريغ المحتوى الفكري للظاهرة من مضمونها الماهوي دون إرسائه على قاعدة المعرفة الفلسفية التي تظل بمنأى عن معاول التمرد التجريبي.
[2] ويعيب كانط على الفلسفة وقوعها في سياق تأملي بحت، وأنها تتحدث عن الواقع كما لو كانت تملكه «في حد ذاته»، والحال أنه ليس سوى انعكاس الواقع في الذات؛ هو الواقع «كما يبدو لنا أنه كذا»، أي هو فكرنا عن الواقع. وعلينا أن نفهم كلام كانط من خلال مراجعة الأسس التي ينبني عليها الواقع الذي نؤمن به، ذلك الواقع القائم على أساس العلاقات اللزومية بين الشيء وما يقتضيه طبعه وحقيقته. إن أثر النار ملازم لها، والمقصود هنا أثرها الخاص الذي لها بمقتضى طبعها وحقيقتها. ويبدو أن العصر الذي عاش فيه كانط كان يسائل الميتافيزيقا في مبررات وجودها، وينظر بريبة شديدة إلى مفهومنا عن العلة، ويشكك بالأسس اللزومية التي نبني عليها معرفتنا بالواقع، ولهذا فقد أخرج كانط «العلية» من دائرة الوجود الخارجي، وجعل منها قالبا عقليا ومعرفة قبلية من شأنها أن تفسر لنا المعرفة التجريبية. إن الشيء في حد ذاته، إن أشير به الى الطبيعة النوعية للشيء، فهذا مما لا سبيل لنا إليه، بعد أن كانت ذاتيات الشيء غير معلنة للعقل خارج إطار المواضعة القائمة على الأعراض، أي أن المعرفة هنا تظل ناقصة، وتظل في طور الإعداد والتحفيز والتهيئة، وأما إن إريد به مرتبة وجودية هي مرتبة ذات الشيء، مقابل المرتبة الافتراضية للشيء، - كما سيأتي قريبا - فهذا المفهوم فلسفي لا ماهوي، وهو قابل للمعرفة الكاملة، ويستند إلى الإقرار بالموضوعية التامة للوجود في مقابل العدم، وإلى أم القضايا التي تشكّل حجر الزاوية في المعرفة اليقينية. وعلى هذا الأساس يمكن النظر فيما أفاده كانط من أن مرجع نظرية التطابق إلى تحصيل الحاصل؛ وأنه لن يكون باستطاعتنا سوى أن نقرر ما إذا كانت معرفتنا بالموضوع تتفق مع معرفتنا بالموضوع!. إن المقابلة هنا تقع بين «معرفتنا بالموضوع» و«معرفتنا بمعرفتنا بالموضوع»، والحكم في المعرفة الثانية ينصب على وجود المعرفة الأولى المرتكزة مباشرة إلى الماهيات، أي أننا نحكم على طبائع الأشياء بالوجود، وهو حكم على المعرفة الناقصة بالمعرفة الكاملة. ويرجع التطابق هنا إلى الحكم على الكلي الطبيعي بحكم فلسفي لا يستقل في التمثل الخارجي عن موضوعه. إن مثل هذا التطبيق يضع أمامنا عراقيل إضافية، فإن المفهوم الفلسفي وإن أضاف شيئا واقعيا الى المفهوم الماهوي، أو كشف عن واقعية ذلك المفهوم، إلا أنه مع إنكار الواقعية الذهنية للكلي الطبيعي الذي هو أساس المفهوم الماهوي، سوف ينفتح المجال لانكار المعقولات الفلسفية، كونها ثانوية ومنتزعة من حيثياته. وسوف لن يسعفنا الإدعاء بأن عملية التجريد تقوم على أساس واقعي؛ إذ لا نجد تحديدا لهذا الأساس الواقعي سوى تلك الحجة الداحضة: وإلا لأمكن صدق أي شيء على أي شيء. ولا ينفي إلزامية تلك الحجة سوى زعزعة الفكر بإرجاعه إلى أمر اعتباري ما كاللغة، أو نفي حيادية الواقع وإرجاعه إلى ما تبدعه النظرية ويمليه التفسير.
