السبت، 23 أكتوبر 2010

ملاحظات حول مفهوم مقارنة الأديان

تعتبر معرفة أديان الأمم ومذاهبها من الإختصاصات العلمية الحديثة التي تحظى بأهمية بالغة في المعاهد العلمية الحديثة، وهي تعني بالدرجة الأولى المعاهد الدينية التي لا يمكن أن تنأى بنفسها عن معترك الحياة طالما أن الوسط الذي تؤدي فيه وظيفتها هو الإنسان نفسه. وفي زمن تختصر فيه المسافات بين الأمم والشعوب بفعل عوامل الإتصال المتعددة تغدو الحاجة ضرورية للتعرف على ثقافات وأديان الأمم الأخرى، والتواصل معها. هي مهمة تستوجب منا جهدا مكثفا لجهة التعريف بالإسلام وثقافته، قال تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ن أكرمكم عند الله أتقاكم). وقد بذلت جهود كبيرة على مستوى الدراسات المعاصرة في البحث عن منشأ الأديان وتطورها لدى الشعوب البدائية والمتمدنة، وطالت هذه الدراسات الأسس التي ترتكز إليها الأديان المختلفة والعلاقات القائمة بينها، والغايات التي تهدف إليها، كما سعت هذه الدراسات إلى إبراز الخصائص والمميزات التي تتمتع بها الأديان المختلفة بهدف تبيّن أوجه الإتفاق والإختلاف والموازنة بينها. وبذلك تأسس علم الأديان بفروعه المعرفية المختلفة والتي تتركز حول معرفة تاريخ الأديان، وفلسفة الدين، ومقارنة الأديان. ومهما كانت طبيعة النتائج المترتبة على مثل هذه الدراسات فإن هذا لا يعفينا من مسؤولية التعارف بين الأمم والشعوب التي دعا إليها الإسلام وحث عليها القرآن بغية إيجاد علاقات متينة وروابط قوية بين البشر تقوم على أساس من العدل والإنصاف والحق.
*    *    *
إن ما ذكرته المعاجم اللغوية لكلمة الدين من معان، إنما يكشف عن وجوه الإستعمالات المتشعبة لهذه الكلمة دون أن تسعفنا بمفهومها الأصلي الذي انبثقت منه. فهذه الكلمة أشبه بشجرة ذات أفنان متشعبة، تمتد بجذورها إلى باطن الأرض، ولا تتكشف إلا بعد الحفر والبحث بغية الوصول إلى منبتها الأصلي. ويبدو أن الجذر المعنوي لهذه الكلمة يرجع إلى الإتّباع والإنقياد الذي يفترض بدوره علاقة ثنائية يمثل الإنسان – في الأديان السماوية – أحد طرفيها ويمثل الخالق الطرف الآخرمنها، ويشكل الإنسان محور النظر فيها، فباعتبار التزامه بهذا الإنقياد يفسّر الدين بالخضوع والورع والطاعة والعبادة.. وباعتبار إلزامه بهذا الإنقياد يفسر الدين بالملك والحكم والتدبير والقهر والحساب والجزاء.. وحيث أن الإلزام والإلتزام لا يقعان في الفراغ، فلا بد من مبدأ يلتزم به أو يلزم به لكي يحصل الإنقياد، وباعتبار هذا المبدأ يكون معنى الدين هو المذهب والملة والطريقة والعادة والسيرة والشريعة والعقيدة. وعلى هذا، ترجع جميع استعمالات كلمة الدين إلى هذه المعاني الثلاثة، إلا أن ما يثير فضول الباحث في علم الأديان وتاريخه هو المعنى الأول والأخير، أي أنه يدرس الدين بصفته ظاهرة نفسية يلتزمها الإنسان ويتقيد بشروطها ويمارسها في حياته ويُطلَق عليه لأجلها أنه متدين. كما أنه يبدي اهتماما أكبر بالدين بصفته الخارجية التي تتمثل في الطقوس والشعائر وأماكن العبادة والكتب المنزلة وكل ما من شأنه أن يدخل في نظام الملة من مقدسات تدين بها أمة من الأمم. والباحث في الأديان حين يقوم بدراسة الظاهرة الدينية في بعديها النفسي والخارجي، لا يعنيه ما تختزنه هذه الظاهرة من حق أو باطل طالما أن الدين كظاهرة نفسية أو اجتماعية لا يقتصرعلى ما هو حق بالضرورة، بل ينصرف بنحو كلي أو جزئي عن إطلاق أحكام من قبيل: (الحق / الباطل، الصواب / الخطأ). ويكاد يحصر نشاطه في المجال التوصيفي للظاهرة الدينية المنظورة في نطاق بعدها التاريخي والنفسي. ولذلك فهو يدخل في اعتباره كل الأديان من بدائية وشرقية وأديان بديلة وما اشبه ذلك. وهذا الإطلاق لكلمة الدين ينسجم مع المعنى اللغوي المتقدم، كما ينسجم مع المعنى الإستعمالي الوارد في القرآن الكريم: (لكم دينكم ولي دين). ونحن وإن قيدنا العلاقة الثنائية بالعلاقة القائمة بين الإنسان وبين الخالق، إلا أنه من باب التمثيل لا الحصر، ومع ذلك نجد في كثير من التعريفات الرسمية لكلمة الدين ما يشير إلى الحق ونفي الباطل، خصوصا لدى الإسلاميين، ولأجل ذلك اختلفت تعريفات الباحثين في الدين تبعا لاختلاف أنظارهم في المسألة، فالدين كما يعرّفه صاحب الكشاف هو " وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل " [1]. وبحسب تعريف الجرجاني هو " وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول " [2]. ويقصدون هنا تعريف الدين الصحيح فحسب. وإذا أخذنا في المقابل بتعريف ريفيل للدين في كتابه "مقدمة تاريخ الأديان" بأنه: "هو توجيه الإنسان سلوكه، وفقا لشعوره بصلة بين روحه وبين روح خفية، يعترف لها بالسلطان عليه وعلى سائر العالم، ويطيب له أن يشعر باتصاله بها". وأخذنا أيضا بتعريف دوركهايم للدين في مقالته " الحياة الدينية في أشكالها الأولية" بأنه: " منظومة متماسكة من الإعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة، اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية تسمى الملة". نجد أنهما لم يقتصرا في تعريفهما على الدين الصحيح فحسب، وما ذلك إلا لأن التعريف الأول ناظر إلى البعد النفسي في الظاهرة الدينية، بينما التعريف الثاني ناظر إلى البعد الإجتماعي فيها. وهما يعرّفان الدين بصفته حقيقة نفسية أو خارجية ليس من شأنها أن تتصف أو تقتصر على ما هو حق وصحيح في ذاته بالضرورة. وعليه فلا ينبغي الخلط بين هذه التعريفات للدين والناشئة من اختلاف أنظار الباحثين فيه، كل حسب اختصاصه ومجاله. وأيضا اختلاف الأسس التي ينطلق منها الباحث في بحثه والغايات التي يسعى إلى تحقيقها.
*    *    *
تحدث القرآن الكريم عن الأديان المختلفة والملل والنحل، وفصّل مقالات اليهود والنصارى واعتقاداتهم، وعرض لمقالة الملاحدة الدهريين، ولم يفرق في ذلك بين الديانات، سماوية كانت أو وضعية، معتبرا أن كل ما عدا الإسلام فهو باطل. وكتب الكثير من علماء الإسلام – بوحي من القرآن – في مجال مقارنة الأديان، كالنوبختي في كتاب "الآراء والديانات"، والمسعودي، وابن خلدون، والبيروني، وأبو منصور البغدادي (429 هـ) في كتابيه "الملل والنحل" و"الفرق بين الفرق"، والشهرستاني (548 هـ) في كتابه "الملل والنحل"، وأبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين"، والجاحظ والكندي في الرد على النصارى..وكتب غيرهم الكثير في هذا المجال، إلا أن ما يجمع هذه الدراسات على اختلافها وتنوعها هو أنهما تنطلق من نزعة اعتقادية تتمحور حول الإسلام كملّة (إن الدين عند الله الإسلام) وحول مذهب معين لا تعدوه بصفته ممثلا للفرقة الناجية. فهي رؤى تعبر عن انتماءات معينة في الأديان وتنطلق من داخل آليات الدين نفسه، وتسعى لإطلاق أحكام انتقادية على أساس الحق والباطل، وبنظر هؤلاء لا ضير في ذلك طالما أن الإسلام شريعة عالمية خالدة، وأن قوانينه لم تبنى على أعراف قوم دون قوم، بل هي قائمة على مبدأ الفطرة الذي يشترك فيه جميع البشر في إي زمان كانوا وإلى أي فئة انتموا. مقابل هذه النزعة الإعتقادية، ثمة نزعة جديدة تسبغ على نفسها صفة "العلمية" باعتبارها تنطلق من وجهات نظر متعددة مستقاة من علم النفس والإجتماع والفلسفة والتاريخ، ويعبر عن هذه الوجهة بـ"علم الأديان" وهو علم يهدف إلى دراسة الأديان وتاريخها بهدف فهم الإنسان، ويسعى بذلك إلى تجاوز النظرة القديمة التي كانت تهدف من وراء دراسة الدين إلى معرفة الله والعالم والكون. يقول فان درلوو: "إن ما هو موضوع في نظر الدين يصبح هو المحمول في دراسة علم الأديان، فالله هو الذي يعمل في نظر الدين بالنسبة إلى الإنسان، أما العلم فإنه لا يعرف إلا عمل الإنسان بالنسبة إلى الله" [3]. وصفوة القول أن دراسة الدين من وجهة نظر