[3] ويبدو واضحا أن العقل الاسلامي لم يكن مهجوسا بالاشكالية الكانطية حين قرّر أن الواقع الذي تقاس إليه الحقيقة هو الواقع النفس الأمري. ومع ذلك فقد جاء تقريره متناسبا مع تجاوز تلك الاشكالية وفق ضمانات ميتافيزيقية تؤسس للحقيقة. إن ملاك صدق القضية الحقيقية ليس هو في تطابقها مع الأفراد أو الطبائع الكلية، وإنما هو في مطابقتها مع الواقع النفس أمري، أي أنها تتجاوز الأفراد والأنواع إلى الوجود، لتكون مع المرتبة الوجودية للشيء بحسب ذاته، لا بحسب الافتراض. ونفس الأمر هو حد ذات الشيء، بمعنى أن المحمول لا ينتزع – ابتداءا - من الطبيعة الماهوية، بل من المرتبة الوجودية لذات الموضوع لا غير. وعلى هذا، لا تستند الحقيقة إلى المفاهيم الماهوية التي يكون منشأ تطابقها مع الواقع هو كونها منتزعة من حيثياته على نحو التجريد أو الارتقاء، وإنما تتمثل فلسفيا بالمفاهيم الثانوية التي تتشكل منها هوية القضية الفلسفية؛ وبناء على أصالة الوجود، تغدو الحقيقة غائبة تحت ستار الماهيات، وتنتظر من يلمح إليها، وأي تردد في حقيقة الماهية لن يضر بالحقيقة الفلسفية المتقومة بالوجود حصرا. لذلك، يمكن أن نزعم هنا بأن المفهوم الفلسفي لا ينتزع من المفهوم الماهوي الذي نحصل عليه من المقارنة بين المحسوسات؛ ذلك أن إجراء أي مقارنة هو فرع وجود تلك المحسوسات في المرتبة السابقة[21]، وما يحصل لنا هو أننا نلتقط أولا أثرا من الأشياء، كحرارة النار، أو برودة الثلج، وهذا الأثر ينبئنا مباشرة أن ثمة شيء حقيقي وراءه، وبذلك تتشكل معرفتنا بالخارج وفق سياق منتظم بين الظواهر وانعكاساتها في الحس بحيث يصح القول أن هذا الظاهر هو امتداد لذلك الظاهر، وأن هذا الوجود هو من ذلك الوجود، وان انتظام الوجودين بنحو لا يقبل التفكيك بينهما هو ما يطلق عليه مبدأ العلية، فنستفيد وجود خاص من وجود خاص، وهذا المعطى الأولي الذي هو الوجود هو عبارة عن معرفة فلسفية خالصة. وفي مرتبة لاحقة يمكن أن نستفيد اختلاف المؤثرات من اختلاف الآثار، وهذا المعطى الثانوي هو عبارة عن الخصائص الماهوية، وهي تنتظم في مداركنا وفق سياق من الخصائص يحتفظ بصورها التجريدية أو الارتقائية بنسب ثابتة لا تتخلف أو تتخلف في الجملة. إن الصور العلمية حاضرة في ذواتنا ومراتب علمنا الوجودية، وإنما نستطيع أن نقارن بينها ونلحظ تطابقها؛ فقط بعد كونها حاضرة بوجودها لدى النفس؛ ويمكن للعقل أن ينتزع من لحاظ المقارنة والمطابقة أحكاما تتعلق بالوجود بمعناه الفلسفي، وما نظام الضرورة والعلية بين الأشياء إلا حكم فلسفي لا يعمل إلا في نطاق الموجودات الحاضرة لدى النفس. فإن الحس المادي لا يتضمن الوعي، وهو يكون معرفة فقط في اعتراكه مع النفس وفق المراحل التي تم تصويرها في نظرية التجريد وتحت نظر العقل. فالحس مرحلة اعدادية للمعرفة لا غير، وما لم تتدخل الذاتية في الحس فلن يبلغ انعكاس الواقع مستوى الادراك إلا كما ينعكس الشيء في المرآة أو عين الميت!. ومن شأن ذلك أن يضع المعرفة الماهوية في رتبة لاحقة على المعرفة الفلسفية في التصور فضلا عن التصديق، وليس كما درج الترتيب عليه من جعل المعقولات الماهوية سابقة على المعقولات الفلسفية والتي تسمى بهذا الاعتبار ثانوية. وحينئذ لنا أن نشكك في اعتبار المفاهيم الفلسفية منتزعة من المفاهيم الماهوية (أصالة الماهية)، وأن نقرر بذلك أسبقية الوجود على الماهية وأسبقية الواقع على الفكر (أصالة الوجود).
[4] وإنما كانت معرفتنا بالخارج منتظمة وفق سياق غير قابل للتفكيك بين الظاهرة والظاهرة، لأن الوجود يشبه أن يكون بنية وليس ظاهرة، وهو وضع علائقي لا ترسّب ماهوي، وهذا ما يمكن تفسيره وفق مبدأ الجعل البسيط السيال. ذلك المبدأ الذي يضفي وضعا فلسفيا علائقيا على الوجود، وما الماهية سوى ضبط عقلاني مرحلي لذلك السيلان الذي يجتاح الكون برمته. إن العلة تحتوي على المعلول، والمعلول ينبغي أن يلحظ في رتبة العلة، هكذا توصينا اللحظة الفلسفية العامرة في الحكمة المتعالية: «إن الهوية الجوهرية مما يشتد ويتحرك في جوهريته حركة متصلة على نعت الوحدة الاتصالية، والواحد بالاتصال واحد بالوجود والتشخص. وقول المشائين أن كل مرتبة وحد من الأشد والأضعف نوع آخر، وإن كان حقا، لكن بشرط أن لا يكون ذلك الحد حدا بالفعل، لكن من الحدود المفروضة في الاشتداد..» [22]. وهي تنبئنا بالوجود المادي على صورة وجود بسيط سيال يحتفظ بالوحدة الاتصالية، ويحفظ الواقعية بين ماضي الظاهرة ومستقبلها، فما الصورة إلا مادة وقد تحولت، وما المعلول إلا علة وقد انبثقت، وحين لا يعود للزمن بماضيه ومستقبله أي اعتبار فلسفي، فإن تلك اللحظة العامرة سوف تتكشف عن التقاء جميع الظواهر الوجودية السيالة في وحدة بسيطة جامعة قابلة لأن تشكل معيارا للحقيقة الكلية. إن تصدير الفلسفات بالمنطق هو السبب في عقم الفلسفة، فالمعرفة الفلسفية – خلافا للماهوية - لا تخضع للمنطق. نعم، بعد تحرير المنطق من الترسبات المفهومية، وايجاد الوضع العلائقي (المنطق لا يملك إلا أن يكون علائقيا لا سكونيا) يمكن لنا حينئذ أن نتكلم عن تطابق ما بين المعرفة الفلسفية والواقع. إن الاقتصار على الملاحظة الحسية سوف يوقعنا في تفكيك مناطات العلية؛ بأن نشرّح العلة في النظام المادي إلى ثلاث تصورات: وجود العلة، اقتضاء الفعل، وانفعال المنفعل. ولا شك أن مضمون العلية يتحقق من خلال العاملين الأولين، وهما عاملان لا يقبلان التفكيك، ولذلك لا يقعان تحت الحس بوصف أنهما ظاهرتان. إن مرجع هذين العاملين هو إلى حقيقة واحدة منها يتشكل جوهر العلية. ويبقى العامل الثالث رهنا لقابلية الانفعال، ومشروطا بشروطه، وتلك القابلية يمكن أن تقع تحت مرأى ومسمع من الحس، وتشكل ظاهرة مترتبة على الظاهرة الأولى. وبالتالي يلحظ التفكيك في جهة المعلولية لا في جهة العلية. فلا مجال للتفكيك بين العاملين الأولين اللذين يشكلان جوهر العلية. وبهذا يتضح أن ما وقع منفيا في الفلسفات المتغربة غير ما وقع مثبتا في الفلسفة الاسلامية. وإذا كان من وظيفة العقل العلمي بالمعنى الحصري أن يشكك في الطبيعة النوعية للجوهر بوصفها من بنية العقل لا الواقع، وأن يشكك بالتالي في علية الطبائع لآثارها بحكم ما هو حاصل في ظواهر الوجود من تركيب، فإن العقل الناظر إلى الحقيقة الوجودية البسيطة، وسيلانها على امتداد الزمان، لا يرى في نظام العلية سوى حقيقة فاردة لا تخضع للتركيب والتفكيك الحقيقيين. وهذا يبقى خاضعا لنفس الأمر؛ بوصفه العقل الكلي المجرّد في تعريف الفلاسفة، وهو بهذا يكون معيارا للحقيقة بكل مفرداتها. لقد شكل الجهد الفلسفي للفكر الغربي عموما تفريغا هائلا لمحتويات الأشياء من جوهرها الواقعي الذي يفترض لها الثبات، وترك الإنسان كحالة هلامية مفرّغة من المعنى والقيمة في مواجهة مفتوحة مع التاريخ والزمن، وفي الجانب الآخر من العالم كان الشيرازي يجاري تلك الصيرورة بطريقة مختلفة، فيثبت الجوهر في صميم الأشياء، ويسبغ عليه دفقا سيّالا يسلب عنه الثبات الحيادي، ويدخله إلى مجرى التاريخ الحافل بالصيرورة الهادفة. تكمن الميتافيزيقا إذن، في إيمان البشرية بالحكمة الكونية الهادفة، تلك الحكمة التي تفترض إيمانا راسخا لا يتزلزل بأنّ أشياء العالم موجودة على التمام والكمال، وأن أي قصور في هذا العالم يرتد إلى قصور معارفنا ومداركنا وإلى محدودياتنا. إن الميتافيزيقا هي حصيلة جمع بين فكرتين لا تقبلان أن نشيح بوجوهنا عنهما، هما إيماننا بالكمال والانسجام والتناسق في وقائع الوجود بصورة حتمية، وهو يرتد الى الإيمان بالله؛ الحقيقة المطلقة التي جبلنا عليها، وايماننا بهدفية العالم الذي نعيش فيه على مستوى المعرفة والوجود، وكل هذا يؤول إلى أصل متين تمارسه البشرية كافة بوعي أو بدون وعي، وهو نفي السفسطة المطلقة من مجال الوعي الارتكازي الذي تنهض عليه ليس فقط فلسفات العالم برمتها، بل جميع الأنظمة العلمية والمعرفية للحياة البشرية كافة. ونستطيع أن نزعم أن منطق الخفاء هو السمة البارزة في الميتافيزيقا، على أن تصحبه سمة أخرى هي سمة التوكيد، وهي نوع من التقديس لذلك المخفي، والمجهول، والذي يقودنا فضولنا العلمي إليه بحماس وإعجاب شديدين، فإن الشيء الذي نألفه ونعتاده يفقد بريقه وسحره، وما لم نألفه نتعلق به إلى حد التقديس الخفي، إن ذلك الفضول يقودنا دوما إلى تجاوز كل ما هو مألوف طالما أن المعرفة هي في المحصلة الأخيرة مجرد نشاط انساني. إننا نمتلك في عقولنا هامشا يبدو لنا أكثر سعة من الهامش الواقعي المدرَك، ولربما لو أتيح لنا أن نطلع على الواقع كله لتساوى الوجود الواقعي مع العقل، وحيث إن حصول ذلك مشروط باللانهائية، فإن قدر الإنسان الذي لن ينفك عنه يوما في هذا العالم هو إدانة الميتافيزيقا الغيبية، تلك الميتافيزيقا التي يتطلع إليها دوما وإلى حد الإدمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وهذا في مقابل البحث عن الأمور المشروطة بالمادة مفهوما ومصداقا (الطبيعيات)، أو الأمور المشروطة بالمادة مصداقا وإن كانت مستغنية عنها مفهوما (الرياضيات).
[2] انظر: شرح المنظومة، مرتضى مطهري، ط2، تج عمار ابو رغيف، 2003م، دار الهدى – بيروت. ص344.
[3] شرح المنظومة، مصدر سابق، ص185.
[4] الرسائل الفلسفية (الفلسفة الأولى)، الكندي، طبعة عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1953، ص106 - 112.
[5] الإشارات والتنبيهات، ابن سينا، ج2، ط1، 1375 ﻫ، مؤسسة نشر البلاغة - قم، ص367.
[6] تاريخ الفلسفة اليونانية، محمد عبد الرحمن مرحبا، ط1، بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993م. ص232.
[7] (5، 1، 9). نجد هذا المعنى متكررا في مزاولة السهروردي لحكمة الفرس القدامى، وفي تمجيد الشيرازي لفلاسفة الإغريق السابقين على أرسطو، إيمانا منه بأن الحقيقة بهذا المعنى سابقة على أرسطو.
[8] محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الكمالي، ص135.
[9] الفلسفة العربية مشكلات وحلول، د. علي أبو ملحم، بيروت، مؤسسة عز الدين، ط1، 1994م. ص174-175. أيضا: الفارابي المعلم الثاني، عبده الحلو، ط2،، بيروت، بيت الحكمة، 1977. ص39.
[10] شرح حكمة الاشراق، شهرزوري، ط1، تهران، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، 1372 ﻫ ش ص4.
[11] انظر: المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربي، 1979م. المطابع الأميرية – القاهرة. ص14، 210-211.
[12] روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، إتيان جيلسون، تج إمام عبد الفتاح إمام، 1972م. مكتبة سعيد رأفت – القاهرة. ص21-22.
[13] عن ديكارت وأفكاره عن الحقيقة، راجع: مقال عن المنهج، ديكارت، تج محمود الخضيري، 1930م. المطبعة السلفية – القاهرة. ص51 وما بعدها. أيضا: ديكارت والعقلانية، جنفياف روديس لويس، تج عبده الحلو، ط4، 1988م. منشورات عويدات – بيروت باريس. ص30 وما بعدها.
[14] عن كانط وأفكاره، راجع: نقد العقل المحض، كانط، تج موسى وهبة، مركز الإنماء القومي – بيروت. المدخل، ص54 – 65. أيضا: كنط وفلسفته النظرية، محمود زيدان، ط3، 1979م. دار المعارف – القاهرة. ص51 – 72.
[15] اسس الفكر الفلسفي المعاصر، مصدر سابق، ص122.
[16] عن جون لوك وأفكاره، راجع: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ابراهيم مصطفى ابراهيم، لا ط، دار الوفاء – الاسكندرية. ص335.
[17] عن باركلي ونظرياته في انكار الجوهر المادي، انظر: فكرة الالوهية في فلسفة باركلي، فريال خليفة، ط1، 1997م. مكتبة الجندي – القاهرة. ص69.
[18] حول التجريبية الإنكليزية وسياقاتها اللاحقة، راجع: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ابراهيم مصطفى ابراهيم، لا ط، دار الوفاء – الاسكندرية. أيضا: الايديولوجية المقارنة، مصباح اليزدي، 2010م، دار الولاء – بيروت، الفصل السابع والثامن والتاسع.
[19] موقف من الميتافيزيقا، زكي نجيب محمود، ط4، 1993م، دار الشروق – القاهرة, ص3.
[20] إن القضايا الحقيقية قد تكون من المعقولات الماهوية كما قد تكون من المعقولات الفلسفية. انظر شرح المنظومة، مصدر سابق، ص139.
[21] ولو بالوجود الذهني؛ ذلك أن نفس الأمر يشمل الخارج العيني والداخل الذهني، باعتبار أن العلم بنفسه واقع عيني متحقق في الذهن.
[22] انظر: المشاعر، الشيرازي، ط1، 2000م، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت، ص47.

ha.ye.ba

الاثنين، 25 أكتوبر 2010

إشكالية الوصل والفصل بين التشيع والتصوف

في البحث عن علاقة التشيع بالتصوف، ينبغي أن نضع في الحسبان أن التصوف بحسب ما يفيدنا التاريخ لا يختص بمذهب دون غيره، فالشيعة منهم متصوفة ومنهم غير متصوفة، والمتصوفة فيهم الشيعة وفيهم غير الشيعة. وإذا كان المتصوفة من الشيعة هم قلة نسبة إلى المتصوفة السنة بحسب نقل المستشرق نيكلسون [1]، فذلك يرجع إلى اعتبارات تاريخية خاصة تحكمت بذاكرة التاريخ، واستحوذت على دلالات المصطلح المتعاقبة لمفهومي التشيع [2] والتصوف سلبا وإيجابا. ومهما يكن، ليس التصوف مذهبا من مذاهب السنة، كما ليس هو فرقة مستقلة عن سائر الفرق الإسلامية.
التصوف في نطاق التوظيف
تبدأ مرحلة التصوف بحسب الدراسات المتداولة عموما بحدود القرن الثاني الهجري، وتحديدا مع الحسن البصري بصورة خاصة، وهي تتجاهل في ذلك "صوفية" المرحلة الإسلامية المبكرة، بحجة أن لقب الصحابي غلب على لقب الصوفي أو بغير ذلك. ففي مرحلة ظهور الدعوة الإسلامية والتي تمتد خلال القرن الأول الهجري، كان التصوف مفعما بالمعنويات، مصطبغا بمنحى باطني عميق، مشتملا على الجهاد في سبيل الله، وكل ما يحمله العرفان من قيم ودلالات راقية. وأشخاص هذه المرحلة هم النبي (ص) نفسه، والأئمة (ع)، وجملة من الصحابة والخواص، من قبيل أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر والمقداد وكثير من الشخصيات العرفانية المبكرة والتي لم تتحدث المصادر عنها كثيرا، من أمثال مالك بن حارثة. وتمتد هذه المرحلة المهمَلة مع رشيد الهجري وأويس القرني وكميل بن زياد وبرير وحبيب بن مظاهر وأمثالهم، وقد تضمنت المصادر الروائية إشارات عن هؤلاء، كما في قصة همام الذي قضى نتيجة تأثره بوصف المتقين في خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ومنهم الربيع بن خثيم خال همام وأحد الزهاد الثمانية الذي صعق ووقع مغشيا عليه عندما سمع قوله تعالى: (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) فرقان / 12، ومنهم أويس القرني الذي شهق شهقة غاشية عندما سمع قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) الدخان / 40، وأمثال هؤلاء ممن عاشوا الروحانية الإسلامية العالية بما تلقوه من مولاهم علي بن أبي طالب (ع) كثيرون. وإذا تجاوزنا المراحل المتعاقبة لنمو التصوف بعيدا عن منازعات السلطة، وإن كان كثير من المتصوفة قد نالوا حظوظهم التي لا يحسدون عليها بفعل الاحتكاك بالسلطة ولو عرضا. فقد اكتسب التصوف طابعه المذهبي "السني" بصورته الكاملة في مرحلة الانتظام في الطرق والخوانق، وذلك بفعل عدة عوامل وأسباب سلطوية _ مذهبية تعود إلى زمن الأيوبيين والمماليك تحديدا. ومن هنا يذكر التاريخ أن الطرق الصوفية انتقلت من بلاد المغرب العربي إلى مصر وبلاد الشام ثم إلى العراق وفارس، وذلك بتشجيع من السلطان الأيوبي نفسه، فكانت للصوفية خانقاه "سعيد السعداء" التي دعمها صلاح الدين في القاهرة وكانت أول خانقاه أسست في مصر. يقول سميح عاطف الزين: "ومع اشتداد تيار الهجرة إلى مصر وفد إليها جماعة من هؤلاء الأعلام في طليعتهم عبد الرحيم القنائي وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري وأحمد البدوي وغيرهم". ونشأت أول طريقة صوفية في مصر في مدينة "قنا" أنشأها الشيخ عبد الرحيم القنائي الذي توفي بها عام (592 هـ). وخلال العهدين الأيوبي والمملوكي برزت الطرق الصوفية الأساسية، وأهمها: الشاذلية، القادرية، القلندرية، العيسوية، المولوية، النقشبندية. وكانت غاية السلطة المملوكية التي كانت مؤلفة من قادة عسكريين لا يمتون بصلة إلى عائلة الرسول (ص)، أن يفرضوا احترامهم على الناس فحصروا عددا كبيرا من المسلمين في أعمال وممارسات بعيدة عن السياسة وأعمال الدولة، ليأمنوا بذلك انتفاضات دينية أو معارضات سياسية تؤثر على حكمهم. ويقال أن عدد المتصوفة في عهد المماليك زاد على المائة ألف متصوف كانوا قابعين في خوانقهم بعيدين عن السياسة والسلطة الحاكمة. واعتنق المماليك فكرة "التصوف مقبرة السياسة". وذكر الدكتور عبد المنعم الحفني في كتابه (الموسوعة الصوفية) اسم مائة وإحدى وعشرين طريقة صوفية معظمها فروع عن الطرق الأساسية المذكورة، ومهما يكن فقد كان على رأس الأهداف المنشودة للترويج لمثل هذا التوجه هو إجراء غسل دماغ جماعي طال الأمة بأسرها لغايات متعلقة بالسلطة وان كان ذلك كله قد تم تحت ستار الدعوة إلى الدين والمذهب. وينبغي الإشارة إلى أن معظم الذين كتبوا في التصوف اعتبروا أن القرن التاسع الهجري تقريبا هو المرحلة الأخيرة من مراحل التصوف، فأهملوا بذلك المنحى العرفاني المتأخر والمتمثل بما أنتجته جهود الكثير من عرفاء مدرسة أصفهان وما تلاها. ومن الجدير بالذكر أن التصوف المذهبي في النطاق "الشيعي" ازدهر إبان الحكم الصفوي في إيران والذي اعتمد مذهب التشيع مذهبا رسميا للدولة، فقد شجعت الدولة الصفوية من انتشار هذا التيار، وان كان ذلك – بحسب المحللين في التاريخ - بدافع من العوامل التاريخية والإجتماعية والمذهبية. ومهما يكن فقد عملت هذه الدولة الفتية على جمع وحماية رجال الفكر وبخاصة أصحاب المنحى العرفاني منهم. وصادف المذهب الباطني في إيران تربة خصبة صالحة للنمو والإزدهار، ثم ما لبث أن أصابه الضمور والذبول أمام سلطان الفقه المتمادي آنذاك. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن التصوف لم يكن ليحظى بالرضا غالبا سواء على صعيد التشيع الرسمي أو التسنن كذلك، كما يتضح أن القطيعة الطارئة بين التشيع والتصوف يعود سببها إلى التوظيف السلطوي للتصوف في مناهضة التشيع ولاسباب سياسية غالبا، فالطرق الصوفية كانت قد انتشرت بفعل الترويج الدعائي المذهبي الذي افتعله السلطان لخدمة أهدافه، ومذاك كان التصوف يدعم مذهبا لصالح آخر [3]. وأدى بعد ذلك إلى حركة ارتدادية تجاه الشريعة تدعو إلى نبذ الظاهر واستباحة المحرمات، وعلى هذا الأساس اعتبر التشيع موقفا مؤسسا من التصوف عامة يمكن تلخيصه بأنه موقف أهل الشريعة التقليدي.
إشكالية الوصل
وفي مجال ترسيم العلاقة بين التشيع والتصوف، فإن وجهة النظر إلى التصوف كانت تتحكم بطبيعة العلاقة المرسومة بينهما، وحيث تكون النظرة الى التصوف سوداوية، فإنه يجري ربط التصوف بالتشيع ربطا مفتعلا يقوم على مجرد التشابه ولو في بعض الوجوه العابرة (الإمامة والقطبية، العصمة والحفظ، المهدوية، زيارة الأولياء..). نعم في المجال الذي لا تكون النظرة إلى التصوف سوداوية، يستبعد التشيع تماما عن مجالات البحث والمقارنة. وعليه، فقد عمدت الدراسات الأكثر تداولا إلى تصوير الحدث العلائقي بين التشيع والتصوف تصويرا مشبوها في الغالب،، فأساءت إلى المعايير العلمية والموضوعية في الوصل والربط على نحو كان الهدف موجّها منذ البدء الوجهة التي يرتئيها الكاتب والتي كثيرا ما كان يعتورها التبسيط في الطرح والسطحية في المعالجة والتشوّش في الرؤية بفعل المواقف الشخصية والدوافع الاستنسابية والتي كانت تتشكل على أساس خلفية الكاتب الذهنية وتظهر في حكمه على الأشياء بصورة مسبّقة. وهكذا يربط السراج الطوسي في كتابه "اللمع" علم الصوفية وخُلقهم بالإمام علي (ع)، متجاوزا في ذلك حقيقة أن الأئمة الإثني عشر - دون غيرهم - اختصوا بعلم لدني ناشئ من اختصاصهم بمهام خلافة الرسول (ص) في قيادة المسلمين دينيا ودنيويا، بينما يحصل المتصوفة علومهم بالكسب كسائر الناس، وهم بالدرجة الأولى أصحاب أحوال لا أصحاب علوم، والعلم اللدني الذي تزعمه الصوفية لأقطابها لا يضبطه عدد خاص. ومن جهة ثانية يربط عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته مفهوم القطب عند المتصوفة بمسألة الإمامة عند الشيعة، متجاوزا في ذلك المساحة التي تفصل بينهما ؛ فإن القطب عند الصوفية يتربع على مملكة باطنية اصطنعها المتصوفة، بينما الإمام عند الشيعة يقوم بتولي ورعاية أمور المسلمين السياسية والدينية كما كان للرسول (ص). ومن جهة ثالثة استغل أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" فكرة المهدوية موظفا لها في خدمة الفكر الصوفي، مع ما في ذلك من القفز فوق الحقائق والوقائع، لا اقل فان المهدوية ليست من اختصاص الشيعة بل هي عقيدة إسلامية يؤمن بها جميع المسلمين بلا تفاوت في اصل المعتقد. ومن جهة رابعة ذهب كامل مصطفى الشيبي في كتابه "الصلة بين التصوف والتشيع" إلى ربط التصوف بفكرة العصمة والشفاعة وزيارة قبور الأولياء عند الشيعة. متجاهلا حقيقة أن العصمة عند الشيعة وإن كان قد يقابلها الحفظ عند الصوفية، إلا أن أكثر الصوفية لا يعتقدون بالحفظ ولا بالقطب وإنما يكتفون بإتباع الشيوخ، فلا وجه لإطلاق القول بان الصوفية متأثرة بفكرة العصمة عند الشيعة. وهناك ما لا يحصى من التطفلات في هذا المجال، كدعوى المولوي سلامت علي الذي لما لم يتمكن من نفي دلالة حديث الغدير على الإمامة، حمل الإمامة المستفادة من هذا الحديث الشريف على إمامة التصوف، فقال ما تعريبه: " لا شك عند أهل السنة في إمامة أمير المؤمنين وان ذلك عين الإيمان، لكن ينبغي أن يكون مفاد أحاديث الغدير الإمامة المعنوية لا الخلافة، وهذا المعنى هو المستفاد من كلام أهل السنة وعلماء الصوفية، ومن هنا كانت بيعة جميع السلاسل منتهية إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعن طريقه تتصل برسول الثقلين " [4]. ومن الواضح أن هذا التأويل لا يمكن الركون إليه، وإلا فلو جاز تأويل حديث الغدير وحمله على الإمامة الباطنية لجاز تأويل ما يدل على نبوة رسول الإسلام وحملها على الرفعة - وهو المعنى اللغوي للفظ – وصرفها عما يفيد المعنى الاصطلاحي للنبوة والوحي، ومن الواضح بطلان ذلك. مضافا إلى أن الإمامة ظل الرسالة، ومبناها على الإظهار لا الإخفاء [5]. وعليه فهذه المحاولات وغيرها تستند في الربط بين التصوف والتشيع على مجرد التشابه العابر، وذلك من خلال العبث بالمفاهيم الخاصة بعيدا عن المعايير العلمية الموضوعية، إذ مجرد التشابه لا يجعل أحد الفريقين مرتبطا بالآخر هذا النحو من الارتباط، وإلا فلا تكاد تخلو المذاهب الإسلامية من تشابه مع غيرها من مذاهب الأديان الأخرى وذلك في تنويعاتها الكبرى وفي بعض الوجوه، ولكن لا ينبغي أن يفسّر ذلك بوجود ارتباط وتأثر فيما بينها بالضرورة كما لا يخفى على المنصف اللبيب. ومهما يكن، فإن هذه القنوات المفتعلة للربط المبتذل لا تنم عن ذكاء ونفاذ كبيرين في ذهنية أصحابها، تماما كما هو حال ما توحي به المعطيات الأكثر حداثة في هذا المجال والتي سيتم التعرض لها في مقالة لاحقة بإذنه تعالى، وإنما اكتفيت هنا بترديد هذه المقولات التقليدية من باب الإشارة والتمهيد لا أكثر.
إشكالية الفصل
وكما وقع اللغط على مستوى الربط بين التصوف والتشيع، وقع أيضا على مستوى الفصل بينهما، فقد ذهب البعض إلى الفصل بين التشيع والتصوف على أساس موقف الأئمة (ع) الرافض للتصوف، مستندا في ذلك إلى الرصيد الكبير من بياناتهم (ع) التي يتجلى فيها موقف الرفض للتصوف بوضوح، وهذه الروايات عديدة، نذكر منها على سبيل المثال: ما روي عن الإمام الصادق (ع) حين سئل عن قوم ظهروا في زمانه يقال لهم (صوفية) قال (ع): "إنهم أعداؤنا، فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم، وسيكون أقوام يدعون حبنا ويميلون إليهم ويتشبهون بهم ويلقبون أنفسهم بلقبهم وأقوالهم، ألا فمن مال إليهم فليس منا، وأنا منه براء ومن تنكر لهم ورد عليهم، كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله" [6]. وما روي عن الإمام أبي الحسن العسكري (ع) أنه قال: "سئل أبو عبد الله الصادق (ع) عن حال أبي هشام الكوفي، فقال: انه كان فاسد العقيدة جدا، وهو الذي ابتدع مذهبا يقال له: التصوف، وجعله مقرا لعقيدته الخبيثة، وأكثر الملاحدة، وجنة لعقائدهم الباطلة". وأبو هشام هو أول من عرف بلقب الصوفي [7]. وما روي عن الإمام الرضا (ع) قوله: "لا يقول بالتصوف أحد إلا لخدعة أو ضلالة وحماقة" [8]. وما روي أن قوما من المتصوفة دخلوا بخراسان على علي بن موسى الرضا (ع) فقالوا له: إن أمير المؤمنين (ع) فكّر فيما ولاه الله من الأمور، فرآكم أهل بمن أولى أن تؤموا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس، فرأى أن يرد هذا الأمر إليك، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض. فقال لهم الرضا (ع): إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج المزردة بالذهب، ويجلس على متكآت آل فرعون ويحكم، إنما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد صدق. إن الله لم يحرم لبوسا ولا مطعما، ثم قرأ: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق)" [9]. وما روي من أن الإمام علي الهادي (ع) كان جالسا في مسجد رسول الله (ص) إذ أتاه جماعة من أصحابه ثم دخل جماعة من الصوفية وجلسوا في جانب المسجد مستديرين واخذوا بالتهليل فقال الإمام الهادي (ع): "لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين فإنهم الشياطين، فخربوا قواعد الدين يتزهدون لراحة الأجسام ويتهجدون لتصيد الأنعام ويتجوعون عمرا حتى يرخوا الأركان حمرا، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا لمنع العساس واختلاس قلب الدفناس (الغبي) ويتكلمون بإملائهم في الحب ويطرحونهم بإدلائهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة أحد منهم حيا أو ميتا فكأنما أعان (يزيد ومعاوية وأبا سفيان). فقال له رجل من أصحابه: وان كان معترفا بحقوقكم، فنظر إليه شبه المغضب وقال: دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنهم أخس طوائف الأمة، أولئك الذين يجهدون في إطفاء نور الله، والله يتم نوره ولو كره الكافرون" [10]. وما روي عن الإمام الحسن العسكري (ع) انه قال لأبي هشام الجعفي: يا أبا هشام، سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة، قلوبهم مظلمة منكدرة، السنة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سنة، المؤمن بينهم محقر، والفاسق بينهم موقر، أمراؤهم جائرون علماؤهم في أبواب الظلمة سائرون، أغنياؤهم يسرقون زاد فقرائهم، وأصاغرهم يعتدون على الكبراء، كل جاهل عندهم خبير، وكل محيل عندهم فقير، لا يميزون بين المخلص والمرتاب، ولا يعرفون الضأن من الذئاب، علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض، لأنهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف، وايم الله: إنهم من أهل العدوان والتحرف، يبالغون في حب مخالفينا، ويضلون شيعتنا وموالينا" [11]. بل نقل عن رسول الله (ص) في وصيته لأبي ذر الغفاري أنه قال: "يا أبا ذر يكون في آخر الزمان قوم يلبسون الصوف في صيفهم وشتائهم يرون أن لهم الفضل بذلك على غيرهم، أولئك يلعنهم ملائكة السماوات والأرض" [12]. وهذه الروايات لا تتم من جهة الدلالة على المقصود بتوجيه الدلالة وجهة نبذ التصوف بالمطلق، أما إذا كان المراد منها نبذ السلوكيات المنحرفة في عالم التصوف والتي كانت سائدة زمن الأئمة (ع) وما بعدهم، فإنها حينئذ تكون واردة على نحو القضية الخارجية لا الحقيقية كما قد يستفاد من القرائن المحتفة بها. ونتلمس ذلك بوضوح في كلمات الإمام الصادق (ع) التي تنبض بصراحة تامة في مناهضة التصوف، وذلك نظرا "لطبيعة التطور الذي حدث للتصوف في ذلك العصر حيث تحول على عهده إلى فئة اجتماعية بل ومذهب فلسفي" [13]. وإذا انتقلنا من الناحية الروائية إلى الناحية التاريخية، نجد كثرة وافرة من كتب ومصنفات شيعية كتبت بعنوان "الرد على الصوفية" ونحو ذلك. وهي لا تبتعد عن التوجيه المتقدم، وإلا فلو تأملنا في المرحلة التاريخية الأولى لظهور التصوف نجد أن التصوف في نشأته قد تمثل بالنبي (ص) والأئمة (ع) وبالشخصيات الشيعية من الطراز الأول. وقد تقدم أن التشيع وقف بوجه التصوف الآخذ في الانحراف بفعل الاستخدام السلطوي له، لا مطلق التصوف.
بين التصوف والعرفان
يصر الكثيرون على إجراء فصل بين التصوف والعرفان، بحيث ترجع التفرقة إلى أسباب خارجية أو داخلية، وجملة الأقوال في المسألة هي إرجاع الفرق بينهما تارة إلى أسباب قومية، كالفارق بين أهل إيران وغيرهم. وتارة أخرى إلى أسباب مذهبية، كالفارق بين الشيعة والسنة تارة أخرى. وثالثة على أساس أن العرفان يختص بالناحية الفكرية، بينما التصوف يختص بالناحية الاجتماعية. ورابعة على أساس أن العرفان نظري قائم على الفكر والكشف الإشراقي، أما التصوف فعملي قائم على التصفية وإتباع الطريقة. وخامسة على أساس أن الصوفي هو السالك الذي يعمل في نطاق التخلية والتحلية، والعارف هو الواصل الذي تجاوز الطريقة إلى الحقيقة، فالعرفان هنا ليس نفيا للتصوف وإنما هو استكمال. وسادسة على أساس أن العرفان يشكل تصويبا ونقدا لمسار تاريخي وعقيدي وسلوكي أصيبت به الحركة الصوفية. ويتضح - سيما على الرأي الأخير - أن التصوف والعرفان يقتبسان من مصدر واحد، والعرفان ليس علما مستقلا عن التصوف ومختلفا عنه، بل هو محاولة للعودة بالتصوف إلى أصالته التي تتمثل بالصفاء الفطري والنقاء الوجداني كما دعت إليه الأديان. ويعود السبب في تغيير الاسم من التصوف إلى العرفان إلى التداعيات السياسية والفكرية التي حصلت في العهد الصفوي، فكان من شأن هذه التداعيات أن أزرت بالمتصوفة وأفكارهم التي لازمها الابتذال على جميع الصعد وبالأخص التحلل من قيود الشريعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - استنادا إلى ما اشتهر عن عبد الله الأنصاري من أنه: كان من ألفي شيخ صوفي عرفتهم شيعيان اثنان أو أكثر.
[2] - ينبغي أن نأخذ بعين الإعتبار مثلا أن التشيع كان يطلق على محبي أمير المؤمنين (ع) ولو لم يكن هؤلاء معتقدين بأصول المذهب، في حين كان يعتبر المعتقد بأصول المذهب رافضيا، هذا في الذهنية العامة.
[3] - ولا يمنع من ذلك ظهور بعض الطرق المنسوبة للتشيع ولو في نطاق ضيق جدا كالطريقة النوربخشية الشيعية الطابع.
[4] - التبصرة، للمولوي سلامت علي الهندي. راجع: خلاصة عبقات الأنوار، السيد حامد النقوي، ج9، ص319.
[5] - خلاصة عبقات الأنوار، ج9، ص319.
[6] - مستدرك الوسائل للميرزا النوري ج12 ص323. سفينة البحار، ج2، ص57.
[7] - سفينة البحار، ج2، ص57.
[8] - م. ن.
[9] - م. ن. ص120/121.
[10] - م. ن. ص58.
[11] - م. ن.
[12] - م. ن. ص57.
[13] - العرفان الإسلامي، محمد تقي المدرسي، دار البيان العربي، ص187.

ha.ye.ba