العلوم الإنسانية، تعني ملاحظته في نطاق مجرى التاريخ (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة) والشعور النفسي، ونظم الإجتماع وهو ما يعبر عنه بالنزعة العلمية حيث يغدو الدين على أبعد الإحتمالات (وضعا إنسانيا) بعد أن كان ينظر إليه في النزعة الإعتقادية على أنه (وضع إلهي). ومن الطبيعي أن النظر إلى الدين من هذه الزاوية ينطلق من خارج آليات الدين لا من داخلها، ويهدف إلى توصيف الظاهرة الدينية بعيدا عن الحكم عليها بميزان الصواب والخطأ. إن دراسة الأديان التوحيدية والوضعية الغابرة والحاضرة من منظور واحد بغية اكتشاف أوجه التشابه والتباين بينها، وعدم استصدار أحكام كلية حولها، ومن ثم توصيف الخبرة الدينية على أساس اختبار الإنسان للشأن المقدس – أيا كان هذا المقدس – بما يعنيه ذلك من محورية الإنسان في أبعاده النفسية والإجتماعية والتاريخية، كلها عوامل من شأنها أن تثير حفيظة ممثلي الأديان وتستدعي تحفظهم إزاء ما يمكن أن يصدر عن هذه الدراسات من نتائج، ومن ثم يمكن أن ينظر إلى هذا العلم بوصفه «وافدا» ومن خلال نزعة عقائدية ترفض أن يطرح على صعيد واحد ما هو حقيقة دينية وما هو ليس كذلك، إذ من شأن ذلك أن يضع "الظاهرة الدينية" داخل دائرة الإستفهام، ومن ثم تختزل هذه الظاهرة إلى وضع نفسي يمكن تفكيك رموزه على أساس الشعور العميق بالتبعية أو الخوف أو العقدة الجنسية أو الإحساس بالمطلق. وقد تختزل الظاهرة الدينية إلى مجرد إسقاط اجتماعي باعتبار أن الدين لا يعدو كونه ضرورة اجتماعية وتمثلا يتكيف مع نمط المجتمع الذي ينتشر فيه، الأمر الذي روجت له المدرسة الإجتماعية الفرنسية وعلى رأسها "دوركهايم". وقد تختزل الظاهرة الدينية إلى ظاهرة تاريخية مشروطة بحيث لا تتجلى إلا من خلال أوضاع اجتماعية واقتصادية ونفسانية، مما يعني أن لا وجود لظاهرة دينية خالصة ونقية، بل هناك أنماط تاريخية يتجلى فيها الدين (قبلية، نياسية، قومية..).
*    *    *
إن ما قصدنا إليه – من خلال ما تقدم – هو الإلمام بالأعباء الثقيلة التي يتحمّلها الباحث المقارن نتيجة الخلط بين الرؤى، وتباين وجهات النظر، والتعقيد الحاصل في هذا الموضوع. فمما لا شك فيه أن الباحث المقارن سوف تعترضه جملة من العقبات، لا أقل من جهة إصدار تعميمات على مستوى نتائج دراسته لدين معين، طالما أن هذا الدين لا يشكل مرجعية نهائية لأتباعه إلا في نطاق الرؤى والمذاهب المختلفة. والإحاطة الكاملة بكافة المذاهب والإتجاهات داخل دين معين، هو اختصاص لا يكاد يتيسرلأحد. يضاف إلى ذلك ان نتائج البحث المقارن سوف تتأثر حكما بما تتبناه الأديان نفسها من مفاهيم وبنى تشكل الأرضية التي تجري عليها المقارنة، وسوف لن تكون هذه البنى والمفاهيم أسهل تناولا وأقرب منالا للباحث المقارن من المقارنة نفسها، مما يجعل بحثه أكثر عرضة للإخفاق، وهي صعوبات ينبغي أن يدخلها في حسبانه أثناء أدائه لمهمته. ثم أنه يمكن التساؤل عن المادة الأساسية موضوع المقارنة: هل هي المعطيات الدينية التي توصل إليها أتباع ديانة معينة، أو مذهب معين، في فترة زمنية محددة؟ أم هي النصوص الأولية التي تتضمنها الكتب المقدسة؟ ونلاحظ في هذا المجال نماذج كثيرة انصب البحث فيها على المعطى الأخير لدين ما مقارنة بالأصول الأولية لدين آخر. أو تمت معالجة موضوع ديني بطريقة معينة لا تمت بصلة إلى طريقة التفكير المتبعة داخل هذا الدين موضوع المعالجة. وهذه العراقيل تضع أمام الباحث المقارن أعباء إضافية ينبغي أن تؤخذ - من قبله - بعين الاعتبار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ص 503.
[2] الجرجاني، التعريفات، ص 94.
[3] فان درلوو: الدين في ذاته وفي ظواهره، نقلا عن كتاب "علم الأديان وبنية الفكر الاسلامي" المستشرق جيب، منشورات عويدات.
ha.ye.ba

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق